الإمام زين العابدين (عليه السلام) هو .. علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولد بالمدينة المنورة سنة 38هـ قبل وفاة جده أمير المؤمنين (عليه السلام) بسنتين، فبقي مع جده سنتين ومع عمه الحسن (عليه السلام) (12) سنة ومع أبيه الحسين (عليه السلام) (23) سنة، وتوفي بالمدينة سنة 95هـ، وله يومئذٍ من العمر (57) سنة، ودفن بالبقيع في القبر الذي فيه عمه الحسن (عليه السلام) في القبة التي فيها العباس بن عبدالمطلب(1).
والإمام السجاد (عليه السلام) هو أحد الأئمة الاثني عشر، عاش في كنف آبائه الطاهرين وتغذى منهم واستقى من معينهم العلم والتقوى وإرث النبوة.
قال عنه اليعقوبي صاحب التاريخ(2) أحمد بن إسحاق اليعقوبي المتوفى بعد 292هـ: (وكان أفضل الناس وأشدهم عبادةً، وكان يسمى زين العابدين، وكان يسمى أيضاً ذا الثفنات، لما كان في وجهه من أثر السجود، وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، ولما غُسِّل وجد على كتفيه جُلَب كجُلَب البعير، فقيل لأهله: ما هذه الآثار؛ قالوا: من حمله للطعام في الليل ويدور به على منازل الفقراء).
قال سعيد بن المسيب: (ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين).
وقال الزهري: (ما رأيت هاشميًا أفضل من علي بن الحسين ولا أفقه منه)(3).
وعد الإمام الشافعي علي بن الحسين أفقه أهل المدينة، وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى حكام عصره من خلفاء بني أمية ـ على الرغم من كل شيء ـ، فلقد قال له عبد الملك بن مروان: (ولقد أوتيت من العلم والدين الورع ما لم يؤته أحد مثلك إلّا من مضى من سلفك)(4).
وقد كان للمسلمين عموماً تعلق عاطفي شديد بهذا الإمام وولاء روحي عميق له، وكانت قواعده الشعبية ممتدة في كل مكان من العالم الإسلامي، كما يشير إلى ذلك موقف الحجيج الأعظم منه حينما حج هشام بن عبد الملك وطاف وأراد أن يستلم الحجر الأسود فلم يقدر على استلامه من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه ينتظر، ثم أقبل الإمام زين العابدين (عليه السلام)وأخذ يطوف فكان إذا بلغ موضع الحجر انفرجت له الجماهير وتنحى الناس عنه حتى يستلمه لعظيم معرفتها بقدره وحبها له على اختلاف بلدانهم وانتسابهم، وقد سجل الفرزدق الشاعر هذا الموقف في قصيدة رائعة مشهورة جاء في مطلعها(5):
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ
لقد ترك الإمام زين العابدين (عليه السلام) آثاراً تستلهم منها الأجيال دروساً على مختلف الأصعدة، وتكون محط اهتمام الداني والقاصي، ولاسيما علماء أهل البيت (عليهم السلام) والدارسين في مدرستهم الذين يقفون عليها لاستخراج ما تبصر به الأمة في طريقها.
ومن آثاره (عليه السلام) أقواله وكلماته وأدعيته والتي منها الصحيفة السجادية، وما نقلته الكتب من شريف كلماته ومحاسن علمه، يقول (عليه السلام): (من عف عن محارم الله كان عابداً، ومن رضي بقسم الله كان غنياً، ومن أحسن مجاورة من جاوره كان مسلماً، ومن صاحب الناس بما يحب أن يصاحبوه به كان عادلاً)(6).
وكان (عليه السلام) يقول: (ابن آدم لن تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وكانت المحاسبة من همتك، وما كان لك الخوف شعاراً والحزن دثاراً)(7).
لقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) إماماً في الدين ومناراً في العلم والعبادة، ومرجعاً في الحلال والحرام، ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى، وآمن المسلمون جميعاً بعلمه واستقامته وأفضليته، وانقاد الواعون منهم إلى زعامته وفقهه ومرجعيته(8).
ويعتبر الإمام السجاد (عليه السلام) المؤسس الثاني للمدرسة الإسلامية ـ كما يرى البعض ـ، وكان المسجد مدرسته يزدحم فيها الطلاب عليه، وأصبح تلامذته فيما بعد بناة الحضارة الإسلامية ورجال فكرها وتشريعها وأدبها الإسلامي(9).
يقول الشيخ محمد حسين المظفر في كتابه تاريخ الشيعة: (ظهر ابن الزبير بمكة واستتب له الأمر في الجزيرة تسع سنين، فاشتغل الأمويون بابن الزبير وابن الزبير بالأمويين، وزين العابدين (عليه السلام) في عزلة عن هذا التطاحن الدنيوي وانصرف شطر من الناس إلى العلم وشطر إلى السياسة).
وأصبح لكل من أمري السياسة والعلم شأن في البلاد … وابتدأ في العهد ارتكاز العلم على القواعد والأصول وابتدأت المناظرات والمحاججات والمذاهب والطرائق، وكان في هذا العصر الفقهاء السبعة في المدينة، الذين يرجع الناس إليهم في الفقه، وكانوا يفتون على آراء أهل السنة وأصولهم، فكان في هؤلاء شيعيان، هما: القاسم بن محمد بن أبي بكر وكان من حواري زين العابدين (عليه السلام)، وسعيد بن المسيب وقد رباه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانا في الظاهر على رأي أهل السنة…)(10).
وقد قام الإمام (عليه السلام) بدور مهم في تزويد العلماء والرواة بأحاديثه في مختلف العلوم والفنون، ورووا عنه الصحيفة السجادية التي هي إنجيل آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وذلك لما حوته من الثروات الفكرية المتميزة بوضع قواعد الأخلاق وأصول الفضائل وعلوم التوحيد وغيرها(11).
لقد استطاع هذا الإمام العظيم بما أوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة على أساليب التعبير العربي وذهنية ربانية تتفتق عن أروع المعاني وأدقها في تصوير صلة الإنسان بربه ووجده بخالقه وتعلقه بمبدئه ومعاده وتجسيد ما يعبر عنه ذلك من قيم خلقية وحقوق وواجبات، فقد استطاع الإمام السجاد (عليه السلام) بما أوتي من هذه المواهب أن ينشر من خلال الدعاء جواً روحياً في المجتمع الإسلامي يساهم في تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات، وقد جاء في سيرة الإمام(12) إنه كان يخطب الناس في كل جمعة ويعظهم ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة، ويقرع أسماعهم بتلك القطع الفنية من ألوان الدعاء والحمد والثناء التي تمثل العبودية المخلصة لله سبحانه وحده لا شريك له.
شروح الصحيفة السجادية
نظراً للأهمية البالغة للصحيفة السجادية فقد ألف العلماء حولها شروحاً كثيرة، ذكر أغا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة والذي هو في ذكر تصانيف الشيعة، ذكر منها أكثر من أربعين شرحاً، إضافة إلى وجود تعليقات على الصحيفة السجادية، وأيضاً هناك من العلماء من كتب حواشي عليها، وإليك مجموعة من عناوين بعض هذه المؤلفات مع أسماء مؤلفيها(13):
1ـ السيد الداماد السيد محمد باقر الحسيني الاسترابادي (ت 1040هـ)، شرح الصحيفة: وهو مطبوع كتعليقات مشتمل على تحقيقات لطيفة.
2ـالسيد نعمة الله الجزائري (ت1112هـ)، شرح سماه (نور الأنوار) فرغ منه سنة (1087هـ) وطبع سنة 1316هـ..
3ـ ابن إدريس الحلي (ت 598 هـ)، شرح وهي تعليقات كتبها على الصحيفة.
4ـ الشيخ البهائي محمد بن الحسين بن عبد الصمد (ت1030هـ)، تعليق وشرح اسمه (حدائق الصالحين).
5ـ رياض السالكين وهو شرح للصحيفة السجادية مطبوع مشهور وهو شرح كبير جداً ومن أحسن الشروح وأطولها هو للسيد علي خان بن أحمد بن محمد المدني وينتهي نسبه إلى زيد الشهيد بن الإمام زين العابدين (عليه السلام) والمتوفى بشيراز سنة 1120هـ وقد أودع في هذا الشرح فوائد كثيرة ونقل فيه أقوال سائر الشراح والمحشين، وأطال البحث في أكثر العلوم لاسيما في العلوم العربية(14).
6ـ ومن الشروح الحديثة المحققة التي صدرت مؤخراً عن الأمانة العامة للعتبة الحسينية(15) شرح العلامة السيد محمد حسين الجلالي وتحقيق السيد رحيم الحسيني حين صار العمل في هذا الكتاب على تحقيق متن الصحيفة السجادية مع محاولة إخراج الشرح للصحيفة الكاملة حين خرج الكتاب في ثلاثة أجزاء، فقد جمع السيد محمد حسين الجلالي أدعية الإمام زين العابدين في الصحف السجادية المتداولة فبلغ مجموع الأدعية الواردة فيها حسب ترقيمه (86) دعاء، وبسبب اختلاف نسخ الصحيفة السجادية في عدد الأدعية المنسوبة للإمام (عليه السلام) لأن الراوي في سند الصحيفة المتداولة قد صرح بسقوط الأدعية منه ـ قام العلماء في البحث والتنقيب عن تلك الأدعية وعن سائر ما ورد عن الإمام السجاد (عليه السلام) لغرض الوقوف على تراثه (عليه السلام) فكانت النتيجة إنه عبر التاريخ ظهرت نسخ للصحيفة أو محاولات جمع لأدعية الإمام (عليه السلام) نذكر منها(16):
1ـ نسخ لابن إدريس الحلي. بخطه فرغ منها سنة 570هـ.
2ـ كتب الشهيد الأول نسختين الأولى سنة 772هـ والثانية 776هـ.
3ـ جمع المحدث محمد بن الحسن الحر العاملي صاحب الوسائل (ت1104هـ) صحيفة استخرجها من الأصول المعتمدة عنده، فرغ من جمعها سنة 1053هـ.
4ـ وجمع المحدث النوري (ت 1320هـ) سبعة وسبعين دعاء له (عليه السلام).
5ـ وجمع السيد الأبطحي جميع أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الموارد والمناسبات والمختلفة وضمنها أدعية الصحيفة السجادية فبلغ مجموع الأدعية الواردة فيها حسب ترقيمه (270) دعاء وسماها الصحيفة الجامعة طبعت سنة 1418هـ بقم.
وبعد هذه المحاولات يأتي جمع (السيد محمد حسين الجلالي لأكثر من نسخة وتحقيق السيد رحيم الحسيني للكتاب) فيكون الشرح والجمع والتحقيق محاولة جادة لها قيمتها في كشف تراث الإمام (عليه السلام) وله خصوصيته أيضاً فقد جمع هذا الشرح إضافة إلى فنون الأدعية الواردة أدعية الأيام عنه (عليه السلام) وكذا ضم إلى الشرح المناجاة الخمسة عشر لكي يكون شرحاً وافياً يقف فيه القارئ على فوائد ومصطلحات علمية آثر فيه المؤلف البيان والربط الموضوعي دون إطالة وتوضيح المفاهيم التربوية والتاريخية وغير ذلك بحسب موارد ومضامين أدعية الصحيفة السجادية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1ـ انظر رياض السالكين ج1، ص210. 2ـ تاريخ اليعقوبي ج2، ص212. 3ـ رياض السالكين ج1، ص210. 4ـ انظر مقدمة الصحيفة ص8 للسيد محمد باقر الصدر. 5ـ انظر مقدمة الصحيفة للسيد محمد باقر الصدر ص9 الأئمة الاثنا عشر دراسة تحليلية ص148 عادل الأديب. 6ـ كنز الفوائد/الكراجكي/ص271. 7ـ انظر ما نقله المؤرخ اليعقوبي في ج2، ص212ـ ص213 من كلماته وسيرته. 8ـ مقدمة الصحيفة السجادية ص8. 9ـ الأئمة الاثنا عشر ص145. 10ـ تاريخ الشيعة، العلامة محمد حسين المظفر ص46، دار الزهراء بيروت 1987. 11ـ الأئمة الاثنا عشر ص146. 12ـ انظر مقدمة الصحيفة السجادية ص12. 13ـ انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج13، ص209 من رقم 1281 فما بعد. 14ـ انظر رياض العلماء، عبدالله الأصفهاني ج3، ص366 رياض السالكين ج1 ص15. 15ـ صدرت الطبعة الأولى سنة 1436هـ. 16ـ انظر شرح الصحيفة السجادية السيد محمد حسين الجلالي ج1، ص17ـ 19، والذريعة ج15، ص15ـ 16 رقم 95.