Take a fresh look at your lifestyle.

التنمية التربوية في الصحيفة السجادية

0 759

 

           قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق الإمام علي بن الحسين (عليه السلام):

          (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين زين العابدين؟ وكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطو في الصفوف)(1)،

           وسمي بزين العابدين والسجاد وذي الثفنات لكثرة سجوده، قال ولده الإمام الباقر (عليه السلام):

         كان أبي في موضع سجوده آثار ناتئة فكان يقطعها في السنة مرتين في كل مرة خمس ثفنات. بهذه الروحانية التي قل نظيرها التمس الإمام زين العابدين (عليه السلام) وسيلة غاية في الجدة في أسلوب دعائه، إذ انتقل به من فضاء الروحانية إلى عالم الميدانية والتطبيق، حين اتخذ من الدعاء وسيلة تربية للأمة، وقناة تواصل معهم، بعد أن ضيَّق عليه كثيرًا جلاوزة السلطة الأموية، إذ كانت السلطة ترصد سكناته وحركاته.

       حقّق الإمام بدعائه جملة عريضة من الأهداف، أولها تحقيق التواصل المعرفي المربي للأمة، لذلك نجد في أدعيته المجموعة في (الصحيفة السجادية) وقفات تربوية كثيرة لافتة للبحث والتدبر سنقف منها على محورين هما: المحور الأول وهو الوالدان، والمحور الثاني وهو الأبناء، فخصّ الإمام (عليه السلام) كُلًا منهما بتفصيلات غاية في التأدب والتلطف.

   المحور الأول: الوالدان

         فمن دعائه (عليه السلام) لوالديه الذي يمكن أن يكون مثابة تربوية في التعامل مع الوالدين، إذ ذكر (عليه السلام) بعد الصلاة على النبي الأمين (صلى الله عليه وآله) وعلى آبائه (عليه السلام) مبادئ التعامل مع الآباء وهي:

1- الاحترام والطاعة:

        قال الإمام (عليه السلام) داعيًا الله تعالى: (..اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَهَابَهُمَا هَيْبَةَ السُّلْطَانِ الْعَسُوفِ، وأَبَرَّهُمَا بِرَّ الأُمِّ الرَّؤوفِ، واجْعَلْ طَاعَتِي لِوَالِدَيَّ وبِرِّي بِهِمَا أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنَانِ، وأَثْلَجَ لِصَدْرِي مِنْ شَرْبَةِ الظَّمْآنِ حَتَّى أُوثِرَ عَلَى هَوَايَ هَوَاهُمَا، وأُقَدِّمَ عَلَى رِضَايَ رِضَاهُمَا وأَسْتَكْثِرَ بِرَّهُمَا بِي وإِنْ قَلَّ، وأَسْتَقِلَّ بِرِّي بِهِمَا وإِنْ كَثُرَ)(2)،

          ففي الدعاء ثمة توازن بين المحبة الصادقة والاحترام إزاء التعامل مع الوالدين، وظّف الإمام (عليه السلام) فصاحته في توضيحها باستعمال نوع من التشبيه – هو التشبيه البليغ – ينصهر فيه طرفاه حتى يتساويا في المقدار، فخص الهيبة للوالدين وهي أعلى مراتب الاحترام ثم شبهها بهيبة صاحب السلطان العريض، ثم جعل المقابل للهيبة الطاعة والبر بهما وشبهه بأقصى ما تصل إليهما هذه المعاني وهي (الأم الرؤوف)، وفيه لمحة بلاغية نادرة إلى منزلة الأم التي بصدد طاعتها الإمام (عليه السلام).

         ثم جعل مبدأ الطاعة لهما مبدأ نابعًا من إيمان قلبي ولذة روحية وليس أمرًا قهريًا إجباريًا، إنه بمثابة العشق الذي يحدث عند المحبين، لذلك أنزله الإمام (عليه السلام) بمنزلة جميلة باستعمال ذات التشبيه الذي تختفي فيه فاصلة أداته ووجه شبهه فوصف لذة الطاعة بأنها أجمل من لذة النوم لدى من ألح عليه النعاس طلبًا للراحة والسكينة.

         ومضى أبعد في صفة لذة الطاعة فجعلها لليقظان هذه المرة ألذ على القلب الذي مسه حر الظمأ. وإمعانًا في صفة الرضا للوالدين طلب الإمام (عليه السلام) أن يكون قليل برّهما كثيرًا في عينيه وكثير برّه بهما قليلًا في إشارة جليلة القدر بوجوب التطامن أمام الوالدين ولاسيما عند كبرهما.

2- التأدب في حضرة الآباء:

          وضع الإمام (عليه السلام) آدابا عملية في دعائه لوالديه هي في حقيقتها وسائل تربية للأمة فقال (عليه السلام) :

         (اللَّهُمَّ خَفِّضْ لَهُمَا صَوْتِي، وأَطِبْ لَهُمَا كَلَامِي، وأَلِنْ لَهُمَا عَرِيكَتِي، واعْطِفْ عَلَيْهِمَا قَلْبِي، وصَيِّرْنِي بِهِمَا رَفِيقاً، وعَلَيْهِمَا شَفِيقاً * اللَّهُمَّ اشْكُرْ لَهُمَا تَرْبِيَتِي، وأَثِبْهُمَا عَلَى تَكْرِمَتِي، واحْفَظْ لَهُمَا مَا حَفِظَاه مِنِّي فِي صِغَرِي * اللَّهُمَّ ومَا مَسَّهُمَا مِنِّي مِنْ أَذًى)(3)،

       أليس في هذا الكلام تفسير عميق لقوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)؟ (الإسراء:24) إنه تفصيل لطبيعة معاني الاستعارة القرآنية العظيمة في (جَنَاحَ الذُّلِّ).

3- إيثار الآباء على النفس:

         وفي دعاء الإمام (عليه السلام) تفصيل بوجوب تفضيل الوالدين على النفس وتقديمهما في البر والدعاء لهما دائمًا، فقال (عليه السلام):

         (.. يَا مُبَدِّلَ السَّيِّئَاتِ بِأَضْعَافِهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ * اللَّهُمَّ ومَا تَعَدَّيَا عَلَيَّ فِيه مِنْ قَوْلٍ، أَوْ أَسْرَفَا عَلَيَّ فِيه مِنْ فِعْلٍ، أَوْ ضَيَّعَاه لِي مِنْ حَقٍّ، أَوْ قَصَّرَا بِي عَنْه مِنْ وَاجِبٍ فَقَدْ وَهَبْتُه لَهُمَا، وجُدْتُ بِه عَلَيْهِمَا ورَغِبْتُ إِلَيْكَ فِي وَضْعِ تَبِعَتِه عَنْهُمَا، فَإِنِّي لَا أَتَّهِمُهُمَا عَلَى نَفْسِي، ولَا أَسْتَبْطِئُهُمَا فِي بِرِّي، ولَا أَكْرَه مَا تَوَلَّيَاه مِنْ أَمْرِي يَا رَبِّ)(4).

4- توظيف الاحتجاج للوالدين:

          ومن لطيف البيان وجميله في الدعاء للوالدين ما وظف الإمام من أساليب الاحتجاج المنطقي في تقديم الوالدين، في قوله (عليه السلام):

         (..فَهُمَا أَوْجَبُ حَقّاً عَلَيَّ، وأَقْدَمُ إِحْسَاناً إِلَيَّ، وأَعْظَمُ مِنَّةً لَدَيَّ مِنْ أَنْ أُقَاصَّهُمَا بِعَدْلٍ، أَوْ أُجَازِيَهُمَا عَلَى مِثْلٍ، أَيْنَ إِذاً يَا إِلَهِي طُولُ شُغْلِهِمَا بِتَرْبِيَتِي! وأَيْنَ شِدَّةُ تَعَبِهِمَا فِي حِرَاسَتِي! وأَيْنَ إِقْتَارُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيَّ! هَيْهَاتَ مَا يَسْتَوْفِيَانِ مِنِّي حَقَّهُمَا، ولَا أُدْرِكُ مَا يَجِبُ عَلَيَّ لَهُمَا، ولَا أَنَا بِقَاضٍ وَظِيفَةَ خِدْمَتِهِمَا، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، وأَعِنِّي يَا خَيْرَ مَنِ اسْتُعِينَ بِه، ووَفِّقْنِي يَا أَهْدَى مَنْ رُغِبَ إِلَيْه، ولَا تَجْعَلْنِي فِي أَهْلِ الْعُقُوقِ لِلآبَاءِ والأُمَّهَاتِ يَوْمَ (تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ)( وهُمْ لا يُظْلَمُونَ )(5)، ففيه تجارب عملية تذكّر الولد دائمًا باقتضاء التواضع والوفاء للوالدين.

5- الدعاء من دوام البر بالوالدين:

          نلمس في إلحاح الإمام بطبيعة التعامل مع الوالدين واستمرار الدعاء لهما في حياتهما ومماتهما لمحًا تربويًا من الوفاء الدائم المستحق فقال (عليه السلام):

         (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه وذُرِّيَّتِه، واخْصُصْ أَبَوَيَّ بِأَفْضَلِ مَا خَصَصْتَ بِه آبَاءَ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وأُمَّهَاتِهِمْ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ * اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَهُمَا فِي أَدْبَارِ صَلَوَاتِي، وفِي إِنًي مِنْ آنَاءِ لَيْلِي، وفِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ نَهَارِي * اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، واغْفِرْ لِي بِدُعَائِي لَهُمَا، واغْفِرْ لَهُمَا بِبِرِّهِمَا بِي مَغْفِرَةً حَتْماً، وارْضَ عَنْهُمَا بِشَفَاعَتِي لَهُمَا رِضًى عَزْماً، وبَلِّغْهُمَا بِالْكَرَامَةِ مَوَاطِنَ السَّلَامَةِ * اللَّهُمَّ وإِنْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لَهُمَا فَشَفِّعْهُمَا فِيَّ، وإِنْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لِي فَشَفِّعْنِي فِيهِمَا حَتَّى نَجْتَمِعَ بِرَأْفَتِكَ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ ومَحَلِّ مَغْفِرَتِكَ ورَحْمَتِكَ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، والْمَنِّ الْقَدِيمِ، وأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(6).

            ففي نهاية الدعاء الذي خصه الإمام (عليه السلام) بالوالدين وفاء بالبر بهما كونه يُعد طاعة لهما في غيابهما.

المحور الثاني: الأبناء

           وخص الإمام (عليه السلام) ولده بصالح دعائه، وفيه نستكشف التربويات الآتية:

1- نعمة الأولاد :

             عرض الإمام (عليه السلام) في استفتاح دعائه لذة نعمة الأبناء وصلاح بناهم الجسمية والروحية فقال (عليه السلام):

            (اللَّهُمَّ ومُنَّ عَلَيَّ بِبَقَاءِ وُلْدِي وبِإِصْلَاحِهِمْ لِي وبِإِمْتَاعِي بِهِمْ * إِلَهِي امْدُدْ لِي فِي أَعْمَارِهِمْ ، وزِدْ لِي فِي آجَالِهِمْ، ورَبِّ لِي صَغِيرَهُمْ، وقَوِّ لِي ضَعِيفَهُمْ، وأَصِحَّ لِي أَبْدَانَهُمْ وأَدْيَانَهُمْ وأَخْلَاقَهُمْ، وعَافِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وفِي جَوَارِحِهِمْ وفِي كُلِّ مَا عُنِيتُ بِه مِنْ أَمْرِهِمْ، وأَدْرِرْ لِي وعَلَى يَدِي أَرْزَاقَهُمْ * واجْعَلْهُمْ أَبْرَاراً أَتْقِيَاءَ بُصَرَاءَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ لَكَ، ولأَوْلِيَائِكَ مُحِبِّينَ مُنَاصِحِينَ، ولِجَمِيعِ أَعْدَائِكَ مُعَانِدِينَ ومُبْغِضِينَ، آمِينَ)(7)، الإمام (عليه السلام) في غاية الواقعية، إذ ما فائدة الأولاد بلا صحة جسدية أو ما فائدتهم بلا تسديد، فكم من ولد عاد نقمة وفتنة لأبويه، لذلك افتتح الدعاء بالطلب بأن يكونوا أصحاء في البدن وصلحاء في النفس.

2- ذخيرة الكبر:

           وفي بعض ما يطمح إليه من تربية الأبناء أن يكونوا لآبائهم عونًا حين يمسهم الضعف في كبرهم وشيخوختهم لذلك دعا الإمام (عليه السلام) بقوله:

         (اللَّهُمَّ اشْدُدْ بِهِمْ عَضُدِي، وأَقِمْ بِهِمْ أَوَدِي، وكَثِّرْ بِهِمْ عَدَدِي، وزَيِّنْ بِهِمْ مَحْضَرِي، وأَحْيِ بِهِمْ ذِكْرِي، واكْفِنِي بِهِمْ فِي غَيْبَتِي، وأَعِنِّي بِهِمْ عَلَى حَاجَتِي، واجْعَلْهُمْ لِي مُحِبِّينَ، وعَلَيَّ حَدِبِينَ مُقْبِلِينَ مُسْتَقِيمِينَ لِي، مُطِيعِينَ، غَيْرَ عَاصِينَ ولَا عَاقِّينَ ولَا مُخَالِفِينَ ولَا خَاطِئِينَ * وأَعِنِّي عَلَى تَرْبِيَتِهِمْ وتَأْدِيبِهِمْ، وبِرِّهِمْ)(8).

        وفي هذا التفصيل دعوة لسيادة الحب والمودة بين أفراد الأسرة، وإذا كان الحب هو السائد في العلاقة بين الطفل ووالديه، فإن الطاعة لهما ستكون متحققة الوقوع، وعلى الوالدين أن يصدرا الأوامر برفق ولين بصورة نصح وإرشاد فإن الطفل سيستجيب لهما، أما استخدام التأنيب والتعنيف فإنه سيؤدي إلى نتائج عكسية، ولذا أكد علماء النفس والتربية على التقليل من التعنيف عند وقوع الذنب، لأن كثرة العقاب تهون على الطفل سماع الملامة وتخفف وقع الكلام في نفسه(9)، الأسرة إذًا لها أثرها في تكوين شخصية الفرد إيجابًا أو سلبًا، لذا ينبغي الاجتهاد في جعل الأولاد (مُحِبِّينَ…حَدِبِينَ) كما ذكر الإمام (عليه السلام).

3- طلب الذكور:

           وخص الإمام (عليه السلام) في دعائه طلب الذكور من الأولاد طلبا شفيقًا لحاجة المرء إليهم، وأقول شفيقًا لأن حاجة الإنسان إلى ما يرى في حاضره ملحة في طلب الذكور، أما علم حرمان المرء من الذكور فعند الله تعالى ولا ريب في أنه تصب في منفعة الوالدين، فكم من ولد انقلب نقمة على أبويه، ولذلك كان الإمام مربيًا تربويًا في هذا الطلب ومعلمًا للأمة فقال: (وهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ مَعَهُمْ أَوْلَاداً ذُكُوراً، واجْعَلْ ذَلِكَ خَيْراً لِي، واجْعَلْهُمْ لِي عَوْناً عَلَى مَا سَأَلْتُكَ * وأَعِذْنِي وذُرِّيَّتِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(10)،

           ومن جميل تربية الإمام (عليه السلام) لأمته إشارة دعائه في إشاعة روح تقديم الخير للجماعة لما في ذلك من تحقيق الألفة والتكافل لأفراد المجتمع، لذلك ختم دعاءه (عليه السلام) بقوله:

          (وأَعْطِ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِمَاتِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ مِثْلَ الَّذِي سَأَلْتُكَ لِنَفْسِي ولِوُلْدِي فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وآجِلِ الآخِرَةِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ مُجِيبٌ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عَفُوٌّ غَفُورٌ رَؤوفٌ رَحِيمٌ *و(آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النَّارِ))(11).

 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الأمالي/الشيخ الصدوق/ص410.
2،3 ،4 ،5 ،6ـ الصحيفة السجادية الكاملة/من دعائه لأبويه/ص114.
7 ،8 ـ ن.م/دعاؤه لولده/ص120.
9ـ ظ. تربية الطفل في الإسلام، مركز الرسالة: 59.
10 ،11ـ الصحيفة السجادية /دعاؤه لولده/ص120.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.