Take a fresh look at your lifestyle.

عدم توقيفيّة الشعائر الحسينية من وجهة نظر المعصوم

0 569

السيد أسعد القاضي

 

            لا يشك أحد منّا في أنّ جعل الأحكام الشرعية، من واجب وحرام ومستحب ومكروه، إنما هو بيد المشرّع، وهو الله تبارك وتعالى، أو من فوّض الله تعالى إليه أمر التشريع، وهم النبي (صلى الله عليه وآله)
وخلفاؤه المعصومون المطهرون (صلى الله عليه وآله)،
حيث جعل الله بيدهم تشريع بعض الأحكام بما يرونه صلاحاً، ولنا ـ على ذلك ـ أدلة وافية، لست الآن بصدد بيانها، وهي مذكورة في موضعها.
وعلى هذا، فليس لأحد أن يجعل حكماً لأي فعل من الأفعال، إذا لم يدل دليل شرعي على ذلك الحكم، فلا يسعنا أن نقول: (هذا الفعل واجب)، أو: (ذاك الفعل حرام)، إلا إذا قامت الحجّة الشرعية على أنه واجب أو حرام.
بل حتى كون الفعل مباحاً، أو كونه حلالاً، يحتاج إلى دليل شرعي.
نعم، مع فقد الدليل الشرعي على وجوب شيء وحرمته واستحبابه وكراهته فإنّا نتعامل مع ذلك الشيء تعامل المباح والحلال، حيث ورد عنهم(عليهم السلام) أن كل شيء لم يقم دليل شرعي على حكمه، فهو بحكم المباح والحلال، لنا مساورته والتعامل معه على أنه مباح وحلال، من دون أن نجزم بالإباحة والحليّة، ذلك أنه ربّما يكون له حكم في الواقع، ولم يصل إلينا، إلا أنه من باب التسهيل على المكلفين ورد عنهم(عليهم السلام) الترخيص بالتعامل معه معاملة المباح والحلال.
هذا، والأحكام الشرعية لا تتغيّر ولا تتبدّل بتغيّر الزمان وتبدلّه، نعم يُتنازل عن حالة من الحالات ومورد من الموارد من أجل قضية أهمّ ـ بنظر الشرع طبعاً ـ، كما في كشف المرأة للطبيب ما يجب عليها ستره، من أجل التخلص من المرض، وإفطار أيام من شهر رمضان خوفاً من ضرر الصيام، وغيرهما من الموارد الكثيرة جداً، حيث يُعبّر عنه بالأحكام الأوّلية والثانوية، فوجوب ستر المرأة جسدها حكم أوّلي، وجواز كشفه للطبيب المعالج حكم ثانوي، ووجوب صيام شهر رمضان حكم أوّلي، وجواز إفطاره للمريض حكم ثانوي… وهكذا.
فالتغيّر لا يطرأ على أصل الحكم، ولا يكون الحرام حلالاً لكل أحد وفي جميع الحالات، وإنما يكون حلالاً في حقّ المكلّف المعينّ، لقضية مهمة تنازل الشرع من أجلها، كما تقدّم.
وهكذا الحال بالنسبة لكيفية أداء الواجب والمستحب، وما يحويه من أجزاء وشروط، بل حتى زمان ومكان الأداء، وكذلك كيفية تجنّب الحرام والمكروه، فربّما يتدخّل الشرع في تحديد كيفية أداء الواجب والمستحب، وكيفية اجتناب المحرّم والمكروه، وربما لا يتدخّل في ذلك، بل يعطي للمكلّف الحريّة في اختيار الكيفية التي يختارها هو.
ولنضرب مثالاً على ذلك..
الصلاة ـ مثلاً ـ تدخّل الشرع، فأمر ـ على نحو الوجوب ـ أن يكون المصلي مستقبل القبلة، وأمر ـ على نحو الاستحباب ـ أن تكون في المسجد.
لكن الشرع لم يتدخّل في كون المصلّي في أيّ مكان من المسجد يصلّي، ولا في كون المصلي لابساً للصوف أو القطن أو غيرهما.
وهكذا الصوم، تدخّل الشرع فحدّد الوقت الذي يجب فيه الصيام، لكنه لم يتدخّل في المكان الذي يصام فيه.
فما تدخّل به الشرع وجب الالتزام به من قِبل المكلّفين، وما لم يتدخّل به الشرع فللمكلف حرية اختيار الكيفية التي يحبّ.
وتدخّل الشرع في تحديد كيفية الإتيان بالعمل والاجتناب عنه ـ نعبّر عنه بـ(التوقيف)، والواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات نعبّر عنها بـ (الأحكام التوقيفيّة).
إذا عرفت المراد من الأحكام التوقيفية، نقول..
قد يدعي البعض بأن الشعائر الدينية عموماً والشعائر الحسينية على وجه الخصوص توقيفيّة، بمعنى أنّه لا يحقّ لنا ممارسة أيّ عمل على أنه شَعيرة، إلا إذا كان قد قام به المعصوم(عليه السلام)، أو ورد النص الخاص من المعصوم بالأمر بفعله، أو أمثال ذلك مما يجعل شرعية لفعل تلك الشَعيرة.
وعلى ذلك، فلا يمكننا القول باستحباب الإتيان بالشعائر المستحدثة في العصور المتأخرة عن عصور المعصومين(عليهم السلام)، ولا جعلها عبادة، بل ولا التقرّب بها إلى الله تعالى، ذلك لأنها ليست ممضاة من قِبل المعصوم(عليه السلام).
لكن بأدنى تأمل يظهر بطلان هذه الدعوى. وذلك أن المتفحّص في أحاديث المعصومين(عليهم السلام) الواردة في هذا الصدد يجدها على قسمين..
القسم الأول: الأحاديث التي تتكفّل بيان فضيلة عمل معيّن، أو مدح حالة بعينها.
وهذا القسم من الأحاديث كثير جداً، نقتصر على ذكر نماذج منها..
1ـ قول الإمام الصادق(عليه السلام) للفضيل بن يسار: «من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر»، حيث دلّ على استحباب خصوص البكاء على مصائبهم(عليهم السلام).
2ـ قول الإمام الصادق(عليه السلام) ـ أيضاً ـ لأبي هارون المكفوف: (يا أبا هارون، من أنشد في الحسين(عليه السلام) فأبكى عشرة فله الجنة. ثم جعل يُنقص واحداً واحداً حتى بلغ الواحد، فقال: من أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة)، فقد دلّ على استحباب خصوص إنشاد الشعر في الحسين(عليه السلام) إنشاداً يكون سبباً في إبكاء الآخرين.
3ـ قول الإمام الصادق(عليه السلام) ـ أيضاً ـ: (من أتى قبر الحسين(عليه السلام) ماشياً كتب الله له بكل خطوة وبكل قدم يرفعها ويضعها عتق رقبة من ولد إسماعيل)، الدالّ على استحباب المشي لزيارة الحسين(عليه السلام).
وهناك عدد غير قليل من الروايات من هذا القسم، والتي تمّ فيها تحديد فعل معيّن، مع ذكر ثوابه وما أعدّه الله تعالى لفاعله.
القسم الثاني: الأحاديث التي لم تحدّد فعلاً خاصاً وعملاً معيّناً، بل تتناول مفهوماً عاماً يصلح لأن ينطبق على أفعال متعددة متباينة فيما بينها، فترغّب في ذلك المفهوم العام، وتدعو إليه، وتحثّ عليه، وتبيّن فضله وما فيه من الثواب، من دون أن تذكر الأفعال التي ينطبق عليها ذلك المفهوم.
فقد ورد عنهم(عليهم السلام) الأمر بإحياء أمرهم، من دون أن يحدّدوا كيف يكون الإحياء وأين ومتى. وقد جاء هذا المعنى في عدد من الأحاديث، يكفينا ـ عاجلاً ـ أن نذكر حديثين..
1ـ ما رواه الكليني في (الكافي) بسنده عن خيثمة قال: دخلت على أبي جعفر(عليه السلام) أودّعه، فقال: (يا خيثمة، أبلغ من ترى من موالينا السلامَ، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيهم على فقيرهم، وقويُّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإن لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيى أمرنا).
2ـ ما رواه الحميري في (قرب الإسناد) بسنده عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله(عليه السلام)
أنه قال للفضيل: (تجلسون وتتحدثون؟ فقال :
نعم، فقال: إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيى أمرنا).
ودلالة الحديثين على ما قلنا واضحة؛ من أنه(عليه السلام) تناول مفهوم (إحياء أمرهم)، وحثّ عليه، بل ترحّم على من يقوم به، من دون أن يذكر تفاصيل كيفية الإحياء، وأنه كيف يكون، ومتى يكون، ومن الذي يقوم به.
كما أن هذين الحديثين يشملان كل ما كان فيه إحياء لأمرهم(عليهم السلام)، حتى الأمور المصرّح بها في كلامهم(عليهم السلام)، كزيارة الحسين(عليه السلام) والبكاء عليه، وإنشاد الشعر فيه، كون هذه الأمور ـ أعني المصرّح بها في كلام المعصوم ـ وإن كانت من القسم الأول كما أسلفنا، إلا أنها مشمولة للقسم الثاني، لأن من يقوم بها يعتبر محيياً لأمرهم(عليهم السلام).
وربما يدّعي مدعٍ بأن ظاهر هذين الحديثين لا يدل على عموم إحياء أمرهم، بل هما مختصّان بلقيا بعضهم بعضاً، وجلوس بعضهم مع بعض والتحدّث بحديثهم، فيكونان من أحاديث القسم الأول المتقدّم، حيث تكفّل الحديثان ببيان فضيلة عمل معيّن، وهو خصوص الالتقاء والتحدث بحديث أهل البيت(عليهم السلام).
لكن هذه الدعوى لا مجال لها، خصوصاً بعد قوله(عليه السلام) في الحديث الأول: (رحم الله عبداً أحيى أمرنا)، حيث إنها جملة مستقلّة عامّة شاملة لكل موارد إحياء أمرهم.
ومجيؤها بعد جملة: (فإن لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا) لا يعني أن حياة أمرهم تتحقق في اللقيا فقط، بل قصده(عليه السلام) أن اللقيا أحد أفراد الإحياء لأمرهم.
وهكذا الرواية الثانية، فإن قوله(عليه السلام): (إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا) لا يعني أن إحياء أمرهم منحصر بتلك المجالس، وإنما يقصد أن تلك المجالس فيها إحياء لأمرهم، وهذا لا يمنع من كون غير تلك المجالس أيضاً فيه إحياء لأمرهم.
وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
وعلى هذا، فكلّ ما كان فيه إحياء
لأمرهم(عليهم السلام) كان محبوباً لله تعالى،ومشمولاً لدعاء الإمام(عليه السلام): (رحم الله عبداً أحيى أمرنا)، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، والأعراف الاجتماعية، ومهما استُحدثت من أمور تكون مظهراً من مظاهر الحزن.
ولا يخفى أن أمراً ما قد يعبّر عن الحزن في عرف من الأعراف وبلد من البلدان، بينما هو لا يعبّر عن الحزن في بلد آخر، فارتداء السواد ـ مثلاً ـ علامة على الحزن في كثير من الأعراف الاجتماعية، لكن في بعضها يلبسون البياض بدلاً عنه، وهكذا غيره من الأمور التي تختلف من مجتمع لآخر.
فلكل مجتمع خصوصياته وما تعارف عليه، وتبقى الضابطة (أحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيى أمرنا).
جعلنا الله تعالى ممن يحيي أمرهم، ويسير على نهجهم، ويهتدي بهداهم، إنه سميع مجيب.

نشرت في العدد 61

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.