Take a fresh look at your lifestyle.

الصحيفة السجادية: الثقافةُ بوصفها دعاء

0 912

 

            بيَّنتْ آياتٌ قرآنية عديدة، وأحاديث كثيرةٌ وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) خصوصية الدعاء في حياة المؤمن وأهميته في سلوكه اليومي، فهو من أهم العبادات التي لا ترتبط بوقت محدد، أو له مقدمات عملية واجبة، فضلاً عن أنه مصاحب بشكل وجوبي أو استحبابي لبعض العبادات الأخرى،

           ومن هنا نقرأ قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)(غافر:60)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين)(1)، وقوله: (الدعاء مخ العبادة؛ ولا يهلك مع الدعاء أحد)(2).

          هو مركزي في العبادة إذن، ويؤدي دوراً خطيراً وهاماً فيها، كمركزية المخ في جسد الإنسان، الذي يسيطر على فعاليات الإنسان الرئيسة وحسه وحركته وانفعالاته وتفكيره، وكما أن أعضاء الجسد ترتبط عن طريق شبكة معقدة من الأعصاب بالمخ وتوصل له عن طريق مجسَّاتها الحسيّة إشارات عصبية مختلفة وتستلم منه نبضات كهربائية هي استجابات وأوامر، فإن الدعاء يمتلك هذا الدور الهام، ويقوم بهذه الوظائف المركزية في فعل العبادة أياً كان مصداقه، بل إن الإمام الصادق (عليه السلام) يعدُّه العبادة عينها، إذ يقول: (إن الدعاء هو العبادة)(3)، ذلك أن المؤمن يصدر في دعائه من حاجة يرفعها لقاضيها، فهو متيقنٌ بفقره وحاجته وفاقته، مثلما هو مؤمنٌ بغنى المدعو وقدرته ورحمته سبحانه.

           من جانب موازٍ يكون الوعي بالثقافة بما يعنيه من حضور فاعل وحيوي للثقافة في الحياة والسلوك، ركيزة أساسية ليقين المؤمن؛ ويتعمق هذا الوعي كلما اكتسب ديمومة في الحضور، وتمثيلاً عملياً في كل أنماط الفعل الإنساني وتفاصيله، ولذا تتشكل الثقافة دعاءً متفاوتاً في المستوى لدى الداعين، على مختلف درجات إيمانهم وحضورهم القلبي لحظة القراءة والمناجاة.

           نرى ـ بنظرة قاصرة والله تعالى أعلم ـ أنَّ النصَّ الدعائي في الصحيفة السجادية نصٌ ثقافي، ليس طلباً محضاً ولا مناجاة صرفة للخالق تبارك وتعالى كما هو الغالب في دعاء المؤمن ربَّه، هو نص يتضمن أبعاداً مختلفة منها: الأخلاقي، والعقائدي، والسياسي، والاجتماعي، وكأنَّ الإمام (عليه السلام) أراد أن يقول: بكل هذا يعبد الله تعالى، وأن طرق العبادة متعددة، مشرعة:

            (سُبْحانَكَ ما أَضْيَقَ الطُّرُقَ عَلى مَنْ لَمْ تَكُنْ دَلِيلَهُ وَما أَوْضَحَ الحَقَّ عِنْدَ مَنْ هَدَيْتَهُ سَبِيلَهُ، إِلهِي فَاسْلُكْ بِنا سُبُلَ الوُصُولِ إِلَيْكَ وَسَيِّرْنا فِي أقْرَبِ الطُّرُقِ لِلْوُفُودِ عَلَيْكَ)(4)، غير أنَّ وضوح هذه الطرق، والشروع في سلوكها لا يتحقق بغير التوفيق الإلهي، ولذا ليس من المبالغة في شيء وصف الصحيفة السجادية بالمدرسة، وإنَّ (الدعاء في مدرسة الإمام السجاد خير معرض لأعمق البصائر، وأشد المحبة وأحرها، وأرفع الاحتياج وأنظفه. فهي لكل من يتلقى في مدرسة الإمامة، دروس الحياة والقدوة والمثال والتفكير والعمل لسانٌ خلف الشفاه المنطبقة التي تريد التكلم والإفصاح)(5).

            ومن هنا أيضًا كان الدعاء نشاطاً عبادياً لا ينفصل عن سنن الله تعالى التي سنها لشؤون عباده وحاجاتهم، فهو مقرون بها، ولا يمكن في الوقت ذاته أن تكون الاستعانة بهذه السنن بديلاً عن الدعاء. ويشكل الوعي بأهمية هذا الأمر لازمةً محورية في منظومة الثقافة الربانية في الإسلام(6). وهو ما يعني أن للدعاء ثقافته، وأنه في الوقت نفسه تجل من تجليات ثقافة المؤمن الإلهية.

   مواجهة ثقافية

            يغدو الدعاء تجسيداً لوجود فاعل للإنسان في الحياة عبر ثقافة تصوغ وعيه، وتضفر نسيج حياته الخاصة، وترسم له منهجاً وملامح سلوك، هذه نتيجةٌ أخرجُ بها حين أقرأ أيَّ نص من نصوص الصحيفة، وأجدُ أنَّ الإمام السجاد (عليه السلام) يعيش الدعاء ممارسة حياتية فعلية أكثر مما يصوغه، سيظهر الدعاء على أنه إعادة صياغة للثقافة، وسيغدو في شكله النهائي صورة أخرى لحياته (عليه السلام)، لاشك في أنَّ ذلك مرتبط بخصوصية السياق الثقافي والتاريخي الذي عاش فيه الإمام، وقد تشكلتْ طبيعة دوره في الإمامة في ضوء متطلبات هذا السياق، وجاءت أدعية الصحيفة استجابة ثقافية لحاجة المؤمنين.

           إنَّ اكتناز النص الدعائي في الصحيفة بما هو ثقافي عقائدي أو سياسي أو أخلاقي أو اجتماعي يدفع القارئ إلى القول بأن الثقافة هنا تتوسل الدعاء طريقاً لبناء الإنسان لا العكس، وما يدفع إلى هذا الفهم بقوة سعيُ النصوص، على اختلاف مناسباتها واختصاصها بأوقات محددة أو موضوعات معينة، إلى المحافظة على أن يكون الدعاء مقترناً بالعمل، والمعرفة ملازمة للسلوك، وهو تأسيس لفهم صحيح لطبيعة الدعاء وماهيته، ولمعنى الثقافة وجوهرها؛ فمن معاني الثقافة أنها تربية وتنمية متضامنة لقدرات الإنسان، وهي تهذيب وتحل بالأدب، وهي لا تنحصر بكونها (وسيلة تعاملنا مع الآخرين وحسب، إنما توسع أيضًا عالمنا الاجتماعي، وتخرجنا من ضيق العالم المقتصر على عدة أفراد يحيطون بنا لتضعنا في رحاب المعاصرين والسالفين والقادمين، فتعمل بذلك على ازدهارنا وتنامينا أكثر فأكثر)(7)،

          وهو ما يعني انفتاحاً واعياً ويقظاً لثقافة المؤمن على عالم رحب، وفهماً عميقاً لا يقف فيه الدعاء حائلاً دون العمل والحركة كما قد يفهمه البعض، فهو (وجود يأتي بعد الواجب، وبعد العناء والعمل والكفاح والصبر. والذين خلفوا لنا في التاريخ الإسلامي متون الدعاء الحقة هم نموذج هذا المثال، وعلامة هذا الأمر. لقد كان هؤلاء في يقظة موصولة من أجل مناهضة العدو، وبلوغ السعادة، والقوة، والاستقلال، والحرية، ومن أجل القضاء على كل ما يهدد الإنسان)(8).

            من نماذج أدعية المواجهة هذه في الصحيفة نقرأ دعاءه (عليه السلام) في الاستعاذة من الشيطان وغوايته، التي هي في حقيقتها استعاذة من كل مصاديق الثقافة الشيطانية ومواجهة صلبة لها، عبر الوعي باختلاف ثقافة المؤمن الإلهية عنها، وتقاطعها معها. يقول (عليه السلام):

           (أَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْعَلْ آباءَنا وَأُمَّهاتِنا، وَأَوْلادَنا، وَأَهالينا، وَذَوي أَرْحامِنا، وَقَراباتِنا، وَجيرانَنا مِنَ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ منه في حِرْز حارِز، وَحِصْن حافِظ، وَكَهْف مانِع، وَأَلْبِسْهُمْ مِنْهُ جُنَناً واقِيَةً، وَأَعْطِهِمْ عَلَيْهِ أَسْلِحَةً ماضِيَةً. أَللّهُمَّ وَاعْمُمْ بِذلِكَ مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالرُّبوبِيَّةِ، وَأَخْلَصَ لَكَ بِالْوَحْدانِيَّةِ، وَعاداهُ لَكَ بِحَقيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ بِكَ عَلَيْهِ في مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ الرَّبّانِيَّةِ)(9).

           إنَّ عدة المواجهة تتجمع عند (معرفة العلوم الربانية)، فالحرز والحصن الإلهي مشروط تحققهما بضرورة استظهار العبد بالله تعالى واستعانته به على الشيطاني من القول والسلوك من خلال المعرفة والتسلح بالثقافة الربانيّة، وهو ما نرى حرص الإمام على تأكيد أهميته في دعاء آخر خصصه لأهل الثغور المرابطين على حماية بلدان المسلمين، إذ يقول (عليه السلام):

           (أَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ ما يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ ما لا يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ ما لا يُبْصِرُونَ.)، (أَللّهُمَّ وَأَيُّما غاز غَزاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَوْ مُجاهِد جاهَدَهُمْ مِنْ أَتَباعِ سُنَّتِكَ، لِيَكُونَ دينُكَ الأعْلى، وَحِزْبُكَ الأقْوى، وَحَظُّكَ الأوْفى، فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، …. وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ)(10)،

            وليست أهمية العقيدة والمعرفة مقتصرة في أهل الحق، إذ يدعو الإمام (عليه السلام) بأن يبعث الاضطراب في قلوب الأعداء ويقلق ما عقدت عليه قلوبهم وارتبطت وآمنت به من ثقافة شيطانية فاسدة ، في قوله: (وَاخْلَعْ وَثائِقَ أَفَئِدَتِهِمْ).

           من هنا يكون على أهل الإيمان توسيع وعيهم بالآخر، وأن لا يفهموا اختلافهم مع الثقافة الشيطانية بطريقة خاطئة، فيظنوا أن هذا الاختلاف مع فئة من الناس، أو نوع ما منهم، وأن الصراع منحصر مع ذلك الفريق دون غيره، الأمر الذي يمكن أن يُستغل من قبل العدو في المواجهة، فيصوره على أنه خلافٌ طائفيٌ محدود، ذلك أنَّ (منشأ الخلاف والمشكلة في موقع آخر أهم وأعظم من ذلك، إنها مشكلة القيم والمبادئ الإيمانية والإنسانية، التي يرفضها الظالمون والمعتدون، ويعادونها، ويحاربونها)(11)، هي مواجهة ثقافية إذن، وهي أخطر من المواجهة العسكرية بلا شك، لأنها ترتبط بالمحرك الرئيس لفعل الإنسان والموجِّه الفاعل لمواقفه.

   الثقافة الإلهية وهوية المؤمن

           إن الثقافة الإلهية التي تؤسس لها نصوص الصحيفة ثقافة تمتلك عمقاً إنسانياً تبدأ من تثبيت ركيزة الولاء لله تبارك وتعالى ولكل ما له صلة بالسماء؛ ففي دعائه (عليه السلام)في التحميد لله عز وجل وتمجيده، يجعل من هذا الولاء عماداً لوعي المؤمن، وعلامة فارقة لشخصيته، وهو هويته الخاصة وجوهر ثقافته في آخر الأمر:

            (..الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلى ما أَبْلاهُمْ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتابِعَةِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ المُتَظاهِرَةِ، لَتَصَرَّفُوا في مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ، وَتَوَسَّعُوا في رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ، وَلَوْ كانُوا كَذلِكَ لَخَرَجُوا مِنْ حُدُودِ الإنْسانِيَّةِ إِلى حَدِّ الْبَهيمِيَّةِ، فَكانُوا كَما وَصَفَ في مُحْكَمِ كِتابِهِ (إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلاً)(12)؛

            فمبتدأ الولاء يكون من مبتدئ النعم، من مصدر المعرفة والإلهام والعلم والتوفيق الذي بمنِّه سبحانه وتعالى تتضح سبل السلوك إليه. ويكتسب الداعي الذي يحضر بين كلمات الدعاء بوصفه قارئاً ضمنياً ملامحه من خلال استحضار معاني الدعاء، وإدراك قيمة فيض النعم التي أسبغها الله عليه، وهو في حقيقته إدراك يجري داخل العقل الإنساني، وفي ضوئه، وكنتيجة له يكون الإقبال والتوجه، وكل ذلك مرهونٌ تحققُه بالتوفيق الإلهي للعبد:

           (..الْحَمْدُ لِله عَلى ما عَرَّفَنا مِنْ نَفْسِهِ، وَأَلْهَمَنا مِنْ شُكْرِهِ، وَفَتَحَ لَنا مِنْ أَبْوابِ الْعِلْمِ بِرُبوبِيَّتِهِ، وَدَلَّنا عَلَيْهِ مِنَ الاخْلاصِ لَهُ في تَوْحيدِهِ، وَجَنَّبَنا مِنَ الالْحادِ وَالشَّكِّ في أَمْرِهِ، حَمْداً نُعَمَّرُ بِهِ في مَنْ حَمِدَهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَنَسْبِقُ بِهِ مَنْ سَبَقَ إِلى رِضاهُ وَعَفْوِهِ، حَمْداً يُضيءُ لَنا بِهِ ظُلُماتِ الْبَرْزَخِ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْنا بِهِ سَبيلَ الْمَبْعَثِ، وَيُشَرِّفُ بِهِ مَنازِلَنا عِنْدَ مَواقِفِ الأشْهادِ (يَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، (يَوْمَ لا يُغْني مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَ لاهُمْ يُنْصَرُونَ))(13).

            ليس لهوية المؤمن تحققٌ واحدٌ تصله، وتكتمل به منغلقة على نفسها بشكل نهائي، هي هوية نامية تتزود باستمرار من فيض صلتها بالسماء، وبذا تكون لها تحققات عدة، مرهونة بسعي المؤمن وإخلاصه الذي يمثل استعداده الروحي لتقبل الفيض الإلهي. وهكذا يدعو خطاب الصحيفة إلى الثقافة المثالية التي طالما سعى ويسعى مفكرو الإنسانية وعلماؤها إلى تبني استنباتها في المجتمعات ودعمها والحرص على ديمومتها، لأنها هوية المجتمع المميزة له، ولذا فهي تحظى بانسجام فريد مع الفطرة الإنسانية والعقل السليم، وتدعمها الشخصيات التائقة إلى ترسيخ المثل والقيم الإنسانية النبيلة في المجتمع والباحثة عن الحقيقة في كل الأزمنة والأمكنة المختلفة(14).

   صلة المؤمن بالمجتمع والكون

             خلافاً لحالة الانسلاخ الثقافي التي يقع فيها من لا يدركه التوفيق الإلهي، يعيش المؤمن حياة مستقرة، ويستشعر معنى الانتماء لثقافة ربانية، هو فرد من جماعة، ولبنة في بناء، ومن الضروري أن يستحضر المؤمن أخاه المؤمن في كل مقام خير يعيشه، ومنه الدعاء، فهو يعي حقوق الآخرين عليه، ويحرص على تأديتها لأنها من أجلى مصاديق العبادة أيضاً.

            (وهذه العلاقة التي ينسجها الدعاء بين الفرد والأمة من جانب، وبين الفرد والأفراد الذين يتعامل معهم ويرتبط بهم بنحو من الأنحاء من أفضل أنواع العلاقة؛ لأن هذه العلاقة تتكون بين يدي الله، وفي امتداد العلاقة بالله، ولا يعرفها أحد إلا الله، وهي استجابة لدعوة الله تعالى)(15)، من هذه الأدعية نقرأ في دعائه (ع) لجيرانه وأهل الحقوق عليه، قوله:

              (أَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَتَوَلَّني في جِيراني وَمَوالِيَّ الْعارِفينَ بِحَقِّنا، وَالْمُنابِذينَ لأعْدَائِنا، بِأَفْضَلِ وَلايَتِكَ، وَوَفِّقْهُمْ لإقامَةِ سُنَّتِكَ، وَالأخْذِ بِمَحاسِنِ أَدَبِكَ في إِرْفاقِ ضَعيفهِمْ، وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ، وَعِيادَةِ مَريضِهِمْ، وَهِدايَةِ مُسْتَرْشِدِهِمْ، ….)(16).

             ويسترسل الدعاء في ذكر حقوق المؤمن الكثيرة على أخيه، صغيرها وكبيرها، وكأنه يضع بنوداً تشريعية وأخلاقية لنظام العيش وسط الجماعة، وهو نظام قائم على الشعور بالانتماء للكل والائتلاف معهم في ظل عبودية صادقة للمولى تبارك وتعالى. ومن ذلك أيضاً قوله في دعائه (عليه السلام) في الاعتذار من تبعات العباد ومن التقصير في حقوقهم:

            (أَللّهُمَّ إِنّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِنْ مَظْلُوم ظُلِمَ بِحَضْرَتي فَلَمْ أَنْصُرْهُ، وَمِنْ مَعْرُوف أُسْدِىَ إِلَيَّ فَلَمْ أَشْكُرْهُ، وَمِنْ مُسيء اعْتَذَرَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْذِرْهُ، وَمِنْ ذي فاقَة سَأَلَني فَلَمْ أُوثِرْهُ، وَمِنْ حَقِّ ذي حَقٍّ لَزِمَني لِمُؤْمِن فَلَمْ أُوَفِّرْهُ، وَمِنْ عَيْبِ مُؤْمِن ظَهَرَ لي فَلَمْ أسْتُرْهُ، وَمِنْ كُلِّ إِثْم عَرَضَ لي فَلَمْ أَهْجُرْهُ)(17).

            لا يجد قارئ من أي نمط كان ثقافةً كهذه تحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، وتحترمه، ولا نجد استنباتاً وتأسيساً لثقافة الانتماء كهذه التي يقدمها الدعاء هنا؛ فهو يحرص ويؤكد على ضرورة أن (يشعر المؤمن بالارتباط التاريخي والفعلي (العمودي والأفقي) بالأسرة المؤمنة في التاريخ، وعلى وجه الأرض، وبوحدة هذه الأسرة، وبالعلاقة الوشيجة والقوية التي تربطنا بهذه الأسرة)(18). وليست الألفة والانتماء مقتصرة في تحققها مع الآخر إنساناً وأخاً في الدين، بل مع المكان الذي يعيش فيه الإنسان، وتتشكل ملامحه فيه، ويمارس مفردات حياته على أرضه، فضلاً عن الألفة مع الزمان في مختلف أنماطه، عبر أدعية اختصت بأشهر معينة ومناسبات محددة وأخرى اختصت بأيام الأسبوع.

           من جانب آخر تضمن النص الدعائي السجادي رؤية كونية، تجلت في إجابات عن أسئلة تخص الإنسان والعالم بماهيتيه الفيزيائية والماورائية والمجتمع والحياة بمختلف وجوهها، وهذا أمر قلَّما اجتمع في خطاب واحد، فنقرأ خطاباً متأملاً لخلق الله المتعدد، ومتذوقاً لجمال الخلقة والتكوين وعلة الإيجاد في أكثر من موضع من الصحيفة ولعل من أبرزها دعاءه (عليه السلام) عند رؤية الهلال:

           (أَيُّهَا الْخَلْقُ الْمُطيعُ الدّائِبُ السَّريعُ، الْمُتَرَدِّدُ في مَنازِلِ التَّقْديرِ، الْمُتَصَرِّفُ في فَلَكِ التَّدْبيرِ. آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُّلَمَ، وَأَوْضَحَ بِكَ الْبُهَمَ، وَجَعَلَكَ آيَةً مِنْ آياتِ مُلْكِهِ، وَعَلامةً مِنْ عَلاماتِ سُلْطانِهِ)(19).

             وكذلك دعاؤه (عليه السلام) إِذا نظر إِلى السحاب والبرق وَسَمِع صوتَ الرَّعد:

           (أَللّهُمَّ إِنَّ هذَيْنِ آيَتانِ مِنْ آياتِكَ، وَهذَيْنِ عَوْنانِ مِنْ أَعْوانِكَ، يَبْتَدِرانِ طاعَتَكَ بِرَحْمَة نافِعَة، أَوْ نِقْمَة ضارَّة، فَلا تُمْطِرْنا بِهِما مَطَرَ السَّوْءِ، وَلا تُلْبِسْنا بِهِما لِباسَ الْبَلاءِ)(20)،

            فنرى انعكاس بعض مفردات الطبيعة الكونية في جمل الدعاء، عبر تأمل في جمال خلقها وتكوينها ووظيفتها في النظام الكوني، هي آيات على عظمة الخالق وقدرته، وهي في الوقت ذاته من تجليات رحمته و لطفه وجوده.

 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – بحار الأنوار: 93/282.
2- م.ن: 93/300.
3- وسائل الشيعة: 4/ 1083.
4- مناجاة المريدين في الصحيفة السجادية.
5- الدعاء: علي شريعتي: 51.
6- ينظر: الدعاء عند أهل البيت (عليهم السلام): محمد مهدي الآصفي: 33.
7- ينظر: نظرية الثقافة: محمد جواد أبو القاسمي: 36، 70.
8- الدعاء: علي شريعتي: 9.
9- الصحيفة السجادية: من دعائه (عليه السلام) إذا ذكر الشيطان فاستعاذ منه.
10- الصحيفة السجادية: من دعائه (عليه السلام) لأهل الثغور.
11- سياسة الحرب في دعاء أهل الثغور، منطلقات وضوابط: السيد جعفر مرتضى: 57.
12- الصحيفة السجادية: من دعائه (عليه السلام) إذا ابتدأ بالتحميد لله.
13- ن.م.
14- ينظر: نظرية الثقافة:178.
15- الدعاء عند أهل البيت (عليهم السلام): 156.
16- الصحيفة السجادية: من دعائه (عليه السلام) لجيرانه وأهل الحقوق عليه.
17- الصحيفة السجادية: من دُعَائِه (عليه السلام) فِي الِاعْتِذَارِ مِنْ تَبِعَاتِ الْعِبَادِ ومِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِهِمْ.
18- الدعاء عند أهل البيت (عليهم السلام): 157.
19- الصحيفة السجادية: من دعائه (عليه السلام) عند رؤيا الهلال.
20- الصحيفة السجادية: مِنْ دُعَائِه (عليه السلام) إِذَا نَظَرَ إِلَى السَّحَابِ والْبَرْقِ وسَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.