Take a fresh look at your lifestyle.

القصة القصيرة…… يد من وراء الغيب

0 764

         في هذا العالم الذي يضج بصخب الحوادث، من الطبيعي ألّا ينتبه الإنسان إلى وجود عالم آخر مجاور، فالدنيا كبحر متلاطم الأمواج ولكن ما إن يغوص المرء تحت السطح حتى يشعر بالسكينة والجلال، وهكذا تكون الأعماق، فالحقائق كما اللآلئ لا توجد في سطح البحر وإنما تستقر في الأعماق.

          وقد تمر بالإنسان حوادث ينتبه من خلالها إلى وجود ذلك العالم القائم وراء ستار الغيب، خصوصًا إذا علمنا أن لا شيء في عالم الوجود يحدث صدفة، بل بقدر مقدر…

      وفيما يلي حكايتين في هذا المضمار:

الحكاية الأولى:

          في مطلع شبابه ولاستكمال دراسته الدينية، هاجر العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب جهد تفسيري للقرآن الكريم (الميزان) من مدينة تبريز مسقط رأسه إلى مدينة النجف الأشرف، وكان يعيش حياة صعبة معتمدًا على ما تصله من معونات مالية مع قافلة تبريز.

          وذات مرة تأخرت القافلة كثيرًا، وفي ليلة شتائية قارصة البرد جلس السيد الطباطبائي مهمومًا حائرًا وقد طار النوم من عينيه بسبب ما تراكم عليه من الديون، وكانت زوجه ورفيقة دربه ساهرة هي الأخرى لسهره تشاركه أرقه وهمومه!

        اجتازت الساعة منتصف الليل، وفي مثل هذا الوقت تبدو المدينة مقفرة مهجورة، ما خلا الرياح الباردة تجوس الأزقة الملتوية حيث تصطف بيوتها المتواضعة.

          كان السيد يتحدث بلهجة فيها تساؤل ولوم! لهجة فيها ما يشبه العتاب لله تبارك وتعالى!

  ـ ماذا أقول لصاحب الدار؟ وماذا أقول للخباز؟ وماذا أقول للبقال؟

         وفي الأثناء وكان منتصف الليل والصمت يهيمن ما خلا ولولة الرياح في تلك الساعة المتأخرة من ليل الشتاء الطويل، شق سكينة الليل البهيم صوت طرقات متتابعة على الباب!

          لقد كان ذلك أمرًا مدهشًا ومفاجئًا!! ترى من يكون هذا الطارق في هذا الوقت المتأخر من الليل البهيم؟!!

  نهض السيد محمد حسين ليرى من يكون هذا الطارق؟!

          ما إن فتح الباب حتى ظهر له شخص غريب يحدثه باللغة التركية لغته الأم قائلًا له:

   ـ أنا فلان بن فلان!

  ثم أردف يقول له بلهجة فيها لوم:

   ـ ما هذا يا سيد محمد حسين؟! تعاتب ربك؟!

  أين إيمانك؟ أين توكلك؟ وما قيمة الدنيا حتى تعاتب ربك من أجلها؟!

  وانصرف الرجل الغريب وغاب في حلكة الظلام، وبقي السيد محمد حسين مذهولًا !

  ترى من هذا الرجل الذي يضع على رأسه عمامة غريبة ويتحدث معه باللغة التركية ويناديه باسمه؟!

  ومن يكون فلان بن فلان؟!

  إنه لا يعرف شخصًا بهذا الاسم.

           حاول أن يعصر ذاكرته القوية .. ولكن دون جدوى إنه لم يره في تبريز، ولم يصادفه يومًا في النجف!!

          نسي السيد الطباطبائي كل همومه واستغرق في التفكير حول هوية الرجل الغريب.

   وبعد أيام وصلت القافلة وتسلّم معونته المالية التي حلّت مؤقتاً بعض مشكلاته.

         إلّا أن قصة هذا الرجل الغريب لم تفارق ذهنه وذاكرته.

   وبعد سنوات وتحديدًا عام 1935م عاد السيد الطباطبائي إلى مسقط رأسه، إلى مدنية تبريز. وهناك توجه إلى المقبرة لزيارة والديه اللذين توفيا في صباه، لمح السيد قبرًا قديمًا وقد تراكم على رخامة القبر غبار كثيف، أزال الغبار عن الكلمات المحفورة فوق الرخامة، فإذا به يرى اسم ذلك الشخص الغريب الذي طرق باب الدار في منتصف الليل تلك الليلة الشتائية في مدينة النجف الأشرف !! وما أثار دهشته أن تاريخ الوفاة يعود إلى أكثر من مائة وخمسين سنة!!

       قد يكون تشابه أسماء،…ربما، أو غير ذلك!!

        ولكن يبدو أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يذكر عبده، فلا يتمادى في غفلته ويعود إلى حالة التوكل عليه عز وجل، (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(الروم: 7).

  الحكاية الثانية:

          روى الخطيب الحسيني المعروف محمد حسين الرضوي، أنه كان في مدينة العمارة جنوب العراق، وكان يتعين عليه العودة إلى بغداد، وبعد أن أنهى مجالسه الرمضانية في يوم الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1967م.

           ركب سيارة صغيرة وجلس في المقعد الأمامي إلى جانب السائق، وجاء شابان جلسا في المقعد الخلفي، وكان أحدهما يصرخ، فقد كان يعاني منذ عشرة أيام من ألم شديد في بطنه، وقد عجز الأطباء في العمارة من تشخيص علته ونصحوه بالسفر إلى بغداد، تحركت السيارة بعد زوال الشمس من منتصف النهار لكي يبقى الخطيب على صيامه.

          بالقرب من مدينة الكوت (محافظة واسط) توقف السائق لتناول الطعام من مطعم على الطريق. وبعد أن تناول السائق طعامه وعاد إلى السيارة، كان الشاب المريض لا يزال يصيح من شدة الألم: أدار السائق مفتاح السيارة لكنها بقيت في مكانها، فالمحرك لا يدور وكأنه كتلة من الحديد البارد، حاول السائق مرة أخرى وأخرى ولكن دون جدوى، استنجد بزملائه من سائقي المركبات، ولكن دون فائدة.

        الشاب يصرخ من الألم، وفي الأثناء مرّت امرأة عجوز اقتربت من الشاب المريض وراحت تسأل عن علته وأخوه يجيب، اقترحت العجوز النزول من السيارة والاستراحة في حجرة طينية مبنية وسط الحقل، إلى أن يتم تصليح السيارة.

            وفعلًا اتجه السيد ومعه الشابان إلى تلك الحجرة وجلسوا على حصير مفروش فيها. غابت المرأة العجوز دقائق لتعود وبيدها قدح فيه سائل أصفر اللون، وقالت للمريض بلهجتها الجنوبية: يمه اشرب هذا !

          ولكن الشاب المريض كان يرفض ذلك، فألحت عليه حتى شرب .. كان السيد مستندًا إلى الحائط ويراقب السيارة، وهكذا كان يفعل أخو المريض.

            مرت دقائق وإذا بالشاب المريض يطلب من شقيقه أن يأتيه بـ (الأكل) وكان الأخير يرفض، لسوء حالة أخيه الصحية، إذ كان يتقيأ كل شيء،.. ولكن الشاب كان يصر على مطلبه، ثم صاح به: إني شُفيت، وكان ذلك بلهجته الدارجة.

          وذهب الأخ ليحضر له الطعام، فتناوله الشاب بهدوء، ثم نهض وراح يتمشى، وإذا به يطلب من أخيه العودة إلى العمارة وعدم الذهاب إلى بغداد! وفعلًا استقلا سيارة توصلهما إلى الديار .. أما السيارة فقد دارَ (اشتغل) محركها من دون مصلح!! بل بمجرد أن أدار السائق المفتاح من جديد وذلك بعد ذهاب الأخوين.

          أما المرأة العجوز فقد غابت واختفت بعد أن سقت الشاب المريض، بحث السيد عنها لكنه لم يجد لها من أثر.

         ترى ما هي اليد التي امتدت لتوقف عمل محرك السيارة إلى أن تمر تلك المرأة العجوز وتحضر له شرابًا أصفر اللون .. ويتعافى بعد دقائق معدودة!! ومن ثم اشتغل محرك السيارة من دون تدخل أحد في ذلك؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.