Take a fresh look at your lifestyle.

نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) في نظر ابن تيمية

0 608

    استأثرت نهضة الإمام
الحسين(عليه السلام) بدراسات العلماء والمفكرين والباحثين من مسلمين وغيرهم ومن القدامى والمعاصرين، وكانت طبيعة تلك الدراسات ـ في الأغلب ـ تعنى بالجانب التحليلي وتسليط الضوء على شخوصها ومشاهدها والعوامل والأسباب المؤدية بحصولها، والقدر الجامع لتلك الدراسات والأبحاث هو الإشادة بعظمة تلك النهضة وصاحبها وأنها أنارت السبيل لأحرار العالم ومستضعفي الشعوب للانعتاق من أسر العبودية والخلاص من ربقة الذل والاستعباد، فضلاً عن استخلاص الدروس والعبر من تلك التضحية الجسيمة، والتأكيد على ما يتمتع به قائد تلك الحركة المباركة بكونه رضيع ثدي النبوة ولصيق حضن الإمامة، بما أكسب تلك النهضة عظمة تضاف إلى سلسلة العظائم الأخرى في دنيا الخلود والمجد، فهي امتداد لدور الأنبياء ورسالاتهم الإلهية في البلاغ والتحذير من العواقب والموعظة والفداء في سبيل المبدأ الحق ونصرة المظلوم وإعلاء كلمة الدين والإنسانية، أضف إليها ما جسده أبو الأحرار في ذلك المشهد العظيم من صور البطولة والتضحية والفداء والبذل واسترخاص الأرواح في سبيل العقيدة ونصرة الحق ورفعة الإسلام الأصيل، ما أذهل العدو قبل الصديق،

وطبيعي جداً أن تنصف الأقلام الحرة والبحوث والكتابات المنصفة تلك النهضة للمعاني السامية والخصال النبيلة التي أفرزتها وجسدتها على أرض الواقع بما سطرته كتب التاريخ ودبَّجته أقلام الدراسات، إلا ما شذّ من الآراء والأقلام المأجورة والكتابات الحاقدة من الذين أعمتهم العصبية عن رؤية الحق وطمست بصائرهم غشاوة الحقد والضغينة فجعلتهم يتخبطون في بيداء الوهم والضلال ويفقدون التوازن بعدم إبداء الحقيقة وكشف الواقع والدفاع عن الحق والعدالة، أمثال أنيس النصولي، وابن العربي صاحب العواصم من القواصم، وإبراهيم الجبهان وعبد الله محمد الغريب وإحسان إلهي ظهير، وفي طليعة هؤلاء يأتي ابن تيمية المعاند للحق والمعروف بإنكاره المسلمات وتزييف الحقيقة والواقع والتحمل على أهل البيت(عليهم السلام) الذين طهرهم الله تعالى وإنكار فضائلهم وقلب الموازين ومجافاة الحق والمروءة والإنصاف والاستعداد بكل ما أوتي لتضعيف أو إنكار الأحاديث الصحاح والحسان لمجرد مخالفتها مذهبه وقد سجل هذا العيب عليه ابن حجر(1) وهو أمر معروف عنه عند المحدثين بحيث إن أحداً منهم لم يعتمد تضعيف ابن تيمية للأحاديث(2)

وفي المقابل دفاعه المستميت عن أعداء أهل البيت(عليهم السلام) كالأمويين ومناصرتهم وفي مقدمتهم يزيد بن معاوية، فراح يبرر أفعاله المخزية ويلتمس الأعذار لتصرفاته المشينة والتأويل المجحف لجرائمه وموبقاته التي سجلها التاريخ واحتفظت به ذاكرة الزمان، فمما جاء عن يزيد قوله: (وأقوام يعتقدون أنه كان إماماً عادلاً هادياً مهدياً وإنه كان من أكابر الصحابة ومن أولياء الله تعالى وربما اعتقد بعضهم أنه من الأنبياء ويقولون من وقف في يزيد وقفه الله على نار جهنم)(3)

ثم كافح ونافح عن يزيد وذب عنه كثيراً ولم يكتف بتبرير أفعاله من نقض لأحكام الشريعة وتعطيل لحدود الله وإيغاله بسفك دم الأبرياء وقتل أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهتك الحرمات واستباحة المدينة المنورة وقتل رجالها واستحياء نسائها وهدم الكعبة المشرفة وغيرها من الفواحش والبوائق لم يكتف بهذا فحسب بل تجرّأ على السنّة المطهّرة ورسولها الأعظم(صلى الله عليه وآله)
فقام بتكذيب أحاديثه الصحيحة وتحريف الأخرى منها والتعلق بالموضوعات والمفتريات لا في مقام الدفاع عن الأمويين ويزيدهم بل تزكيةً وتعظيماً لهم وسيأتي الكلام لا حقاً.
لعلّ أول ما يطالعنا به ابن تيمية قوله: (إن بني أمية ليسوا بأعظم جرحاً من بني إسرائيل فمعاوية حين أقر بسم الحسن فهو من باب قتال بعضهم بعضاً)(4) ويزيد ليس بأعظم جرحاً من بني إسرائيل كان بنو إسرائيل يقتلون الأنبياء وقتل الحسين ليس بأعظم من قتل الأنبياء(5). فكأن منطق القتل مسألة طبيعية جداً في عرف ابن تيمية لذا قاسها مع جرائم بني إسرائيل، ثم تتعدى نزعة التبرير هذه عنده للمحاولة في ستر جرائم يزيد فيقول: (ولا يقل أحد أنه كان على أسوأ الطرائق التي توجب الحدّ)(6)،

والعجب كل العجب أن الجرائم والانتهاكات التي قام بها يزيد من قتل سيد شباب أهل الجنة وإباحة المدينة المنورة وهدم الكعبة الشريفة بالمنجنيق والاعتداء على المحرمات وهتك الأعراض والافتضاض كل تلك الجرائم والموبقات لا توجب الحد عند (شيخ الإسلام) فكأن ما ذكره التاريخ عن شيخه يزيد بن معاوية لم يطرق سمعه وما شحنت به كتب السير والتراجم لم ينقله أحد بما يوجب الحد، ومع كل تلك الجرائم فهي ليست ذات بال قياساً مع جرائم بني إسرائيل بنظر ابن تيمية ومع أنه اعتراف منه بقيام يزيد بتلك الجرائم إلا منطق التبرير هذا يبيح قتال بعضهم البعض شرعته فما المانع من قتل سيد شباب أهل الجنة(عليه السلام) كونه أخف وطأة من قتل بني إسرائيل أنبياءهم!! بهذا المنطق وهذه الجرأة والصلافة والتأويل المجحف يبرر قتل الأنبياء وأبناء الأنبياء معرضاً بوجهه عن آيات القرآن الصادحة بتحريم قتل الأبرياء وسفك الدماء المحترمة فضلاً عن الأحاديث والروايات الداعية إلى عدم سفك الدماء بغير حق واحترام الإنسانية وصيانة حقوقه.
إن نزعة التبرير لدى ابن تيمية هذا تعتبر أن ما قام به يزيد هو اجتهاد منه فيقول: (وأما أهل التأويل المحض فأولئك مجتهدون مخطئون خطؤهم مغفور لهم وهم مثابون على ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم واجتهادهم في طلب الحق واتباعه)(7) ويدعم رأيه هذا زاعماً اتفاق العلماء عليه على (أنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب ولا بمجرد التأويل وإن الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله تعالى)(8) واستناداً إلى كلامه هذا فإن يزيد من أهل الحسنات إذن، ثم يضيف إلى ما سبق بأن (ما فعله يزيد في أهل الحرّة ما لا نستريب أنه عدوان محرم وكان له موقف في القسطنطينية ـ وهو أول جيش غزاها ـ ما يعد من الحسنات)(9)
وعليه فبالموازنة بين ما فعله يزيد في أهل الحرّة ـ وهو اعتراف صريح منه بعدوانه ـ
وبين خروجه للقسطنطينية فإن الأمر الثاني حاكم على ما فعله في أهل الحرّة بل إنه مأجور في فعلته هذه إن أخطأ لاجتهاده، وعلى كل التقادير فإن حكاية خروج يزيد في جيش القسطنطينية ما هي إلا منقبة مفتعلة أراد منها أبوه معاوية زجّه في ذلك الجيش ليجعل منه رمزاً ومغفوراً له مع أن المقصود بتلك الواقعة هو عثمان بن عوف (وبعد سنتين من مضي الواقعة أراد معاوية إلحاق يزيد بها فتثاقل من الذهاب إلى تلك الغزوة مستعيضاً عنها بالوسائد الوثيرة وبجانبه أم كلثوم امرأته)(10)

وأما ما جاء عن أهل الحرّة وقتاله لهم واستباحة مدينة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) فإن ابن تيمية يقدم لنا صورة أخرى مشوهة من صور الاعتذار عن يزيد وجرائمه فيقول: (فأما أهل الحرّة فإنهم لما خلعوا يزيد وأخرجوا نوابه أرسل إليهم مرّة بعد مرّة يطلب الطاعة فامتنعوا فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المرّي وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة أيام وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد)(11)

وبالتالي فإن ما قام به من جرائم فهو معذور فيها بل مأجور عند ابن تيمية في قتله الأبرياء والصالحين من المهاجرين والأنصار وأبنائهم وفيهم القرّاء ولم ينصَع لمنطق العقل والدين والضمير بما يقتضي البحث في أسباب خروج أهل المدينة على يزيد ولماذا كانت تلك الواقعة؟ وما الذي أراده يزيد منهم بعدها؟ فقد (عظم إنكار الناس لإباحته المدينة واغتصاب نسائها حتى افتضت نحو ألف عذراء)(12) ومع هذا الفعل الشنيع يعتذر ابن تيمية لخليفته بالقول: (لكنه ـ أي يزيد ـ لم يقتل جميع الأشراف ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي(صلى الله عليه وآله))(13)
فكأن القتل أمر طبيعي جداً إذا لم يبلغ العدد المذكور ولم يصل إلى قبر النبي(صلى الله عليه وآله)
وكأنه تبرير لانتهاك الحرمات والاعتداء على الدماء البريئة، فبهذا المنطق وهذه الفلسفة وهذه التأويلات الفاسدة استند الظالمون وثبتوا عروشهم وبرروا شرعية حكمهم، ففي كل زمان حزمة من فقهاء السوء والسلطان من يبرر عمل الظالم ويلتمس له المعاذير ولو كانت على حساب الدين والدماء البريئة فإن العصبية الرعناء تعمي وتصم وتصبح عندها الفتاوى جاهزة، وإن هذا وأمثاله هو الذي غذى الحركات الإرهابية فيما مضى وإلى الآن.
ولابد من بيان الأسباب التي دعت إلى حركة المدينة، فقد شخص أمير حركتها عبد الله بن حنظلة وأبوه هذا هو المعروف بغسيل الملائكة، يقول عبد الله في سبب خروجه على يزيد :
(والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة)(14)

فهذا هو إذن ذنب أهل المدينة في خروجهم على خليفة ابن تيمية فما من حقهم الخروج باعتباره خليفة وإن شرب الخمر وزنى بالمحارم وقتل الأبرياء كونه الخليفة المطاع ويلزمه التأويل الفاسد في القتل بل هو مثاب ومأجور ومن أبى فإن السيف وفتاوى السوء والتكفير تنتظره، لذا أوجب يزيد على من بقي من أهل المدينة البيعة على أنه من أبى ضربت عنقه حتى وإن استدعى الأمر إلى حرق الكعبة، فقد ذكر المؤرخون أن جيش يزيد لما انتهى من القضاء على حركة أهل المدينة في واقعة الحرّة توجه إلى مكة قاصداً ابن الزبير الذي كان معتصماً بها فحوصر ورمى بالمنجنيق حتى أحرقت الكعبة، ولا بأس في ذلك أو ضير فإن الأمر جائز باعتباره غير مقصود في عرف ابن تيمية إذ يقول: (إن حريق الكعبة لم يقصده يزيد وإنما كان مقصوده حصار ابن الزبير والضرب بالمنجنيق كان له لا للكعبة، ويزيد لم يهدم الكعبة ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين)(15)

هذا إذن دين ابن تيمية وليس دين محمد (صلى الله عليه وآله) فإن دين الله أسمى من الدعوة لقتل عباد الله وحرق بيته الشريف وتبرير أفعال الظلمة والمفسدين فإن هذا الفهم المعوج والرأي المنحرف وتلك العقيدة الفارغة هي التي رسخت قواعد حكام الجور وشوهت صورة الإسلام الأصيل، واستناداً إلى كلامه هذا فإن قتل الحسين(عليه السلام) لا يعد في ذنوب يزيد ولا هو من المنكرات، فإن مما تنكر له ابن تيمية (إن يزيد لم يظهر الرضى بقتله وأنه أظهر الألم بقتله والله أعلم بسريرته وقد عُلم أنه لم يأمر بقتله ابتداء، ولكنه مع ذلك ما انتقم من قاتليه ولا عاقبهم على ما فعلوا إذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه.. )(16)

ومعنى هذا الكلام أن ابن تيمية لم يكن من دأبه وديدنه إنكار المسلمات والحقائق فحسب بل التجاهل والتغاضي عما تسالمت عليه كتب التاريخ، فكأن ما ذكرته الكتب ما طرق بسمعه. وللرد على مزاعمه هذه أن عبيد الله بن زياد اعترف لصاحبه مسافر بن شريح اليشكري بقتله للحسين(عليه السلام) فقال: (أما قتلي الحسين فإنه أشار إليَّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله)(17)،
وممن ذكر هذه الحقيقة وأثبتها ابن العماد الحنبلي(18) والشبراوي(19) وغيرهم كثير، فليس بمستغرب من (شيخ الإسلام)هذا الكلام وأسوأ منه مراغمته للقرآن الكريم الذي أعطى حق العترة ومودتها مستنكراً ومؤولاً تلك الآيات النازلة بحقهم(عليه السلام) خدمة لأسياده الأمويين ودفاعاً عن سيدهم يزيد، فلا ينتظر منه أن يثني على نهضة الحسين(عليه السلام)
ولا من شأنه أن يتمثل تلك المواقف النبيلة ومنها ما أعلنه(عليه السلام) في أحد بياناته: (أيها الناس إن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله)
يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غيّر)(20)
فعن هذا الموقف يقول ابن تيمية: (هذا رأي فاسد فإن مفسدته أعظم من مصلحته وقلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولّد على فعله من الشر أعظم مما تولّد من الخير)(21)
ويقول أيضاً: (ولم يكن في خروجه مصلحة لا في دين ولا في دنيا وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن يحصل لو قعد في بلده)(22).

أجل الوقوف بوجه الظلم ومقاومة الانحراف يعد مفسدة في دين ابن تيمية والرضا بحياة الذل والخنوع وتبرير أفعال الظالمين في القتل والتشريد وسفك الدماء مصلحة في عرف هؤلاء، والغريب بنفس الوقت إنه يريد أن يعرّف سيد الشهداء موقفه الشرعي ويعد ذلك في أن خروجه ما فيه مصلحة لا في دين ولا في دنيا في عرف فقهاء السلطان وكأن آيات القرآن لم تطرق سمعه آناء الليل وأطراف النهار، قال تعالى: (ولا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(هود:113) وعلى منطق ابن تيمية أنه كذلك لا يصح للأنبياء والرسل وأصحاب الرسالات الخروج على أي ظالم مهما ارتكب لأن في خروجهم الشر وإن المفسدة المترتبة على خروجهم أعظم من المصلحة وهو الذي يعلمهم تكليفهم فهل غاب عنه قوله تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ)(البقرة:154) وقوله: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169) كلا لم تغب عن باله هذه الآيات وأمثالها وإنما العصبية والأضغان هي التي تعمي عن رؤية الواقع وقول الحق وإلا في أي عقل وفي أي منطق ودين يعتبر الوقوف بوجه الباطل ومواجهة الانحراف مجلبة للشر؟ وكأنه صار من العرف السائد لغة الخنوع والخضوع والذل والاستكانة مهما بلغت وحشية الظالم من اعتداء وابتزاز ومصادرة الحريات وسحق الكرامات
وأقبح منه وألعن من يلتمس له المعاذير من فقهاء السلاطين، فهم الذين يحددون الواقع ويرسمون خطى الطغاة، لذا تجد من ضمن تبريراتهم السيئة اعتبار الخروج على السلطان بغيًا مهما ارتكب وإن كان سيد شباب أهل الجنة (لأن خروجه مما أوجب الفتن)(23)
والمقصود بالفتن في قاموس ابن تيمية ودينه أن الحسين(عليه السلام) هو المسبب لها بما أفضى إلى خروج أهل المدينة على يزيد في واقعة الحرة وما قام به ابن الزبير وحركة التوابين وكذا حركة القرّاء ونهضة زيد بن علي وغيرها من الحركات والنهضات التي استهدفت صميم الباطل. أجل غير مألوف هذا الأمر وإنما المتعارف عند هؤلاء الدعوة إلى العبودية والهوان وحياة الذل والامتهان وبخلافه القتل وسفك الدماء والاضطهاد ولعل أسوأ ما يمثله استغلال الدين هو التسخير البشع في خدمة الظالم والتأويل المجحف لنصوصه خدمة للحكام الجائرين وتعال معي لنتعرف إلى الأكاذيب الأخرى لـ (شيخ الإسلام) التي يرسلها إرسال المسلمات فقد جمع المؤرخون في قضية شهادة الحسين(عليه السلام) على حز رأسه الشريف وحمله مع رؤوس من استشهد معه بصحبة السبايا إلى الشام وإدخالها على يزيد، أما عند ابن تيمية فإن (نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد)(24)

ويضيف إلى ذلك (أن القضية التي يذكرون فيها حمل الرأس إلى يزيد ونكته بالقضيب كذبوا فيها)(25) وكعادته في الكذب واقتطاع النصوص يقول: (والمصنفون من أهل الحديث في ذلك كالبغوي وابن أبي الدنيا ونحوهما هم بذلك أعلم وأصدق بلا نزاع بين أهل العلم)(26) وكذلك (من المعلوم أن الزبير بن بكار ومحمد بن سعد صاحب الطبقات أعلم بهذا الباب وأصدق في ما ينقلونه من المجاهيل الكذابين)(27) وينتهي إلى (أن الذين جمعوا أخبار الحسين(عليه السلام)
ومقتله مثل ابن أبي الدنيا والبغوي وغيرهما لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل إلى عسقلان أو القاهرة)(28) ويمكن لنا بيان جلية الحال بالرجوع إلى ما قاله هؤلاء لتتضح الحقيقة ويثبت الصحيح أم الكذب، فقد نقل ابن الجوزي في كتابه الرد على المتعصب العنيد كلام المذكورين في شأن الموضوع فيقول: (قال ابن أبي الدنيا ثم دعا ابن زياد زحر بن قيس فبعث معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد)(29) وقال ابن أبي الدنيا: وضع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو برزة فجعل يزيد ينكت بعصاه على فيه، ويقول:
يفلقن هاماً من رجالٍ أعزةٍ
علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
قال ابن الجوزي وهو ينقل عن أبي الدنيا ومحمد بن سعد عن مجاهد قال جيء برأس الحسين بن علي فوضع بين يدي يزيد بن معاوية فتمثل هذين البيتين:
ليت أشياخي ببدر شـهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلّـوا واستهلّـــوا فرحـاً
ثـم قالـوا يا يزيــد لا تشــل
قال مجاهد نافق فيها ثم والله ما بقي في عسكره أحد إلا تركه أي عابه وذمّه(30). وأخرج الذهبي عن الزبير بن بكار والليث بن سعد أنهما ذكرا حمل الرأس إلى الشام ووضعه بين يدي يزيد وتمثل يزيد بالبيتين، ثم قال الذهبي: وقال ابن سعد ـ صاحب الطبقات ـ والمديني عن رجالهما قُدم برأس الحسين على يزيد(31). هذا هو إذن مبلغ صدق (شيخ الإسلام) ابن تيمية وهذه هي أمانته على التاريخ فإن العصبية الجاهلية والحقد الدفين لا شك يخرج الانسان عن طوره ويفقده توازنه فتجعله يتخبط وإن دعا ذلك إلى الكذب والافتراء والبهتان، والغريب أنه لا زال (شيخ الإسلام) بنظر محبيه والمعجبين بفكره، ولنستمع بعد إلى مغالطاته وأكاذيبه الأخرى، فقد أنكر وكَذَّبَ مصيبة سبي نساء العترة بعد الواقعة مع أنه قد أجمع المؤرخون على ذلك فبعد استشهاد الحسين(عليه السلام) ورجاله حملوا رؤوسهم إلى ابن زياد ومنه إلى يزيد في الشام معها نساء أهل البيت(عليهم السلام)
بعد انتهابهن وسلب الشهداء مع تركهم على الرمضاء بالعراء، ولكن ابن تيمية كعادته يقول: (ويزيد لم يَسْبِ للحسين حريماً بل أكرم أهل بيته)(32)

وقد ذكر هذا الأمر محمد بن سعد صاحب الطبقات وابن أبي الدنيا كذلك، اللذين أبدى ابن تيمية ثقته بهما(33) وقال ابن حبان: (أنفذ عبيد بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع أسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) على أقتاب مكشفات الوجوه والشعور. وأدخلوا دمشق كذلك فلما وضع الرأس بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينقر ثنيته بقضيب كان في يده ويقول: ما أحسن ثناياه)(34) وهذا العمل الشنيع هو الذي دعا عبد الله بن عباس أن يبعث بكتاب إلى يزيد موبخاً إياه على فعله الشنيع هذا(35).
هذا ما تيسر لنا جمعه ونكتفي خوف الإطالة أكثر لكن به الكفاية لأهل العلم والدراية. وبعد كل الذي ذكر أو يقال ستبقى نهضة أبي الأحرار تمد الأجيال بدروس التضحية والعبر لتأخذ منها معالم كفاحها ونضالها ضد الطواغيت برغم ما يحاوله المرجفون وأصحاب الأقلام المأجورة والأفواه المسعورة للمحاولة في تزوير الحقائق وتشويه الحق الناصع والتعتيم على الواقع الأبلج وتزيين الباطل كل تلك المحاولات وما بعدها لم تفلح أمام ذلك البريق والشعلة الوهاجة والدرب اللاعب الذي رسمه الإمام الحسين (عليه السلام). ستبقى نهضته تنير دروب الكفاح ضد الفساد والمفسدين ومناراً لأحرار العالم وستبقى معها الأقلام الحرة والضمائر الحية وستندحر كل محاولات السوء والتلفيق، فما كان لله ينموا برغم ما أراده أصحاب النيات السوداء والأغراض الخبيثة ممن لا تروقهم قواعد الحضارة الإسلامية الصحيحة في إقامة صرح الإنسانية الخالدة على أسس الحق والإنصاف والحرية والعدالة الاجتماعية.

نشرت في العدد 60


1) لسان الميزان 6/ 319.
2) ينظر الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 344، 400.
3) ابن تيمية: الوصية الكبرى ص52.
4) ابن تيمية: منهاج السنة 2/ 225.
5) منهاج السنة 2/ 243.
6) ابن تيمية رأس الحسين(عليه السلام) ص207.
7) المصدر نفسه ص204.
8) ابن تيمية: رأس الحسين(عليه السلام) ص206.
9) المصدر نفسه ص207.
10) ذكر تلك الحكاية ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3/ 458 الحموي، ياقوت: معجم العلوان في تعريفه: (دير مرّان) نقلاً عن الطبراني.
11) ابن تيمية: منهاج السنة 2/ 256، الوصية الكبرى ص54.
12) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص195.
13) ابن تيمية: منهاج السنة 2/ 253.
14) تاريخ الخلفاء ص165.
15) منهاج السنة 2/ 254.
16) رأس الحسين ص207.
17) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/140.
18) شذرات الذهب 1/ 68ـ 69.
19) الأتحاف بحب الأشراف ص62، 65.
20) الكامل في التاريخ 4/ 48.
21) منهاج السنة 2/ 241.
22) المصدر نفسه والجزء والصفحة.
23) منهاج السنة 2/242.
24) رأس الحسين ص207.
25) المصدر نفسه ص206.
26) المصدر نفسه والصفحة.
27) المصدر نفسه ص198.
28) المصدر نفسه ص197.
29) ابن الجوزي: الرد على المتعصب العنيد ص45.
30) ابن الجوزي: الرد على المتعصب العنيد ص47ـ 48.
31) الذهبي تاريخ الإسلام 5/18ـ 19.
32) منهاج السنة.
33) ينظر ابن الجوزي: الرد على المتعصب العنيد ص40.
34) ابن حبان: الثقات 2/312ـ 313.
35) ينظر اليعقوبي: التاريخ 2/250.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.