Take a fresh look at your lifestyle.

أهداف الغزو الفكري والتبشيري في المجتمع الإسلامي

0 937

     الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى على محمد وآله الطاهرين إن في العالم حضارتين إحداهما حضارة الإسلام التوحيدية التي لها فلسفتها وأصولها وقيمها ومنظومتها الحقوقية ومسارها التاريخي.
والأخرىٰ حضارة الغرب التي بدأت حضارة عقلائية وضعية (اليونانية) القديمة وحضارة المسيحية الكاثوليكية الإسكولانية ثم حضارة التنوير البروتستانتية، ثم فكر التحديث وما بعد الحداثة، ولكل حضارة مسلكها ومسارها.
وبين الحضارتين مراحل من الصدام الفكري من الفتوحات إلىٰ الحروب الصليبية إلىٰ الغزو الاستعماري الغربي الحديث.
يقول أليكسي جوارفسكي: (ومن المفيد الإشارة إلىٰ أن المجابهة العسكرية السياسية بين هاتين الديانتين – أو قل بين هاتين الحضارتين – منذ بدء ظهورهما المتجاور ووصولًا إلىٰ القرن العشرين كانت (تلك المجابهة) هي الطابع المسيطر علىٰ علاقاتهما الأخرىٰ، بما في ذلك العلاقات الدينية – الآيديولوجية – ويضيف – وبودنا التأكيد في هذا السياق أن ترسيخ الإسلام وتوطيد أركانه العقائدية في سوريا، ومصر، وشمال أفريقية سحبا من المسيحية النصف الغني بثروته من المجال الجغرافي الحضاري لشاطئ البحرالمتوسط)(1).
فكان أن اقترن مع الغزو الاستعماري الثائر غزو فكري يهاجم القيم الإسلامية والتجربة التاريخية والتشريعات الإسلامية، تشويهًا في وعي الإنسان المسلم عن تراثه وتاريخه.
ومن هنا تظهر خطورة الغزو علىٰ الأمن العقائدي الإسلامي.
ولتعاظم خطورة الغزو الفكري بأنواعه، تتعاظم الاحترازات ضده، فتقع جدلية التأثر والتأثير، والأمر بين الأمرين، بعد أن نستعرض أهداف هذا الغزو، وسنقتصر في هذا المبحث علىٰ الغزو التبشيري(2)، إذ هو الأساس والنواة لسائر ألوان الغزو الفكري بتنوع عنواناته وسنقف علىٰ أهداف الغزو التبشيري، وأهداف مؤتمراته، وضوابط الاقتباس عن الغرب، وطبيعته في الواقع الإسلامي المعاصر، وهي علىٰ النحو الآتي:
أولًا: تشويه العقيدة ومحاولة إضعافها والتشكيك فيها:
من أجل القضاء علىٰ وحدة المسلمين، فقد أدرك المستعمرون ومن يقف وراءهم من المبشرين وغيرهم أن العقبة التي تهدد كياناتهم وتعيق استعمارهم للأقطار العربية والإسلامية هي: الإسلام، وقد صرّح بهذه الحقيقة أكثر المبشرين، يقول مكسيم رودنسن: (يمثل المسلمون خطرًا علىٰ المسيحية الغربية قبل أن يصبحوا مشكلة)(3)،

ومنهم المبشر الأمريكي، لورانس براون، حيث قال: (إن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قدرته علىٰ التوسع والإخضاع وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي)(4).
وبذلك نستطيع أن نقول: إن المبشرين قد أدركوا أن القضاء علىٰ الإسلام سيمهد لهم مهمتهم ويحقق لهم غاياتهم، إذ إن الإسلام هو الخطر الحقيقي الذي يقف أمامهم ويمنعهم من تحقيق أهدافهم، لأنه يرفض الاستعباد، ويأبىٰ تسلط الأجنبي علىٰ أهله، لذا كانت غاياتهم القضاء علىٰ الإسلام لما يمتاز به من الحيوية والسماحة والاندفاع الذاتي، وإبقائه حبيساً في ضمير الفرد لايتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه(5).
وقد أدرك المبشرون أهمية القضاء علىٰ كل هذه الخصائص، خُصوصاً بعد فشلهم في تنصير المسلمين، إذ يقول المبشر الأمريكي(زويمر): (لقد جربت الدعوة إلىٰ النصرانية في أنحاء كثيرة من الوطن الإسلامي، وإن تجاربي تخولني أن أعلن أن الطريقة التي سرنا عليها لا توصلنا إلىٰ الغاية التي ننشدها)(6).

فكان أن وجد المبشرون أن أسهل الطرق هو غزو الإسلام بشن حرب باردة تقوم علىٰ زعزعة العقيدة والتشكيك فيها، فشنوا الافتراءات والأكاذيب علىٰ الإسلام ونبيه محمد (صلى الله عليه وآله)، فقالوا: إن القرآن نزل قبل أربعة عشر قرناً واستنفد أغراضه ولا يصلح منه شيء للتطبيق في القرن العشرين لأنه لا يتفق مع العلم والتطور العلمي(7)، وإن الإسلام دين غير إنساني وغير قادر علىٰ التطور، وهو دين غير خلّاق وغير علمي واستبدادي(8)،كما أنهم قد روجوا أفكاراً الحادية تدعوا إلىٰ ضرورة (تطوير القرآن)وإعادة تفسيره ليتفق مع متطلبات الحضارة الغربية(9).
فيما يخص رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد قال عنه المبشر الإنكليزي – أديسون- (محمد لم يستطع فهم النصرانية، ولذلك لم يكن في خياله منها إلّا صورة مشوهة بنىٰ عليها دينه الذي جاء به إلىٰ العرب)(10).
وفي وصف المسلمين، يقول المبشر الأمريكي ـ هنري جسب ـ : (المسلمون لا يفهمون الأديان ولا يقدرون قدرها…إنهم لصوص وقتلة ومتأخرون وإن التبشير سيعمل علىٰ تمدينهم)(11).
وعلىٰ كل الأحوال عمد المبشرون إلىٰ إثارة الدعوات الهدامة، فتحدثوا عن العداء المستحكم بين السنة والشيعة، والعرب والأكراد، وتحدثوا عن الإسلام في العراق وفي السعودية، وكأن الإسلام مختلف باختلاف البلاد والجهات(12).
إن كل هذه الافتراءات(13) الرامية إلىٰ تصدع العقيدة في نفوس المسلمين، أو تشويهها عند غيرهم واضحة البطلان فهي لا تستند إلىٰ أي دليل نابع من صميم العقيدة وآثارها، وهي لا تشمل بحال مفاهيم الفكر الإسلامي(14).

ثانياً: تشويه الثقافة الإسلامية والتراث العربي الإسلامي:
لقد أدرك كثير من المبشرين والمستعمرين – ما لم يدركه بعض أبناء الأمة الإسلامية – عظمة الثقافة الإسلامية وانها مصدر عزّة الشرق والعرب والمسلمين وأيقنوا أن الأمة التي لها هذه الثقافة لا يمكن أن تخضع أو تذل أو تبيد، لذلك صمموا علىٰ (خلق جيل من أبناء الأمة العربية والإسلامية مؤمن بثقافتهم، معجب بكل ما هو أجنبي، ليعمل ضمن إطار تحركاتهم وتوجيهاتهم بإفساد عقولهم وإبقائها متخلفة)(15)، من أجل هذا عمل التبشير في مجال التعليم علىٰ فرض ثقافة الغرب وتاريخه ولغته، وإقصاء لغة العرب المسلمين وثقافتهم وتاريخهم الإسلامي لعزل هذه الأمة عن ثقافتها وذاتيتها ومزاجها النفسي والحيلولة دون يقظة الأمة الإسلامية.
ونلحظ أن سبب ذلك هو استبقاؤها منطقة نفوذ سياسية واقتصادية وعسكرية له. يقول المبشر – صمويل زويمر: (إن أهم عمل لإخضاع العرب والمسلمين لا يتم عن طريق الجيوش والاحتلال، وإنما يتم عن طريق الثقافة والدين بإخضاع المسلمين للثقافة الغربية، وذلك ينزع منهم أبرز ما في الإسلام من علامات القوة والجهاد والمقاومة والوحدة، لذلك فإن علينا أن نضمن مناهج التعليم والثقافة، ما يؤدي إلىٰ هذا الاتجاه علىٰ أن يُنفذ ذلك بدقة ومرونة وعلىٰ آماد طويلة، وأن نقيم معاهد ومدارس تجذب المسلمين إليها، حيث يتعلمون فيها كيف يعجبون بأوربا وأفكارها وعظمائها، وبذلك سيتحول ميزان النفسية الإسلامية والعقلية العربية من المقاومة والجهاد والخصومة إلىٰ التقبل والولاء والإعجاب)(16).

وهو ما يؤكده المبشر (زويمر)، من أن الهدف من التبشير هو تحويل المسلمين عن التمسك بدينهم، حيث يقول في ذلك: (قد نجحنا نجاحًا باهرًا عن طريق مدارسنا الخاصة، وعن طريق المدارس الحكومية التي تتبع مناهجنا)(17).
ولهذا استغل المبشرون المدارس لإلقاء بذور الشك في نفوس النشء المسلم وإفساد عقيدتهم، وإن الإسلام رجعي ومصدر تخلف المسلمين(18)، وكان اهتمامهم خاصة بالفتاة المسلمة من أجل تحطيم الأسرة والقضاء علىٰ الجيل الذي تنشئه، إذ (لا يمكن للرجل قهرها، لأنه سهل علىٰ المرأة والحالة هذه أن تؤثر علىٰ إحساس زوجها وعقيدته فتبعده عن الإسلام وتربي أولادها علىٰ غير دين أبيهم)(19).

ثالثاً: إخراج العرب والمسلمين عن إسلامهم، وإبعادهم عن قيمهم التي تدفعهم إلىٰ الحرية:
إن الهدف من الغزو الفكري الغربي لا يخرج عن دائرة ما يريد الاستعمار تحقيقه، فإذا (ما تمكن المستعمر من إذابة المسلمين والعرب في بوتقة العالمية وصهرهم في الثقافة العامة،وإخراجهم من ثقافتهم وقيمهم لم يعد هناك مجال لتشكلهم بصورة خاصة، بصورة الذات والشخصية الخاصة، عندئذٍ تصبح الحضارة الغربية قد حققت أكبر انتصاراتها بإحالة المسلمين والعرب إلىٰ عبيد،إذ يسود الجنس الأبيض الغربي صانع الحضارة..) (20).
وقد أجمعت خطط المبشرين ودراستهم وأبحاث مؤتمراتهم(21) علىٰ أن الهدف من التبشير هو إنشاء عقلية عامة تحتقر كل مقومات الفكر الإسلامي، والعمل على إبعاد كل العناصر التي تمثل الإسلام عن مراكز التوجيه، وإذا لم تنجح دعوة التبشير في إدخال المسلمين في دين جديد فلا أقل من أنها تكون قد أخرجتهم من الإسلام(22).

وأدركوا قوة المقومات التي تسند إليها عقيدة المسلم، فأقروا أنه لا يمكن تحقيق الهدف (ما دام هناك لغة واحدة يتكلمها العرب والمسلمون ويعبرون بها عن آرائهم، وما دام هناك حرف عربي يربط حاضر المسلمين بتراثهم الماضي)(23).
ومن أجل ذلك أثاروا الشبهات والاتهامات حول لغتنا العربية، وأشاعوا فكرة الدعوة إلىٰ الكتابة بالعامية بدل الفصحى بحجة أن الفصحىٰ لا تستعمل في الحياة العامة، إن هذه الدعوىٰ ظاهرة البطلان لأنها في حقيقتها تستهدف محاربة الإسلام وسلب مقوماته، ذلك بأن اللغة العربية الفصحىٰ هي لغة القرآن الكريم، فضلًا عن أنها اللغة الوحيدة التي يعبر بها أهل العربية في جميع أقطارهم في مجال العلوم والآداب والفنون(24).

والحقيقة أن الغرب قد احتفظ بالحنين إلىٰ تلك الحروب الشرسة فهي ما تزال حيّة في نفسه، يقول القس اليسوعي – مييز – في معرض كلامه عن سياسة فرنسا الدينية في الشرق: (إن الحرب الصليبية الهادئة التي بدأها مبشرونا في القرن السابع عشر لا تزال مستمرة إلىٰ أيامنا هذه، ولقد احتفظت فرنسا طويلًا بروح الحرب الصليبية وبالحنين إلىٰ تلك الحروب (وما تزال) حيّة في نفسها)(25).

وبعد استيلاء إسرائيل علىٰ القدس في حرب 1967 كتب راندولف تشرشل عن حرب الأيام الستة، فقال: (إن إخراج القدس من سيطرة الإسلام هو حلم المسيحيين واليهود علىٰ السواء)(26).
وتؤكد – مارجريت تاتشر – رئيسة وزراء إنجلترا السابقة، أن المعركة هي حول القيم و(المصالح)، إذ تقول عن المسلمين: (إنهم يرفضون القيم الغربية، وتتعارض مصالحهم مع مصالح الغرب… وإنهم يمثلون أيديولوجية عدائية لأمريكا والغرب… فهم كالبولشفية في الماضي… وكما كان الحال مع الشيوعية، فلابدّ من تبني استراتيجية طويلة المدىٰ يتسنىٰ لنا هزيمتهم)(27).
وفي الواقع تغيرت الاستراتيجية القديمة الظاهرة المتمثلة بالغزو الصليبي العسكري إلىٰ غزو فكري، يتحقق من خلاله ترويض المسلمين، بأن يقوم العلماء الأوربيون بدراسة الحضارة الإسلامية ليأخذوا منها السلاح الجديد الذي يغزون به (الفكر) الإسلامي، وهكذا تحولت المعركة من ميدان السلاح إلىٰ معركة في ميدان العقيدة والفكر بهدف تزييف عقيدة المسلمين الراسخة .

نشرت في العدد 59


1ـ الإسلام والمسيحية من التنافس والتصادم إلىٰ الحوار والتفاهم، ترجمة: د. خلف محمد الجراد.
2ـ وان (كان التبشير تاريخياً قد ظهر بعد الاستشراق، فإن هذا نشأ أساساً لخدمة التبشير) ،د.محمد الدسوقي.
3ـ نقلاً عن:جون اسبييزيتو،الخطر الإسلامي بين الوهم والواقع، ص48
4ـ حسن أبو عبد، الغزو الفكري، مجلة هدىٰ الإسلام، العدد7، السنة 27،ص31.
5ـ ظ: علي لبن، الغزو الفكري في المناهج الدراسية، ص27.
6ـ نقلاً عن: أنور الجندي، الإسلام في غزوة جديدة للفكر الإنساني، ص 35.
7ـ ظ: حسن أبو عبد، الغزو الفكري، ص 14.
8ـ ظ: محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، ص9، ص169.
9ـ ظ: عمر عودة الخطيب، لمحات في الثقافة الإسلامية، ص 175.
10ـ نقلاً عن د. مصطفىٰ الخالدي، د. عمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد العربية .
11ـ نقلاً عن م. ن، ص 42.
12ـ هناك أبحاث تناولت هذه الظاهرة، منها، بحث: محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث، وإبراهيم خليل أحمد، الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية، مصطفى الخالدي، التبشير والاستعمار في البلاد العربية.
13ـ للتوسعة، ظ: د. مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي،ص299.
14ـ ظ: أنور الجندي، سموم الاستشراق والمستشرقين، ص 10.
15ـ محمد أسد، الإسلام علىٰ مفترق الطرق، ص 50.
16ـ أنور الجندي، الموسوعة الإسلامية العربية الكبرىٰ، ص 102 – 103.
17ـ محمد قطب، معركة التقاليد، مكتبة وهبة، ص 181.
18ـ ظ: جون اسبيزيتو، الخطر الإسلامي بين الوهم والواقع، ص 61.
19ـ أنور الجندي،الفكر العربي المعاصر في معركة التغريب والتبعية الثقافية،ص292.
20ـ أنور الجندي، الشبهات والأخطار الشائعة في الأدب العربي، ص 174.
21ـ للتوسعة،ظ: لوشانليية،الغارة علىٰ العالم الإسلامي،افتراءات المبشرين،ترجمة: محب الدين الخطيب.
22ـ ظ: أنور الجندي، العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي، والثقافي.
23ـ مصطفى الخالدي وآخر، التبشير والاستعمار، ص244.
24ـ ظ: أنور الجندي، وسائل الاستشراق في التشويش علىٰ دعوة الإسلام، مجلة الجامعة الإسلامية، العدد 2، السنة 10.
25ـ مصطفى الخالدي وآخر، التبشير والاستعمار، ص 127.
26ـ المستشار سالم البهنساوي، الغزو الفكري للتاريخ والسيرة بين اليمين واليسار،ص 109.
27ـ نقلاً عن: د. محمد عمارة، الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء… وأنصاف العلماء، ص 49.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.