تعد الصورة من مستلزمات التعبير الفني، وهي مظهر من مظاهر الفن والجمال في النصوص الأدبية ومؤشر قوي على عبقرية المبدع، وهي التي تكسب الكلام صفة الشعرية، وتتجلى فيها براعة المبدع في ترسيخ المعنى في ذهن المتلقي وإثارة انفعالاته. لقد عمد في مناجياته الخمس عشرة إلى توظيف الصورة الفنية بالاعتماد على تقنيات متعددة تقوم على الفطنة والثراء اللغوي للتعبير عن المعاني بطريقة فنية تمكنه من خلق عنصر الاستغراب أو التعجيب لزيادة التأثير الانفعالي في نفس المتلقي ودفعه باتجاه إجراء التعديل السلوكي المرتقب، وأبرزها:
أولا: التضاد:
تعد علاقة التضاد من أهم تجليات شعريّة النص الإبداعي، وهو من أكثر الأساليب فاعليّة في خلق البنى النصية الإبداعية، التي تستدعي حضورًا فكريًا ونفسيًا للمتلقّي في النص الإبداعي، لما يحدثه من خرق أو انحراف في بنية النص قادر على إحداث خرق من نوع آخر، هو خرق في أسلوب التفكير عند المتلقّي والتحرر من سلطان المألوف والطبيعي، وهو ما يدفع به إلى مزيد من التفاعل مع النص ويستدعي منه حضورًا ذهنيّا متميّزًا للكشف عن أغوار النص ودلالاته بمزيد من التأمل والتفكير.ورد التضاد بين (تصاغر) و (تعاظم) في قوله (إلهِي تَصاغَرَ عِنْدَ تَعاظُمِ آلائِكَ شُكْرِي) إذ تجسد من خلال التضاد الصراع بين نعمة الخالق وشكر المخلوق، وأي قيمة لشكر الناقص المحدود الفقير الضعيف الذي لا يدفع عن نفسه ضرًا ولا يجلب لها نفعًا في إزاء آلاء الخالق التي لا تعد ولا تحصى ولا يعتريها نقص أو أفول، وكأن الشكر قد ألجم وانكمش وقلَّ خطره وانطفأ نوره وانمحى أثره بتعاظم النعم وهيمنتها واستحواذها واتساع خطرها وقوة تأثيرها وشمولها.
ثانيا: البنية الفعلية:
تستعمل البنية الفعلية في الأغلب للدلالة على التحوّل والتغيير. وقد وظّفها الإمام(عليه السلام)في مناجياته للتعبير عن حالة القلق والاضطراب التي تنتاب الإنسان لحظة الشعور بالندم على موقف معيّن، أو التقصير إزاء التوجه الخالص، أو العبادة الحقّة لله تعالى، أو الشعور بالذنب إزاء الخطيئة أو المعصية، ويأتي هذا الأسلوب من الإمام في معرض الوعظ والتوجيه للأمّة لإجراء التغيير السلوكي المطلوب من جهة، ومن جهة أخرى في معرض التذلل والخضوع للخالق سبحانه وتنزيل النفس- مهما بلغت من السمو- منزلة الشيء المتناهي في الصغر في قبال مقام الذات الإلهية المقدّسة. لقد وردت البنية الفعلية في قوله:(قَدْ مَلاَ بِالْوَسْواسِ صَدْرِي، وَأَحاطَتْ هَواجِسُهُ بِقَلْبِي يُعاضِدُ لِيَ الْهَوى، وَيُزَيِّنُ لِي حُبَّ الدُّنْيَا) إذ أدَّت البنية الفعلية وظيفة مزدوجة فهي من جهة أفادت تغطية البعد الحركي للمشهد الذي صور لنا الهواجس جيشًا أو كتيبة من المقاتلين وقد زحفت إليه وأحاطت به وضربت حصارًا على قلبه، وكأني أسمع حركة الوساوس وهي تجيش في صدره، والمخاوف وهي تحكم قبضتها على قلبه وتروح وتغدو عليه لتسلبه الدعة والسكينة وتجعله في قلق واضطراب دائمين، ومن جهة أخرى أفادت الدلالة على التحول والانتقال من حالة إلى أخرى، إذ كان صدره فارغًا ساكنًا مطمئنًا وإذا به تملؤه الوساوس وتجعله مثقلًا مضطربًا، وإذ كان قلبه حرًا طليقًا وإذا به يغدو محاصرًا أسيرًا للمخاوف والقلق والحيرة.
ثالثا: البنية الاسمية:
تستعمل البنية الإسمية في الأغلب للدلالة على الثبوت والاستقرار. وقد وظّفت في كلام الإمام(عليه السلام) للتعبير عن البعد النفسي للإنسان المؤمن في مناجاته لله عز وجل والتضرع إليه فضلًا عن وظيفتها الدلالية المتمثلة في تأكيد المعنى المقصود وترسيخه في ذهن المتلقي. وردت البنية الاسمية في قوله: (َأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسِي، وَإلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإلى هَواكَ صَبابَتِي، وَرِضاكَ بُغْيَتي، وَرُؤْيَتُكَ حاجَتِي، وَجِوارُكَ طَلَبِي، وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلِي، وَفِي مُنَاجَاتِكَ رَوْحِي وَراحَتِي، وَعِنْدَكَ دَوآءُ عِلَّتِي، وَشِفآءُ غُلَّتِي، وَبَرْدُ لَوْعَتِي، وَكَشْفُ كُرْبَتِي ) للدلالة على الثبوت والاستقرار ومطابقة القول الظاهري للاعتقاد الباطني وأن المعاني المذكورة هي أمور ملموسة وحقائق محسوسة، وذلك لأن القرب من الله تعالى ووصاله والظفر برضاه هو الغاية الأسمى ومنية نفس المؤمن وطلبته ومراده وأن الشكوى إليه وحده سبحانه إقرار له بالقوة واللطف وتسليم لإرادته وحسن ظن به، أما الشكوى لغيره فذل للعبد وسوء ظن منه بربه وخالقه، وكذلك فإن الوجد والشوق واللوعة والسقم سمات العاشق المتيّم بمعشوقه، ولا شك أن حب الله تعالى يسمو على حب البشر لأنه أمل العارفين وغاية المحبين ودليل التائهين ومنتهى طلب السائلين، وهو الرحمن البر الرحيم الذي تتطلع إليه العيون المفتونة وتشتاق إليه القلوب المشغوفة وتتوق إلى قربه ووصاله النفوس الزكية الملهوفة.
رابعا:الاستعارة:
تعد الاستعارة أداة الشاعر في عملية الخلق الشعري. وهي أقدر وسائل التعبير الفني على إحداث التأثير المطلوب في المتلقي ومنح التعبير الشعري هويته الفنية والجمالية، إذ تجنح إلى تشكيل علائق غير متجانسة وإحداث خروقات غير مسبوقة لتنسحب من فلك المألوف والمتجانس إلى نقيض ذلك، يقول الدكتور مجيد عبد الحميد: (إن الاستعارة عملية خلق جديد في اللغة ولغة داخل اللغة فيما تقيمه من علاقات جديدة بين الكلمات وبها تحدث إذابة لعناصر الواقع وإعادة تركيبها من جديد، وبذلك تمنع الاستعارة اللغة الشعرية من الابتذال بما تقوم عليه من مبدأ تجاوز اللغة الدلالية إلى اللغة الإيحائية. وقد لعبت الاستعارة دورًا مهمًّا وحيويًا في تشكيل الصورة الشعرية في مناجيات الإمام(عليه السلام)، ومما ورد من استعاراته:
استعارة الشجرة للشوق والحديقة للصدر في قوله:(إلهِي فَاجْعَلْنا مِنَ الَّذِينَ تَرَسَّخَتْ أَشْجارُ الشَّوقِ إلَيْكَ فِي حَدآئِقِ صُدُورِهِمْ) لكون الشجرة والشوق يمتلكان القدرة أو القابلية على النمو والترعرع والإثمار، وإن الحديقة والصدر يمثلان الحاضنة أو التربة الصالحة للنمو والترعرع، وهما استعارتان تصريحيتان إذ شبه دواعي الشوق بالأشجار في إمكانية النمو والاشتداد ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به، وشبه جوانح الصدر بالحديقة فكما أن الحديقة تحتضن البذور حتى تنبت وتصير أشجارًا، كذلك جوانح الصدر تشتمل على الشوق فينمو بداخلها ويترعرع ثم حذف المشبه وذكر المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية.
واستعارة الوجه المبرَّز (السافر) للمعصية المُعرّاة (وَانْزَعْ عَنَّا جَلابِيبَ مُخالَفَتِكَ)، وهي استعارة مكنية تخييلية إذ شبه المعصية أو (المخالفة) بالوجه فكما أن الوجه يسفر وتبرز ملامحه إذا رفع عنه الخمار، فكذلك المعصية تتعرّى وتفتضح إذا أزيلت مسوغاتها ودواعيها، ثم حذف المشبه به وأبقى على لازمه وهو الجلباب، ويحتمل أن تكون استعارة تصريحية فيكون شبه الأهواء بالثياب في إمكانية خلعها والتخلص منها فضلًا، عن كونها تزيّن المعصية للإنسان كما تزيّن الثياب البدن، ثم حذف المشبه وذكر المشبه به وأراد أنه يمكن للنفس بالإرادة الصلبة والتوفيق الإلهي أن تتخلص من أهوائها ونزعاتها المنحرفة كما يتمكن الإنسان من أن يخلع ثيابه الرديئة أو المتسخة ويتخلص منها.
واستعارة السبع للمنية في قوله: (وَعَلَّقَتْنا بِأَيْدِي الْمَنايا فِي حَبائِلِ غَدْرِها) إذ يشتمل النص على استعارتين، الأولى استعارة السبع للمنية وهي استعارة مكنية فقد شبه المنية بالسبع في كونهما يفاجئان فريستهما، فكما أن السبع يتحين الفرصة لمفاجأة الفريسة والانقضاض عليها، فكذلك الموت يفتك بالإنسان فجأة ومن دون إنذار سابق أو موعد محدد، ثم حذف المشبه به وأبقى لازمه وهو اليد، أو تكون من باب الاستعارة التخييلية أي جعلتنا في قبضة المنية وتحت حكمها، وإن فعل المنية بالإنسان فعل القابض على الشيء يقلبه بيده، والثانية استعارة الصياد للمنية إذ شبه المنية بالصياد في الإمهال والمكر والخديعة، فكما أن الصياد يلقي شباكه ويتلطف في إخفائها ليصطاد بها فريسته فكذلك المنية في إعراضها وإمهالها للإنسان قبل أن توقع به فجأة وتصطاده على حين غرَّة، ثم حذف المشبه به وجاء بلازمه وهو الحبال.
خامسا: التناص:
عمد الإمام(عليه السلام) إلى تشكيل صوره ببراعة وحرفية عالية، ولعبت الصورة في كلامه دورًا نفسيًا في التـأثير في المتلقي فضلًا عن دورها في التعبير عن المعاني بطريقة فنية، وكان للصور القرآنية حضور فاعل في فكر الإمام(عليه السلام) ولذلك جاء التناص في مناجياته مع صور قرآنية عديدة، منها:
صورة الرجل المتلبِّس بالفتن المكتوي بنارها الذي جعلته غرضًا لسهامها وأصابت منه مغنمًا عظيمًا، في قوله: (وَلاتُصَيِّرَنِي لِلْفِتَنِ غَرَضاً)، وقد وردت في قوله تعالى: (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا) (سورة النساء:91) وقوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)(سورة المائدة:41).
وصورة الرجل الغافل عن ذكر الله، الذي تمادى في طلب الدنيا وعزف عن الآخرة، ولها عنها وقد غفا ونام وعشعشت على رأسه الطير وباضت وأفرخت وهو غارق في ملذاته وأحلامه، طالب عرض الدنيا الزائل زاهد في الآخرة ونعيمها الدائم لا يحرك ساكنًا ولا ينتبه من طول نومته ولا يصحو من شدة سكرته، في قوله (إلهِي إليْكَ أَشْكُو نَفْساً…مَمْلُوَّةً بِالْغَفْلَةِ وَالسَّهُوِ)، وقد وردت في قوله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (سورة الأنبياء: 1)، وقوله: (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) (سورة الأنبياء: 97).
وصورة الرجل الآيس من الشيء ثم لا يلبث أن يجده في متناول يده، وهذا أوقع في النفس وأشد تعلقًا في القلب لأن الشيء إذا عزّ طلبه واستنفد لأجله الجهد ولم يكن يتصوّر حصوله أو تحققه، وإذا به يظفر به ويستحوذ عليه، فعندها يكون نيله أحلى وأشغف وموقعه من النفس أجل وألطف، عبّر عنها الإمام(عليه السلام) في قوله: (وَإنْ أَوْحَشَ ما بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَرْطُ الْعِصْيانِ وَالطُّغْيانِ، فَقَدْ آنَسَنِي بُشْرَى الْغُفْرانِ وَالرِّضْوانِ)، وقد وردت في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)(سورة يوسف: 110)
نشرت في العدد 57
الصحيفة السجادية: 203
م ن: 197
م ن: 207
ظ : قضايا الشعرية :158
ظ : الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية، مجيد عبد الحميد ناجي،ط1, 1984م :107.
الصحيفة السجادية: 212
من:216
من:216
من: 197
الصحيفة السجادية: 196
الصحيفة السجادية: 201