قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق الإمام علي بن الحسين (عليه السلام):
(إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين زين العابدين؟ وكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطو في الصفوف)(1)،
وسمي بزين العابدين والسجاد وذي الثفنات لكثرة سجوده، قال ولده الإمام الباقر (عليه السلام):
كان أبي في موضع سجوده آثار ناتئة فكان يقطعها في السنة مرتين في كل مرة خمس ثفنات. بهذه الروحانية التي قل نظيرها التمس الإمام زين العابدين (عليه السلام) وسيلة غاية في الجدة في أسلوب دعائه، إذ انتقل به من فضاء الروحانية إلى عالم الميدانية والتطبيق، حين اتخذ من الدعاء وسيلة تربية للأمة، وقناة تواصل معهم، بعد أن ضيَّق عليه كثيرًا جلاوزة السلطة الأموية، إذ كانت السلطة ترصد سكناته وحركاته.
حقّق الإمام بدعائه جملة عريضة من الأهداف، أولها تحقيق التواصل المعرفي المربي للأمة، لذلك نجد في أدعيته المجموعة في (الصحيفة السجادية) وقفات تربوية كثيرة لافتة للبحث والتدبر سنقف منها على محورين هما: المحور الأول وهو الوالدان، والمحور الثاني وهو الأبناء، فخصّ الإمام (عليه السلام) كُلًا منهما بتفصيلات غاية في التأدب والتلطف.
المحور الأول: الوالدان
فمن دعائه (عليه السلام) لوالديه الذي يمكن أن يكون مثابة تربوية في التعامل مع الوالدين، إذ ذكر (عليه السلام) بعد الصلاة على النبي الأمين (صلى الله عليه وآله) وعلى آبائه (عليه السلام) مبادئ التعامل مع الآباء وهي:
ففي الدعاء ثمة توازن بين المحبة الصادقة والاحترام إزاء التعامل مع الوالدين، وظّف الإمام (عليه السلام) فصاحته في توضيحها باستعمال نوع من التشبيه – هو التشبيه البليغ – ينصهر فيه طرفاه حتى يتساويا في المقدار، فخص الهيبة للوالدين وهي أعلى مراتب الاحترام ثم شبهها بهيبة صاحب السلطان العريض، ثم جعل المقابل للهيبة الطاعة والبر بهما وشبهه بأقصى ما تصل إليهما هذه المعاني وهي (الأم الرؤوف)، وفيه لمحة بلاغية نادرة إلى منزلة الأم التي بصدد طاعتها الإمام (عليه السلام).
ثم جعل مبدأ الطاعة لهما مبدأ نابعًا من إيمان قلبي ولذة روحية وليس أمرًا قهريًا إجباريًا، إنه بمثابة العشق الذي يحدث عند المحبين، لذلك أنزله الإمام (عليه السلام) بمنزلة جميلة باستعمال ذات التشبيه الذي تختفي فيه فاصلة أداته ووجه شبهه فوصف لذة الطاعة بأنها أجمل من لذة النوم لدى من ألح عليه النعاس طلبًا للراحة والسكينة.
ومضى أبعد في صفة لذة الطاعة فجعلها لليقظان هذه المرة ألذ على القلب الذي مسه حر الظمأ. وإمعانًا في صفة الرضا للوالدين طلب الإمام (عليه السلام) أن يكون قليل برّهما كثيرًا في عينيه وكثير برّه بهما قليلًا في إشارة جليلة القدر بوجوب التطامن أمام الوالدين ولاسيما عند كبرهما.
2- التأدب في حضرة الآباء:
وضع الإمام (عليه السلام) آدابا عملية في دعائه لوالديه هي في حقيقتها وسائل تربية للأمة فقال (عليه السلام) :
وفي هذا التفصيل دعوة لسيادة الحب والمودة بين أفراد الأسرة، وإذا كان الحب هو السائد في العلاقة بين الطفل ووالديه، فإن الطاعة لهما ستكون متحققة الوقوع، وعلى الوالدين أن يصدرا الأوامر برفق ولين بصورة نصح وإرشاد فإن الطفل سيستجيب لهما، أما استخدام التأنيب والتعنيف فإنه سيؤدي إلى نتائج عكسية، ولذا أكد علماء النفس والتربية على التقليل من التعنيف عند وقوع الذنب، لأن كثرة العقاب تهون على الطفل سماع الملامة وتخفف وقع الكلام في نفسه(9)، الأسرة إذًا لها أثرها في تكوين شخصية الفرد إيجابًا أو سلبًا، لذا ينبغي الاجتهاد في جعل الأولاد (مُحِبِّينَ…حَدِبِينَ) كما ذكر الإمام (عليه السلام).
3- طلب الذكور:
وخص الإمام (عليه السلام) في دعائه طلب الذكور من الأولاد طلبا شفيقًا لحاجة المرء إليهم، وأقول شفيقًا لأن حاجة الإنسان إلى ما يرى في حاضره ملحة في طلب الذكور، أما علم حرمان المرء من الذكور فعند الله تعالى ولا ريب في أنه تصب في منفعة الوالدين، فكم من ولد انقلب نقمة على أبويه، ولذلك كان الإمام مربيًا تربويًا في هذا الطلب ومعلمًا للأمة فقال: (وهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ مَعَهُمْ أَوْلَاداً ذُكُوراً، واجْعَلْ ذَلِكَ خَيْراً لِي، واجْعَلْهُمْ لِي عَوْناً عَلَى مَا سَأَلْتُكَ * وأَعِذْنِي وذُرِّيَّتِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(10)،
ومن جميل تربية الإمام (عليه السلام) لأمته إشارة دعائه في إشاعة روح تقديم الخير للجماعة لما في ذلك من تحقيق الألفة والتكافل لأفراد المجتمع، لذلك ختم دعاءه (عليه السلام) بقوله: