يعد موضوع الإمامة المفتاح لدراسة شخصية أي من أئمة أهل البيت (عليه السلام)، إذ أن الإمامة كالنبوة منصب إلهي، وهما لطف(١) من الله يسبغهما على من يشاء من خلقه، إذ أن مهمة الإمام (عليه السلام) كمهمة النبي(صلى الله عليه وآله)، وهي: القيام على الشريعة وإيضاح مقاصدها للناس،
أما مسألة تولي الحكم فهي جزئية من مهمات النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام)، فإن تولي النبي أو الإمام الحكم أو عدم توليهما لا يغير من الأمر شيء، فالنبي نبي سواء تولى الحكم أم لم يتولّه وكذلك الإمام، فكم من نبي من الأنبياء لم يتول حكمًا، بل إن بعضهم استشهدوا على يد أقوامهم(٢)، وهذا لم يخرجهم من دائرة الأنبياء، وكذلك الأئمة(عليه السلام)(٣)، ولذا قام الأئمة (عليهم السلام) بمهمتهم خير قيام رغم أنهم لم يلوا حكمًا(٤)، ولكنهم كانوا الأمناء على الشريعة.
وفي الواقع أن الإمام حتى يؤدي مهمته، فلابد أن يتميز عن سائر الناس، ومن أهم المسائل التي ينبغي أن يتميز بها الإمام (العصمة)(٥) لكيلا يكون قوله وفعله معرضان للخطأ، ومن ثم ستقع الأمة جميعًا بالخطأ، وكذلك يجب أن يكون الإمام أعلم الأمة، وأن يكون عالمًا بكل شيء، وعلمه لدنِّي(٦) من الله، ولا يكون علم الإمام يدخل في دائرة الاجتهاد والرأي(٧).
ومن هنا يكون الإمام عالمًا بجميع الألسن (اللغات)، والعلوم والفنون، والصنائع(٨)، وقد أفرد الشيخ المفيد (قده) في كتابه أوائل المقالات فصلًا أسماه (القول في معرفة الأئمة بجميع الصنائع وسائر اللغات)، وجاء فيه: ( أنه ليس يمتنع ذلك منهم، ولا واجب من جهة العقل والقياس، وقد جاءت أخبار عمن يجب تصديقه بأن أئمة آل محمد(صلى الله عليه وآله) قد كانوا يعلمون ذلك )(٩).
وقد وردت روايات عدة تؤكد معرفة الأئمة باللغات، وإنهم يسمعون كل فرد ويكلمونه طبقًا للغته، فعلى سبيل المثال كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يعرف النبطية(١٠)، وكان الإمام الباقر(عليه السلام) يقرأ مناجاة إيليا (عليه السلام) باللغة العبرية(١١)، وأنه كان يقرأ بالسريانية(١٢)، وهناك روايات تشير لمعرفة الإمام الصادق (عليه السلام) باللغة الفارسية(١٣)، والعبرية(١٤) والنبطية(١٥). وكان درسه يحضره الطلبة من مختلف البلدان واللغات، فكان يكلم كلا منهم حسب لغته(١٦).
من هنا أخذ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يمارس مهمته الإلهية في القيام على الشريعة، كإمام للأمة رغم الموقف السلبي الذي اتخذته الأمة من أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن إبعاده عن تولي الحكم لا يعني نهاية لموقعيته كإمام للأمة، إذ كانت الأمة ترى له هذه الموقعية لذا أصبح (عليه السلام) قطب الرحى الذي يلتف حوله الآلاف من طلبة العلم بغض النظر عن أديانهم وتوجهاتهم، فكانت مدرسته أشمل جامعة على مستوى العلوم والطلبة والفكر، ومن أهم ما تميزت به هذه المدرسة:
1ـ يقف على رأس هذه المدرسة وريث النبوة، وعملاق الفكر المحمدي في زمانه، المعروف بمواقفه الرسالية، واستقامته على خط الشريعة الربانية المحمدية، فكانت مدرسته حصنًا يلوذ به طلاب الحقيقة.
2ـ لم تقتصر على الطلبة الموالين لأهل البيت (عليهم السلام)، بل كانت مفتوحة لجميع طلاب المعرفة لأن الإمام إمام الأمة بأسرها، حتى وصل عدد طلابها ما يقارب أربعة آلاف طالب من بلدان واتجاهات شتى.
3ـ لم تقتصر مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) على علوم محددة بل شملت جميع العلوم، ففضلًا عن الفقه والحديث والتفسير والكلام، إنما تناولت شتى صنوف المعرفة بما فيها العلوم الطبية والفلكية والطبيعية وغيرها.
4ـ لم ترتبط هذه الجامعة بسياسة الحكومات، لذا لم تكن موضع شبهة وكراهية من الناس، ومن حلقته انطلق هؤلاء ليؤسسوا علومًا ومذاهبًا ورؤى، فكان مؤسسي الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية والنحوية، وحتى العلوم الطبيعية كعلم الكيمياء الذي أول ما نبغ به في الإسلام تلميذه جابر بن حيان.
5ـ تميزت بمنهجها العلمي السليم وعمقها الفكري واتجاهها العقائدي التربوي والإصلاحي، ولم تعتمد أسلوب حشو الذهن بالمعلومات، لذا كان الانتماء إليها يعد مفخرة لطالب العلم.
6ـ لم يكن هدف الإمام من هذه المدرسة الجانب العلمي فحسب بل كان ينشد بناء الفرد الصالح ومن ثم المجتمع الصالح.
7ـ اهتمت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) بتدوين الحديث النبوي والحفاظ على مضمونه بعد تعرضه للتحريف والضياع والتوظيف السياسي، وكان يشيد بدور بعض أصحابه الذين بذلوا جهودًا في الحديث كزرارة بن أعين، وكان الإمام الصادق(عليه السلام) يحث طلابه على المباحثة والمدارسة، وكان نتيجة ذلك أن اجتمع أربعمائة كتاب سميت بالأصول الأربعمائة التي شكلت المجاميع الحديثية الأولى عند مدرسة أهل البيت(عليهم السلام).
8ـ اعتنت مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام) بالتخصص العلمي، فكان هشام بن الحكم وهشام بن سالم وغيرهما في الفلسفة وعلم الكلام والإمامة، أما زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب وأبو حنيفة ومالك وسفيان بن عيينة في الفقه، وفي حكمة الوجود كان المفضل بن عمر، وفي التاريخ أبان بن عثمان الأحمر البجلي، أما في الكيمياء فكان جابر بن حيان الكوفي.
9ـ تميزت مدرسة الإمام الصادق(عليه السلام) بالنتاج العلمي المتنوع في شتى الاختصاصات فكانت ستة آلاف وستمائة كتاب.
10ـ أحسن طلبة الإمام الصادق (عليه السلام) المناظرة والجدال بالأسلوب العلمي والتربوي.
11ـ خطط الإمام الصادق (عليه السلام) في مدرسته لتنشيط حركة الاجتهاد وتخريج الفقهاء والمجتهدين في علوم الشريعة الإسلامية (١٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ١- هو كل ما يوصل الإنسان إلى الطاعة ويبعده عن المعصية. ينظر: شرح الأصول الخمسة/القاضي: عبد الجبار (ت415هـ)، ص518-525، الملل والنحل/الشهرستاني: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم ت 548هـ. 1/82-83، مذاهب الإسلاميين/عبد الرحمن بدوي: 1/293-297. ٢- كما هو الحال بالنسبة إلى النبي زكريا ويحيى (عليه السلام). ٣- وإلى ذلك أشار النبي محمد (صلى الله عليه وآله) إلى الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) بأنهما: (إمامان إن قاما وإن قعدا). ينظر: علل الشرائع/الشيخ الصدوق: 1/211، المصابيح في إثبات الإمامة/: حميد الدين الكرماني/ص88، روضة الواعظين/الفتال النيسابوري: 1/195، بحار الأنوار/المجلسي: 43/291. ٤- يلاحظ هنا على سبيل المثال مواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) يلاحظ هنا على سبيل المثال مواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) من الخلفاء، وإجابات الأئمة(عليهم السلام) على أسئلة الخلفاء، ومواقفهم من التحديات التي واجهت الأمة الإسلامية خدمة لبيضة الإسلام كموقف الإمام زين العابدين (عليه السلام) في مشورته للخليفة الأموي عبد الملك في مسألة ضرب النقود الإسلامية ضد الإمبراطورية البيزنطية، وموقف الإمام الهادي (عليه السلام) ضد النصارى أيام العباسيين. 5- العصمة: هي ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها. ينظر: التعريفات /الجرجاني: ص123، ولمزيد من التفاصيل ينظر: أصول العقيدة /السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم/ص191ـ203، 379 ـ 387، محاضرات في الإلهيات/الشيخ جعفر السبحاني: ص280 ـ 290. 6- اللَّدنِّي: من لدن العزيز الحكيم، قال تعالى (مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) سورة الكهف الآية:65، وهي موهبة من الله تعالى يسبغها على من يشاء من خلقه. ينظر: تفسير السلمي: عبد الرحمن السلمي/ 1/414، فيض القدير في شرح الجامع الصغير/المناوي: 4/510. 7- لمزيد من التفاصيل عن مقام الإمامة يراجع: في رحاب العقيدة/السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم في ثلاثة أجزاء… الإمامة وأهل البيت (عليهم السلام) النظرية والاستدلال/السيد محمد باقر الحكيم: ص7 ـ 351. 8- لمزيد من التفاصيل عن ذلك. ينظر: الإمام الصادق (عليه السلام) كما عرفه علماء الغرب، نقله إلى العربية: نور الدين آل علي، ص31 ـ 411. 9- أوائل المقالات /الشيخ المفيد: ص67. 10- بصائر الدرجات/الصفار: ص355 ـ 356. 11- مناقب آل أبي طالب/ابن شهر أشوب: 3/ 327. 12- م.ن 13- بصائر الدرجات/الصفار: ص356، الاختصاص /المفيد: ص290، 325، دلائل الإمامة /الطبري: ص460، مدينة المعاجز /ـ البحراني: 6/15، بحار الأنوار /المجلسي: 26/191، 47/85 ،89. 14- الصفار: بصائر الدرجات ص354، ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب 3/347، بحار الأنوار /المجلسي/ 47/81. 15- بصائر الدرجات/الصفار: ص356، بحار الأنوار /المجلسي/ 47/48، 63/27. 16- الخرائج والجرائح /الراوندي: 2/615 ـ 616، 753، مدينة المعاجز /ـ البحراني: 6/80، بحار الأنوار /المجلسي 47/99، 119. 17- تاريخ الإسلام /المنظمة العالمية للحوزات والمدارس الإسلامية: 2/419 ـ 424.