تعتبر عملية بناء المجتمع من الأمور المهمة التي أكدت عليها جميع الأديان السماوية والقوانين الوضعية، فهي ترى أنه لا تبنى البشرية ولا تستقيم إلّا بوجود بناءات مجتمعية صحيحة، ولا يطمئن الفرد ولا يستقر إلّا بوجوده داخل مجتمع قويم يمنحه الاطمئنان ويحفظ حقه وكرامته ويصونه.
والإسلام الحنيف الذي جاء به نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) هو خاتم الأديان وأفضلها بتصريح القرآن الكريم، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ)(آل عمران:19)، فقد احتوت المنظومة الإسلامية برنامجًا متكاملًا لبناء الفرد وبناء المجتمع، ولتنظيم علاقة الفرد بالله تعالى وبالآخرين الذين يعيش معهم، فلم يكن الإسلام برنامجًا عباديًّا فقط بل عباديًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا سياسيًّا وغيرها …
دخل في ميادين الحياة جميعها وأعطى الخطوط المستقيمة الناجحة لبناء الفرد ذاتيًّا والمجتمع كليًّا.
لقد حرص الإسلام الحنيف عن طريق القران الكريم وسنة المعصومين بدءًا من الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وآله)وانتهاءً بالإمام الحجة بن الحسن (أرواح العالمين له الفداء) على صناعة الفرد وصناعة المجتمع على وفق أسس ربانية سليمة وصحيحة.
وكان للإمام الصادق (عليه السلام) على هذا الأساس وضمن هذه السلسلة المباركة من السنة الشريفة دور متميز لا يمكن إنكاره في حرصه على زرع القيم والنظم والنبل الإلهية الإسلامية الرصينة في داخل المجتمع الذي يعيش فيه وللمجتمعات في الأجيال القادمة.
فأعطى (عليه السلام) في هذا الصدد كمًّا كبيرًا من التوجيهات السديدة والآراء الفاضلة التي إن أخذ بها المجتمع الإسلامي تسامى وارتفع شأنه وعلت همته وسارت العلاقات بين المسلمين أنفسهم وبين غيرهم من أتباع الأديان الأخرى سيرًا صحيحًا وأصبحت القلوب متآلفة متحابة ضمن دائرة العلاقات الإنسانية الصحيحة.
والأمن الاجتماعي (Social Security) مقوم أساسي من مقومات بناء المجتمعات وضرورة حتمية لها، وكانت وما زالت المجتمعات غير الآمنة تعيش الفوضى والضياع والتشرد وعدم التكيف والتوافق، حتى أن الكثير من الأفراد في هذه المجتمعات يهاجرون بحثًا عن المجتمع الآمن والمستقر.
ويعرف الأمن لغة من آمن يأمن أمنًا؛ فهو آمن، وآمن أمنًا وأمانًا، اطمأن ولم يخف، فهو آمن وأمن وأمين، والأمن يعني الاستقرار والاطمئنان، نقول: أمن منه أي سلم منه، وأمن على ماله عند فلان أي جعله في ضمانه، والأمان والأمانة بمعنى واحد، فالأمن ضد الخوف، والأمانة ضد الخيانة، والمأمن الموضع الأمن(1).
ويعد الأمن الاجتماعي أحد مظاهر الشخصية السوية وضرورة للتكيف الحسن يضاف إلى ذلك فإن الشعور بعدم الأمان والطمأنينة ينعكس على أداء الفرد فيتحاشى الخبرات الجديدة والمواقف غير المتوقعة فيسعى للبحث عن الطمأنينة ويكون سلوكه كثير الشبه بسلوك الأطفال (2).
والأمن الاجتماعي حالة نفسية – اجتماعية (Psychological – Social) ينشدها الإنسان لصيانة كيانه وذاته وجعله مستقرًا في بيئته ومجتمعه، فضلًا عن أنها تخلق حالة التماسك بين أفراد المجتمع وتعزز حبهم وانتماءهم لمجتمعهم وإنهم جميعًا منضوون تحت مبادئ وقيم واحدة.
وليس مبالغة أن نقول أن للإمام الصادق (عليه السلام) توجيهات كثيرة وعديدة تعتبر من أسس الأمن الاجتماعي الإنساني في هذا العصر، وبهذا الصدد يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (من روَّع مؤمنًا بسلطان ليصيبه منه مكروه فلم يصبه، فهو في النار، ومن روَّع مؤمنًا بسلطان ليصيبه منه مكروه فأصابه فهو مع فرعون وآل فرعون في النار)(3)، ويدل هذا الحديث الشريف على حرمة الإنسان المؤمن وعلى ضرورة احترام كيانه وشخصيته وعدم ترويعه وإرهابه وتخويفه، وهذه كلها حرمات محفوظة، إذ أن المجتمع المثالي هو المجتمع الآمن الذي يأمن فيه الفرد المسلم وغير المسلم على نفسه وماله وعرضه، ولا يختلف اثنان على أهمية الاطمئنان من الآخرين في تقوية أواصر المحبة واللحمة بين أبناء المجتمع الواحد وتكوين علاقات طيبة آمنة ومجتمع قوي متماسك.
ونجد هناك أقوالًا عديدة بهذه الصدد تؤكد على حرمة الآخرين وعدم الإساءة إليهم والتي منها، قال الأمام الصادق (عليه السلام): (قال الله عزّ وجلّ: ليأذن بحرب مني من آذى عبدي المؤمن، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن، ولو لم يكن من خلقي في الأرض فيما بين المشرق والمغرب إلّا مؤمن واحد مع إمام عادل، لاستغنيت بعبادتهما عن جميع ما خلقت في أرضي، ولقامت سبع سماوات وأرضين بهما، ولجعلت لهما إيمانهما أنسًا لا يحتاجان إلى أنس سواهما)(4).
وقال(عليه السلام): (من حقَّر مؤمنًا مسكينًا، لم يزل الله عز وجل حاقرًا له ماقتًا، حتى يرجع عن حقرته إياه)(5).
وقال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى يقول: (من أهان لي وليًّا فقد أرصد لمحاربتي، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي)(6).
وقال (عليه السلام): (من روى على مؤمن رواية، يريد بها شينه وهدم مرؤته ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان)(7).
وقال (عليه السلام): (إن الله عز وجل خلق المؤمنين من نور عظمته وجلال كبريائه، فمن طعن عليهم أو ردّ عليهم قولهم، فقد ردّ على الله في عرشه، وليس من الله في شيء، إنّما هو شرك شيطان)(8).
ومن جانب آخر نرى أن الإمام الصادق (عليه السلام) يرى من الضروري أن يكون هناك في المجتمع التفاعل الايجابي مع الآخرين (Positive interaction with others) أخذًا وعطاءً وانسجامًا وتعاونًا، قال (عليه السلام): (اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والورع في دينكم، والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله) وأدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برًّا أو فاجرًا، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحَسن خُلقه مع الناس، قيل: هذا جعفريّ)(9).
وقال (عليه السلام): (عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس وإقامة الشهادة وحضور الجنائز، إنّه لا بدّ لكم من الناس، إنّ أحدًا لا يستغني عن الناس في حياته، والناس لابدّ لبعضهم من بعض)(10).
وكأن الإمام (عليه السلام) يريد أن تطغى في المجتمع مشاعر الخير والإنسانية وأن يترسخ مبدأ التعاون بوصفه حالة فطرية طبيعية لدى الإنسان فهو يحتاج الآخرين وهم يحتاجون إليه، ويريد (عليه السلام) أن لا تكون هناك أحقاد وأضغان وكراهية وعدوان وأن يعيش الفرد حالة انسجام طبيعي مع الآخرين.
ومما تقدم نستنتج من الأحاديث المباركة أن الإمام (عليه السلام) يطمح إلى أن يكون الإنسان متواجدًا فعلًا ضمن الحالة الإنسانية التي أودعها الله تعالى عنده، وأن يعيش صفته الإنسانية مبتعدًا عن جنسه ولونه وعرقه وأي مؤهلات أخرى عدا التقوى كونها معيارًا سماويًا، وكلما عاش الإنسان إنسانيته ترسخت قيم المساواة والعدالة واحترام الحقوق والواجبات.
ومن إضاءات هذه الأحاديث الطيبة أن أفراد المجتمع يجب أن يتوافقوا مع بيئتهم ومجتمعهم وأن يحترموا الآخرين على اختلاف أديانهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية، ويريد أن يعطي فكرة لأتباعه (الجعفريين) وغيرهم بإلغاء عقبات الاختلاف وعيش حالة الإنسانية فيما بين أفراد المجتمع البشري، فالفرد ملزم أن يعدل سلوكه الشخصي السلبي على وفق الرؤى العامة الإيجابية وما يستحسنه المجتمع الإسلامي أو الإنساني.
وتعتبر هذه التوجيهات المباركة بمثابة تكاليف اجتماعية راقية لبناء المجتمع وحفظه وصيانته، فالإمام الصادق (عليه السلام)يرسم بأقواله الشريفة حركة الفرد في المجتمع ويحددها على أن تكون حركة فاعلة ذات تأثير ايجابي، فهو فرد متعاون لا يمكنه الاستغناء عن الآخرين، وعلى وفق ذائقة الإمام الصادق (عليه السلام) في بناء المجتمع، فالفرد المسلم اجتماعي الطبع، مقبول اجتماعيا، لا ينفر الآخرين منه، يحب الخير للآخرين.
فتوفير الأمن داخل المجتمع وتشخيص حاجاته بهذا الصدد يعد ضرورة قصوى لنمو المجتمع وتحقيق التكيف الذي يجعل الفرد مطمئنًا، وأن الفرد الذي يعيش في مجتمع غير آمن ومتوافق يعطي إحساسًا للفرد بالعجز والخوف والشعور بعدم الارتياح وعدم المساواة، وشعوره بأن الآخرين قد يعتدون عليه في أي لحظة وأن البيئة التي يعيش فيها ليست بيئة آمنة ولا مستقرة.
وعليه فإن الأمن الاجتماعي في الحياة الإنسانية لا يتحقق ما لم يتم التسليم والانقياد التام للضوابط والتوجيهات الإسلامية التي رسخها الإسلام عن طريق القرآن الكريم والسنة المطهرة وما أوجده المجتمع من قيم ومُثُل عُليا لا تتعارض مع روح الإسلام.
وختاما لما سبق يمكن أن نبين الفائدة المرجوة من تحقيق الأمن الاجتماعي الذي استعرضناه في أحاديث الإمام الصادق بما يأتي:
1. رفع مستوى الصحة النفسية للفرد والمجتمع وترسيخ العوامل ذات التأثير الإيجابي وخلق حالة القبول الاجتماعي والابتعاد عن السلبيات وما يفكك المجتمع ويوهنه ويشتته.
2. إن المجتمع الآمن مجتمع يساعد على خلق حالة المناخ النفسي والاجتماعي المناسب للإبداع والتميز وزيادة العطاء، وتكثر فيه المحبة والمودة والتكاتف والأخوة.
3. إن خلق الجو الاجتماعي الآمن والمناسب يعتبر عنصر تماسك المجتمع وتآزره وتوحده ومبدأً هامًا لرقيّه وتحضره وتطوره.
4. إن توافر الألفة بين أفراد المجتمع يدفع الآخرين إلى العمل الجاد واحترام مصلحة الآخرين ومصلحة المجتمع والحفاظ على ممتلكات المجتمع.