كوّن الله عز وجل هذا الكون وشاده وألزمه سننًا ضابطة، وقواعد هادية وقوانين ثابتة، لذا فهو خلو من الجزاف والخبط والاعتباط، ومن هذه السنن التي ثبتها الله (تعالى) في الوجود وثبَّتَ الوجود بها سُنَّة الزوجية، لقد حفل الكتاب العزيز بآيات عديدة تفصل القول وتوضحه في سنة الزوجية، ونفهم من هذه السنة أو قاعدتها أو قانونها، سنة عامة لجميع الخلق، فكل شيء في هذا الكون ـ والإنسان شيء ـ والحيوان شيء، والنبات شيء، والجماد شيء، وأشياء متنوعة متعددة، لا يعلمها إلا خالقها عز وعلا، أبدع قانون أو سنة الزوجية، وسبحان الخلاق العظيم!!!، فبناء الكون على القاعدة الزوجية (الثنائية) آية من آيات الله تعالى ستكشفها علوم المستقبل بقوله : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(فصلت:53)وحينما نتأمل بدء الآية الكريمة بحرف السين، وهي تفيد الاستقبال، والاستقبال عملية متصلة دائمة لا تتوقف إلى قيام الساعة، فهي عملية موصولة كذلك، فمخلوقاته أو مفعولاته من أدل الأشياء على صفاته وعلى صدق ما أخبرت به رسله عنه.
ويجيء العلم الحديث، المؤسس على الملاحظة والنظر أو المشاهدة العلمية والتجارب ليكشف عن جانب من أسرار هذه المسألة، فقد كشف العلماء في مجال علم الأحياء، بقسميها: عالم الحيوان وعالم النبات نظاماً دقيقاً، إذ اكتشف العلماء التجريبيون أن كل شيء في هذين العالمين (الحيوان والنبات) مبني على أساس زوجي ثنائي، فيتشابه الإنسان والحيوان وكل الكائنات الحية، التي أحيط الإنسان بها علماً، والنبات بأنواعه وأشكاله في خاصية الزوجية، فلا يتم التلقيح الجنسي إلا إذا اجتمع العامل أو الجانب الذكري بالعامل والجانب الأنثوي. فلابد من هذا الاجتماع الزوجي، إذ الزوجية في عالمي الحيوان والنبات سنة إلهية، السنن ثابتة لا تتبدل ولا تتحول، ولقد هيأ الله سبلاً شتى ووسائل عدة لهذا الاجتماع الزوجي، ففي النبات تقوم الحشرات والنمل والنحل والفراش بوظيفة هامة جداً في نقل اللقاح وإحداث أو إتمام التزاوج وكذلك الهواء يقوم بنقل اللقاح إلى مسافات ومساحات بعيدة جداً(1).
إن من حقيقة القرآن أن فيه تفصيلَ كل شيء حتى يُظنَّ أنَّ فيه تفصيلَ مادة الحياة بذاتها، وظن الناس أنَّ فيه ذِكرَ أجزاء المادة، أو تفصيلات المعادلات الرياضية، أو الكيميائية، إلى غير ذلك من تفصيلات الوقائع المادية ذاتها! لكن القرآن أعظم شأناً وقدراً من أن يكون ضمن محتويات الحياة المادية، لأنه مهيمن على تفصيلات المادة، بتفصيلات الحقيقة المحيطة بسائر علاقات الأشياء بعضها ببعض، والحق تعالى ليس كمثله شيء لأنه رب كل شيء، والأشياء ليست تكراراً ذاتياً وحسب! فسورة الرعد بتمامها تحدثنا عن حقيقة الحركة، التضاد، التغير، والاتصال وقوله تفصيل كل شيء كما في سورة يوسف: (مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي تفصيل كلمات القرآن كلها، حيث هي مفصلة تفصيلًا يعجز عنه الناس جميعاً، لأنه تفصيل مطلق لا يتخلف عن كلمة واحدة من كلمات القرآن كله(2) فهناك أشياء خلقها الله تعالى زوجين زوجين لم يكن الإنسان القديم على علم بها، لكن كشفتها العلوم الحديثة بوسائلها التقنية المتطورة، التي منحت الإنسان قدرة على الإدراك والملاحظة أضعاف أضعاف ما تقدر عليه حواسه، فهناك المجاهر الإلكترونية، والمقاييس الدقيقة الحساسة، والسفن الفضائية، والقوانين العلمية.. ويمكن ملاحظة الزوجية في:
1ـ الزوجية في دقائق الذَرَّة، إذ يسجل العلماء مولد الإلكترون ونقيضه، أو البروتون ونقيضه، أو النيوترون ونقيضه.
2ـ الزوجية في الإنسان، وهما نطفة الرجل وبويضة الأنثى، والعلم الحديث يبين أن الخلية الجنسية عند الرجل تنتج المني الذي منه الزوجان الذكور والإناث.
3ـ الزوجية في الكروموسومات: إذ كل خلية من خلايا الكائن الحي الكثيرة والتي تقدر بالملايين تحتوي داخلها على نواة، هذه النواة تحتوي في داخلها على كروموسومات أو صبغيات تحدد نوع الكائن الحي بسبب عددها في الخلية(3).
لقد أوجد الله تعالى كل شيء، حقيقة الكون ومصيره والرحمة في وصل كل شيء بكل شيء، لأنَّ الله هو رب كل شيء، العليم بكل شيء، القادر على كل شيء. فليست هذه الأشياء وسائل لله تعالى، وإنما حاجات، جعلها الله أرزاقاً(4).
لقد أشار الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم إلى مصطلح (زوجين)، و(أزواج)، و(أزواجاً) في مواضع عدة للدلالة على أن الزوجية تتحقق في مفردات الأشياء وجوداً وظاهرة كونية لتجتمعَ مكونةً كياناً مستقراً، فالتضادُّ كما توصلت إليه جميع الأبحاث وفي جميع مجالات العلوم ، له وجود حقيقي قد ينتابه شيء من الغموض، فالشيئية في المفهوم الفلسفي لها كيان مستقل سواء أكان مادة أو معنى، لذا تطرق القرآن إلى الزوجية في الأشياء ولم يحدد ماهية هذه الأشياء في بعض الأمثلة كقوله تعالى: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) (النجم:45ـ 46) وقوله:
(وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)(الرعد:3). يقول محمد نور المنجد في كتابه (التضاد في القرآن الكريم) (وقد كفانا ابن الأنباري ـ وهو المتصيد للأضداد المستكثر في جمعها ـ كفانا مؤونة الرد على قطرب، وإنكار ضدية اللفظية، فقال (وقال قطرب: الزوج من الأضداد يقال زوج للاثنين، وزوج للواحد، وهذا عندي خطأ، وإنما يقال للاثنين: زوجان، بهذا نزل كتاب الله وعليه شعر العرب: قال الله عز وجل: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى) (النجم: 45)، أراد بالزوجين: الفردين؛ إذ ترجم عنهما بذكر وأنثى، فالأزواج معناها: الأفراد لا غير. وترى أن (الزوج) في هذه الحالة تدل على علاقة كل منهما بالآخر، فهي بمعنى القرين، بدليل ذلك أن التسمية تختلف إذا فقد أحدهما الآخر، فالتي لا زوج لها تسمى بكراً أو أرملة أو مطلقة.. إلخ ولا تصح التسمية بـ (زوج) إلا مضافة إلى قرينها، وإذن فلا استقلال للفظية بمعنى الذكورة، ولا بمعنى الأنوثة، ولابد من ارتباطهما معاً حتى تصح التسمية، وإذن فلا يصح عدها من الأضداد(5).
يقول محمد العفيفي (إن كل شيء في الحياة، متصل لينفصل، ومنفصل ليتصل، الحركة دائبة، السيولة في الجمود، والجمود في السيولة، المادة في الطاقة، والطاقة في المادة، التضاد في الحركة والتغير والاتصال، والاتصال فيه التضاد والتغير والحركة، والحركة فيها الاتصال والتغير والتضاد، والتغير سمة كل شيء من ذلك، التجانس شيء لم يستطع أحد من الناس أن يحدد في علاقات الأشياء، إذن لابد من تكور الأشياء وعدم استقامتها)(6).
ويقول أيضاً (أن المادة تتغير، ويقوم تغيرها على تضادها سلبها وإيجابها، بين تغير أحوال موجاتها من الصفر إلى نهاية عظمى، ثم يرتد الصفر إلى نهاية صغرى ثم إلى الصفر مرة ثالثة، حيث نجد هذا الإسقاط للحركة الدائرية، وتعرف أن دورة كاملة، أو موجة قد تمت)(7)، هذا التواصل بين الشيئين المتضادين، له دلالة على التواجد المستقل.
لقد أفردت الدكتورة عواطف كنوش القواعد في بحثها التلقي القرآني في الدراسات القرآنية الأسلوبية الحديثة بإبطال المترادفات، وفي هذه القاعدة لا يجوز تفسير مفردة أو شرحها بلفظ آخر بحجة التقارب بينها مثل مجيء (إخوة) في سورة يوسف: 58 (إخوان) في سورة آل عمران: 103، فالأول يستخدم في الرحم، أما (إخوان) فيستعمل للروابط التي لا تقوم على صلة الرحم لأن المؤمنين خليط مختلف وهناك أمثلة كثيرة(8)،
وتقول أيضاً إن التضاد يأخذ بتلابيب جسيمات مادة الحياة جميعاً ليكون هو أساس التغير، وأساس الاتصال، وأساس الحركة. (إن موضوع التضاد، من الموضوعات التي عجز الفكر البشري عجزاً تاماً عن القول الفصل فيها، حيث بنى بعض الفكر البشري، التضاد على المادة وحدها، وهناك العلاقات داخل المادة وخارجها، وبينها وبين الوعي الإنساني، وفي هذه الحقائق نسف لأوهام الجدل في المادة وحدها، في الوقت نفسه الذي جنح فيه بعض الفكر البشري، إلى ربط موضوع التضاد بالفكر وحده، وأهمها أن المادة لا قيمة لها، في الاتجاهين المتعارضين ـ معاً ـ إفراط وتفريط(9)،
ويقول سعيد النورسي (يشكل الجسم والنفس، أو الظاهر والباطن في الكائن الحي وحدة واحدة، وكياناً موحداً، ظاهر الانسجام متقن السبك، دقيق الصنعة جميل الإبداع، ومن امتزاجهما معاً، وذوبان أحدها في الآخر، وتبادلهما المؤثرات والتأثيرات، أخذاً وغطاءاً، جوعاً وشبعاً، رياً وظمأً، وصحة ومرضاً، حزناً وفرحاً، مسرةً وألماً، يرتسم كيان هذا الكائن، وتبرز معالمه، وتتحدد صفاته، وتتشكل سماته وملامحه(10) لقد أشارت آيات القرآن الحكيم إلى وجود الزوجية في كل شيءٍ ماديٍّ ومعنويٍّ ، ظاهره وباطنه، صغيرة كانت أم كبيرة، مرئية أم غير مرئية، طاقة أو مادة… الخ، وقد اتصفت الوحدانية فقط به سبحانه ولم يك معه شريك، قال تعالى: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات:49) وهذا تصريح قرآني واضح في أن كل شيء له زوج و(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (يس: 36) و(من) هي للعاقل في (في أنفسهم) بينما (ما) فهي لغير العاقل النبات والجماد (ومما لا يعلمون) ،
وتدخل الذَرَّة ضمن الجماد ، فالزوجية هي سُنَّةُ الله تعالى في خلقه ، وإن الوحدانية هي صفة الخالق عز وجل(11) .
نشرت في العدد 61
1) القرآن والكون ص108.
2) القرآن تفسير الكون والحياة ص.1
3) القرآن والعلم ص82.
4) القرآن تفسير الكون والحياة ص29.
5) التضاد في القرآن الكريم ص146.
6) القرآن تفسير الكون والحياة ص33.
7) المصدر السابق ص36.
8) مؤتمر الشيخ البلاغي الثالث ص260.
9) القرآن تفسير الكون والحياة ص66.
10) الطبيعة ص19.
11) المادة والطاقة ص62.