Take a fresh look at your lifestyle.

العمل… ترجمان القول السديد

0 669

 

       قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(الأحزاب: 70ـ 71).
القول السديد المبني على التقوى، يمر في حالات استثنائية فيها المعاناة، فعليه أن يقول الحق في ظروف إرهابية يصعب فيها قول الحق.كما في الحديث الشريف: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)(1).
حكي أن يعقوب بن إسحاق، المعروف بابن السكيت من أكابر علماء العربية، جلس يوماً مع المتوكل، فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل العباسي، فقال: أيهما أحب إليك ابناي أم الحسن والحسين؟ قال: والله إن قنبراً خادم علي(عليه السلام) خير منك ومن ابنيك!! قال سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات في تلك الليلة، رحمه الله تعالى(2).
ومن العجب أنه أنشد قبل ذلك للمعتز والمؤيد ابني المتوكل وكان يعلمهما فقال:
يصـاب الفتى مـن عثـرة بلسـانه
وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثـرته في القـول تذهـب برأسه
وعثـرته في الرجـل تبـرأ على مهـل(3)
ـ وهنا جاء قوله تعالى: (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) مباشرة وبلا فاصل بعد قوله تعالى: (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وفي ذلك دلالات:
بمعنى: يوفقكم للأعمال الصالحة، دلالة على قبولها منكم، وجاء إصلاح الأعمال عملاً بإطلاقها وعدم تحديدها، بمعنى: يصلحها بشروعها وإبداعها وإنجاحها وحديثها أو بمعنى: يصلحها بالقبول والإثابة عليها، وتيسير عملها، وتعميم انتفاع الناس منها، والاستبشار بها، وانتشار فوائدها.
هناك علاقة قوية بين: القول السديد، وصلاح الأعمال، وغفران الذنوب، وبين طاعة الله ورسوله، والفوز العظيم.
وفي الحديث عن النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله): (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)(4).
وعن الإمام علي(عليه السلام): (إن لسان المؤمن من وراء قلبه، وإن قلب المنافق وراء لسانه، لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه وإن كان شراً واراه، وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه)(5).
ومن مقومات القول السديد الذي يقود إلى العمل الرشيد:
قول الإمام علي(عليه السلام) وهو يبين مقومات ذلك: (مغرس الكلام القلب، ومستودعه الفكر، ومقومه العقل، ومبديه اللسان، وجسمه الحروف، وروحه المعنى، وحليته الإعراب، ونظامه الصواب)(6).
ومن علامات القول السديد: المؤدي إلى العمل الرشيد، (قلة كلام المرء في ما لا يعنيه).
عن الإمام علي(عليه السلام): (إذا تم العقل نقص الكلام)(7).
عن الإمام الباقر(عليه السلام): (إني لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلاً على مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلاً على مقدار عقله)(8).
وفي تلازم القول مع العمل، جاء في نهج البلاغة: (من علم أن كلامه من عمله، قلّ كلامه إلا في ما يعنيه)(9).
ومن علامات القول السديد الملازم للعمل الرشيد، عدة علامات:
1ـ أن لا يتكلم العاقل إلا بحاجته أو حجته.
2ـ أحسن الكلام ما يمجّه الآذان، ولا يتعب فهمه الأفهام(10).
3ـ أحسن الكلام ما زانه حسن النظام، وفهمه الخاص والعام(11).
4ـ خير الكلام ما قلّ دلّ ولا يمل. (وخير الكلام ما دعم بعضه بعضا، وشر الكلام ما نقض بعضه بعضا).
5 ـ قوله تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)
(البقرة: 83).
6ـ قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص: 55).
7ـ العمل الصالح على عمومه وإطلاقه، هو الثمرة الحلوة المحبوبة من نتاجات القول السديد، الناتج من الفكر السديد، الذي يحمل الرأي الحق، والموقف العادل، والنظرة الصائبة، والحس الإنساني، ويوجه إلى الصراط المستقيم الثابت، الذي لا فساد فيه ولا تغير ولا تقلب ولا تبدل ولا تلون ولا ازدواج الشخصية…
8ـ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
هناك علاقة وطيدة بين القول السديد وإصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب، وذلك أن النفس إذا لازمت القول السديد وداومت عليه واعتادت عليه، انقطعت عن كذب القول، ولغو الحديث، ولهو الكلام، وسخافة القول، وتفاهة المنطق، وضحالة التفكير، والمزاح الذي يسقط الهيبة…. الخ.
ومعنى ذلك: إذا تخلص الكلام من السلبيات التي يترتب عليها أنواع الفساد، وبرسوخ هذه الصفة الإيجابية في الكلام السديد الخالص، ينقطع الفعل عن الفحشاء والمنكر واللغو واللهو والسهو… وعند ذلك تصلح أعمال الإنسان فيندم على ما ضيعه من عمره في توافه الأمور، وضياع الأوقات وعدم استثمار فرص التقدم والتنور، وارتكاب الذنوب، والتساهل في الطاعات، وتردي الأخلاق، وسوء التعامل مع الناس… ولكن يندم في وقت لا ينفع الندم!
ولكن ما حيلة المضطر إلا ركوبها، فليس أمامه إلا أن يستغفر الله بسرعة على ما أساء، ويندم على ما فعل، ويعزم على أن لا يعود لأمثالها… ويحفظه الله فيما بقي من عمره عن اقتحام الذنوب الكبيرة، وإن زلّ في ارتكاب صغائر الذنوب، (فهي اللمم): وهي الذنوب الصغيرة التي لا يعتاد عليها الإنسان، وإنما تحصل بين حين وآخر بصورة عفوية وغير متعمدة، من دون إصرار، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) (النجم: 32).
فملازمة القول السديد والاعتياد عليه يمكّن الإنسان من الأعمال الصالحة على إطلاق معناها، ومغفرة الذنوب بإذن الله، لذلك قال تعالى: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ويجعلها مغفورة، باعتمادكم القول السديد والعمل الرشيد.
وفي ذلك إشارة: إلى أن من وفقه الله لصالح الأعمال فذلك دليل ضمني، على أنه مفغور له من ذنوبه، مع تثبيت قاعدة: لسان الحال أصدق من لسان المقال وفي التلميح قبل التصريح، وربّ تلميح أبلغ من تصريح.
ثم قال تعالى: (وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً): فإن من اعتمد القول السديد المفيد فإن الله يصلح أعماله ويعظم أجره ويرفع شأنه ويصلح شأن من حوله، لأن القول السديد وصلاح الأعمال الفردية الاجتماعية وصلاح الدنيا والآخرة، والأمل والعمل…. من نتاجات طاعة الله ورسوله.
كما قال تعالى: (وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً): لأن طاعة الله ورسوله هي طاعة الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وكلمة الطاعة هذه كلمة جامعة لجميع الأحكام الإسلامية.
وبسداد الأقوال وسداد الأعمال، من سداد القلوب وتحسن الأحوال.
وقوله تعالى: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) عبارة عن رفع الحجب الظلمائية، من الذنوب الأرضية التي تشد إلى جاذبية الأرض، بنور المغفرة الإلهية والرحمة الربانية. ومن يطع الله في ما أمره ونهاه، يطع الرسول في ما أرشده إلى صراط مستقيم، ومتابعة سنته الصحيحة، فقد فاز فوزاً عظيمًا.
وهكذا من يطع الله ورسوله في تركيبة نفسه وتهذيبها باستمرار، و(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) ومحو الصفات السلبية الظلمائية فيها على الدوام، فقد اعتمد التخلية أولا ثم فاز بالتحلية، وتشبّه بأخلاق الصفات الربانية، وذلك هو الفوز العظيم، بهذه التربية النموذجية المميزة.
خلاصة القول:
أن تقول الحق والصدق والخير.. ولا تكتم منه شيئاً ولو كان على نفسك، والمراد به ما ينفع الناس، وتقوية الثقة بينهم.
بقرينة قوله تعالى: (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) حيث جعل سبحانه القول السديد سبباً لصالح الأعمال.لأنه القول العملي المؤثر، الذي يتحول مباشرة إلى تأثير وتفاعل في النفس، وهذا التأثير في النفس يتحول إلى تطبيق وممارسة.
مثال ذلك: أن ترشد ضالاً إلى طريق الخير والعلم والأمان، أو تنصر مظلوماً بكلمة العدل الذي هو أساس الملك، أو تقول كلاماً تصلح به بين اثنين، أو أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وأن تحب للناس ما تحبه لنفسك، وتكره لهم ما تكرهه لنفسك.
إنه الكلمة الصالحة، والحديث البليغ، الذي يتحمل مسؤولية الكلام، الناتج في بناء الإنسان نفسه وعقله وفكره وأخلاقه، على أساس تقوى الله، لأن التقوى تصنع في النفس رقابة ذاتية هادئة، ومحاسبة علمية مستمرة.
فالقول السليم غالبًا ما يكون مؤثرًا في كل نفس، إن كان في وقته المناسب ومكانه المناسب أو المجتمع المناسب، بالأسلوب البلاغي المناسب، بحيث يكون أسلوب الكلام الشفاف النفاذ، يتناسب مع العمل الجليل القائم، فيكون الكلام النابع من القلب يدخل ويؤثر في القلب ويؤثر فيه بلا استئذان.
سأل أحدهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) هل يحاسبنا ربنا على ما نقول؟ قال(صلى الله عليه وآله): (وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم)(12).
ـ ولكي يكون كلامنا مقدراً، لابد أن يكون مؤثراً، ولا يكون مؤثراً إلا أن يكون سديداً، ولا يكون سديداً إلا إذا ابتعدنا عن التبرير والكذب والغيبة والنميمة والتهمة.. وكل مساوئ الأفعال، وآفات اللسان، ومساوئ الأخلاق..
اللهم اعصمنا من الزلل وسددنا في القول والعمل، وجنبنا كلَّ ضعفٍ وجهلٍ ونقصٍ وخللٍ..وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

نشرت في العدد 62


1) كنز العمال/المتقي الهندي: 2 / 16.
2) وفيات الأعيان /ابن خلكان ج6ص400.
3) منهاج البراعة ج1 ص288.
4) بحار الأنوار ج71 ص278.
5) نهج البلاغة (خطبة 176).
6) عيون الحكم والمواعظ/الليثي الواسطي ص 487.
7) م.ن. ص 134.
8) شرح نهج البلاغة/ابن أبي الحديد ج7ص92.
9) م.ن.
10) عيون الحكم والمواعظ/الليثي الواسطي ص 126.
11) م.ن. ص 124.
12) بحار الأنوار ج77، ص90.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.