يعد الإمام الصادق(عليه السلام) صاحب أعظم مدرسة علمية في العالم الإسلامي بالنظر إلى آثاره وآثار تلاميذه، بل هو الغالب على الفقه وأحكامه، ويصح إطلاق لفظ الفقه الباقري والصادقي على الفقه الإمامي، وذلك من آثار هذه المدرسة العظيمة التي تخرج منها الآلاف من الطلبة.
روى للناس الفقه والحديث عن أبيه، وسمع الناس منه، وأخذوا عنه وعن أبيه، ولقيه أبو حنيفة النعمان بن ثابت صاحب مدرسة الرأي في الكوفة، ومالك بن أنس فقيه أهل المدينة، وسفيان الثوري وشعبة وسفيان بن عيينة وحي بن صالح وأيوب السجستاني وعمرو بن دينار، وكثير من علماء الأمصار(١). قال عبد الحليم الجندي في كتابه: الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ما نصه:
(فلقد تتلمذ أبو حنيفة ومالك للإمام الصادق (عليه السلام) وتأثر كثيرًا به سواء في الفقه أو في الطريقة، ومالك شيخ الشافعي، والشافعي يدلي إلى أبناء النبي (صلى الله عليه وآله)بأسباب من العلم والدم، وقد تتلمذ له أحمد بن حنبل سنوات عشرة، فهؤلاء أئمة أهل السنة الأربعة تلاميذ مباشرون أو غير مباشرين للإمام الصادق (عليه السلام)(٢)، وفي هذا الكلام دلالة واضحة على أهمية دراسة علم الإمام الصادق (عليه السلام) بعد تأثر هؤلاء الأئمة بالمنهج والطريقة، ولأن أصحابه إذا رووا عنه قالوا:
أخبرنا العالم(٣)، وعرفه الجميع ونقلوا عنه العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل(٤).
وفي بيان منهجه كان يعطي لكلامه وحديثه التوثيق الكامل وهو المنهج السندي إشارة لاعتبار ذلك عند أخذ الأحاديث، وبالأخص في الأحكام والقضايا، بل ربما في غيرهما، فكان يردد:
(إن حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحديث رسول الله قول الله عز وجل)(٥).
وفي هذا النص يعطي الإمام أهمية بالغة لطرق الحديث من الجهة السندية إيضاحًا لوثاقته وعدالته في كل السلسلة، وعلى هذا تؤخذ الأخبار والروايات ليصح البناء عليها، وهي إشارات لعلم الجرح والتعديل ولعلم الدراية وكيفية التعامل مع هذا الكم الهائل من الأحاديث، وعلى هذا النهج سار أغلب المحدثين في اختيار أحاديثهم في جوامعهم الحديثية.
واتضحت المدرسة الكلامية عند الإمام الصادق (عليه السلام) بمنهج الحوار العلمي الهادئ والهادف للوصول للحقيقة، والكلام وسيلة لهذه المعرفة العقائدية التي يجب أن تدخل القلوب وتستقر بالإقناع والممارسة الصحيحة، فكان ينهى عن المجادلة والخصومة لأنها تبعد عن الله عز وجل، وكان يوصي بعض تلامذته بقوله: (إياك وكثرة الخصومات فإنها تبعدك من الله)(6)، وقال أيضًا: (ليست البلاغة بحدة اللسان ولا بكثرة الهذيان ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجة)(7) .
وهذا النص يشير إلى المنهج الكلامي والهدف منه إصابة المعنى وقصد الحجة العلمية على الخصم، ولا يقصد من الدفاع عن العقيدة التعصب الأعمى بلا قصد ولا حجة، فالعقود تابعة للقصود كما يجري في القاعدة الفقهية، كذلك يجري في القواعد الكلامية ومناهجها.
أما المنهج التربوي لطلبة العلم فيوصي الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: (لا تطلب العلم لثلاث: لترائي به، ولا لتباهي به، ولا لتماري … الخ)(8).
فإن الطلب بهذا الشكل لا يحقق هدف التعلم، لأن العنصر الأول من طلب العلم العنصر التربوي والسلوكي المتغير وهو الابتعاد عن الرياء والتصنع والادعاء ما ليس موجودًا أصلاً، ولا المجادلة والمخاصمة التي تنخر في الهيئة الاجتماعية وتزرع التناحر والتحاسد والتباغض وفتور العلاقات الاجتماعية بين المسلمين.
ومن أهم مناهجه بيان المنهج الإسلامي الذي حدده الإسلام بقانونه الإلهي، فكان يؤكد لطلابه بقوله: (الإسلام عريان، فلباسه الحياء وزينته الوقار ومروءته العمل الصالح وعماده الورع .. الخ)(9). وهنا يؤكد المنهج العام للإسلام في اللباس المعنوي والمادي ليصدق قول الإنسان هذا مسلم.
ومن أعظم ما قاله في جمع وحدة المسلمين قوله: (الاستقصاء فرقة)(10)، فإن المنهج العلمي يقتضي عرض جميع الأقوال ومقارنتها والأخذ بأحسنها وبما يوافق المنهج العقلي الذي علّمه تلاميذه ومريديه.
المنهج العقلي:
وضع الإمام الصادق (عليه السلام) التطبيق الفعلي بعد التأمل النظري واتخاذ العقل حجة وطريقاً للمعرفة الصحيحة باستخدام النقد وإخضاعه للعقل لمعرفة وجه الحق، فيعد الإمام الصادق (عليه السلام) أول من نظر في الروايات والتاريخ بعين النقد والتمحيص وكان يرى أن اختلاط التاريخ بالخرافة والأسطورة يفقده أثره من حيث العبر واستخلاص الموعظة والدرس(11).
وهذا المنهج يجري في الأخبار المتعارضة وطريقة الترجيح ضمن هذا المنهج، فقد جاء في موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدًا من كتاب الله أو من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلاّ فالذي جاءكم أولى به)(12)، وجاء في اختلاف الحديث يرويه من يثق ومن لا يثق به، والمراد من الأخير من لا يكون خبره معتبرًا ولم يثق بدينه لكنه يثق في نقله(13).
وأعطى الإمام الصادق (عليه السلام) نظرية العرض على القرآن الكريم، باعتباره الأصل وما عداه يرد إليه لمعرفة مدى صحته وقبوله، فقد جاء عنه قوله: (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف)(14)، وهنا أعطى للفقهاء قاعدة أساسية لمعرفة الأحاديث ومدى صحتها بعد أن فشا الكذب والتدليس والوضع في الأحاديث.
ومن منهجه أن يأمر بالكتابة والتدوين للعلم، وهي دعوة حضارية نابعة من أن الإسلام دين العلم والقراءة والكتابة، فقد ورد عنه (عليه السلام): (اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حَتَّى تَكْتُبُوا)، وقال أيضًا: (اكتب وبث علمك في إخوانك … الخ)، والكتابة تزيد الحفظ، وبهذا المعنى قال (عليه السلام): (القلب يتكل على الكتابة)(15)، والكتابة والتدوين هما نتاج الحضارة الإسلامية، ومن أثر هذه المنهجية وصلت إلينا آلاف الكتب وفي مختلف العلوم الدينية والطبيعية والأدبية.
ومن منهجه وضع قواعد الفقه المقارن وطريقة المناظرات بالتي هي أحسن، والوصول للحقيقة وطلبها هو الغاية العلمية عند المقارِن والمناظر، ونقل لنا التاريخ الكثير من المناظرات الدينية والعلمية والأدبية حتى مع الدهريين وغيرهم، وعلى أرفع مستوى من الرزانة والهدوء العلمي بعيدًا عن التعصب والجدل غير النافع.
كان جُلّ المناظرات تدور حول الإمامة، بل أنها جوهر الجدل الأساس بين المذاهب والفرق الإسلامية، ومن المدرسة تخرج هشام بن الحكم وهشام بن سالم ومؤمن الطاق وغيرهم(16).
كانت هذه المدرسة فتحًا جديدًا في التطوير والتجديد في شتى النواحي والدراسات العقلية بالأخص وعلوم الحكمة والفلسفة والأدب، ومدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) تفرق بين الحكمة والفلسفة وتضع الحكمة في منزلة متقدمة على العلم وعلى الفلسفة، والدين متقدم عليهما لأنه أفضل السبل للتوجه إلى الله ومعرفته(17).
لقد بيّن الإمام الصادق (عليه السلام) في مدرسته أهمية اليقين والشك، فاليقين هو القطع والعلم، والشك هو الجهل الذي لا يزيل اليقين أبدًا، وهي نظرية اعتمدت كثيرًا عند الفقهاء وبني عليها أصل الاستصحاب في علم الأصول والفقه، وقد تأثرت المدرسة الأوربية بهذه النظرية(18).
وفي مجال التاريخ أمر الإمام الصادق(عليه السلام) بتحكيم العقل في تناول القضايا التاريخية ومعرفة الروايات الصحيحة من غيرها(19).
المنهج التجريبي:
وردت روايات تشير إلى أن مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) اهتمت بعلم الطب، وكان الإمام (عليه السلام) يلقي دروسًا في الطب، أفاد منها كثير من الأطباء والباحثين والمرضى في القرنين الثالث والرابع الهجريين(20).
ومن أهم نظرياته التي انتفع بها الأطباء في عصره وبعد مماته رأيه في إمكان تنشيط الدورة الدموية عند حدوث سكتة مفاجئة أو توقف مؤقت بقطع وريد بين أصابع يد المريض اليسرى إسالة للدم منه(٢١).