ينطلق أهل البيت(عليهم السلام) في نظرتهم لقضية الحكم والسلطة من عدّة مبادئ أساسية اعتمدوها من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فكانت تلك المبادئ الأصيلة هي المتحكمة في رسم حركتهم التاريخية عبر العهود والأجيال التي عاصروها، وهي التي فرضت على الأئمة (عليهم السلام) نوعًا معينًا من الحركة والتصرف، قد يبدو مختلفًا أو متناقضًا لمن قاس الأمور بظواهرها السطحية دون التفقه بما وراء تلك الظواهر، ومن أبرز تلك المبادئ الأساسية :
أن قضية الحكم في الإسلام ليست ضرورة اجتماعية أو حضارية فحسب، بل هي ركن أساس من أركان الدين، وواجب مقدّم من واجبات العبادة، ولذا فإن مواصفات ومهمات الحاكم في النظام الإسلامي تختلف عنها في بقية الأنظمة والشرائع، فبالإضافة إلى مهمات الحاكم العامة في كل نظام؛ من إقامة العدل، وحماية المجتمع، وتنظيم حياته، والمحافظة على ثرواته، فإن الحاكم المسلم مكلّف بمهمة جليلة تتمثل بإقامة الدين والمحافظة على الشريعة.
قال تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(سورة الحج :41)، والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق لأن المتبادر إلى الفهم من قوله : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) ليس إلّا هذا، فلا بد أن يكون الحاكم مبسوط اليد، قادرًا على التصرّف في أنحاء حكمه، ولا بدّ للشعب أن ينهض معه لتحقيق هذه المهمة.
وقد كان أهل البيت (عليهم السلام) يدركون جيدًا هذا البعد الرسالي للولاية، فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ( اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنَّه لم يكن الذي كان منَّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيءٍ من الحطام، ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطَّلة من حدودك)(1).
فمهمات الحاكم المسلم هي مهمات شاملة تندرج تحتها كل أعمال الإعمار والتنمية المادية والبشرية، بلحاظ تطبيق شريعة الله والظفر برضاه.
وقد مثّلت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) هذه الفلسفة العميقة في النظر إلى مسألة الحكم والسلطة، فقد كان عهده حافلًا بالأحداث المهمة والتغييرات الحادة على الصعيد السياسي والاجتماعي والفكري للأمة الإسلامية، فعندما تولى الإمام مقاليد الإمامة بعد وفاة أبيه الباقر(عليه السلام) قام عمه الشهيد زيد بن علي بن الحسين بثورته المعروفة على حكم الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بالكوفة سنة 122 هـ ،
لكن تلك الثورة الخاطفة سرعان ما أجهضت في مهدها فقُتل قائدها زيد، ثم صلب جسده الشريف فترة من الزمن.
وقد نقلت لنا بعض الأخبار تألم الإمام الصادق (عليه السلام) على عمه زيد الشهيد وإطراءه عليه، فعن الفضيل بن يسار قال : فلما قُتل اكتريت راحلة، وتوجهت نحو المدينة، فدخلت على الصادق جعفر بن محمد(عليه السلام)، فقلت في نفسي : لا أخبرته بقتل زيد بن علي فيجزع عليه، فلما دخلت عليه قال لي : يا فضيل، ما فعل عمي زيد ؟ قال : فخنقتني العبرة، فقال لي : قتلوه ؟ قلت : إي والله، قتلوه. قال : فصلبوه ؟ قلت : إي والله صلبوه. قال : فأقبل يبكي ودموعه تنحدر على ديباجتي خده كأنها الجمان. ثم قال : يا فضيل، شهدت مع عمي قتال أهل الشام ؟ قلت : نعم . قال : فكم قتلت منهم ؟ قلت : ستة. قال : فلعلك شاكٌّ في دمائهم ؟ قال : فقلت : لو كنت شاكا ما قتلتهم. قال : فسمعته وهو يقول : أشركني الله في تلك الدماء، مضى والله زيد عمي وأصحابه شهداء، مثلما مضى عليه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأصحابه(2).
وفي خبر آخر أنه (عليه السلام) قال عن زيد : رحمه الله أنه كان مؤمنًا وكان عارفًا وكان عالمًا وكان صادقًا، أما أنه لو ظفر لوفى، أما أنه لو ملك لعرف كيف يضعها(3).
وأبدى الإمام الصادق(عليه السلام) تألمه جراء بقية الثورات والحركات العلوية التي استهدفت الظالمين من بني أمية وبني العباس على حد سواء، فلما قتل يحيى بن زيد الشهيد أبدى الإمام حزنه ولوعته وترحمه عليه، فَبَكَى واشْتَدَّ وَجْدُه بِه. وقَالَ : رَحِمَ الله ابْنَ عَمِّي وأَلْحَقَه بِآبَائِه وأَجْدَادِه.
وكان الصادق يبكي ويترحم على محمد بن عبد الله بن الحسن (ذي النفس الزكية) الذي ثار على المنصور العباسي سنة 145هـ في المدينة المنورة، ولكن ثورته فشلت حتى قُتل، وقتل أخوه إبراهيم بباخمرى من نواحي الكوفة. فقال الإمام عنهما : رحم الله ابني هند إنهما إن كانا لصابرين كريمين، والله لقد مضيا ولم يصبهما دنس(4).
لكن الإمام الصادق (عليه السلام) كان ينظر إلى الساحة الإسلامية آنذاك بعين الواقعية، كما أنه كان يستشرف المستقبل جيدًا، وكان فكره الثاقب وما ألهمه الله من علم يخبره أن الظروف لم تكن مهيأة آنذاك لاستلام السلطة من قبل زيد أو غيره من العلويين الذين ثاروا على بني أمية، فآثر أن لا يظهر تأييده العلني لهم.
وفي السنوات الأخيرة من حكم بني أمية استغل الإمام الصادق(عليه السلام)تضعضع ملكهم وتراجع سطوتهم، فطفق ينشر علومه ويبث فقهه بين صفوف طلابه ومريديه الذين لم ينحصروا بطائفة معينة ولون خاص، حتى نهل من علومه القريب والبعيد، والموالي والمخالف، فكان عصره من أبهى عصور الفكر والعقيدة، وكان بحق هو عصر التأسيس الفكري المنهجي لفقه أهل البيت(عليه السلام) وعلومهم الشريفة في زمن نشط فيه الاجتهاد الفقهي وظهرت فيه التيارات والمذاهب الإسلامية المختلفة في الفقه والعقيدة،
كما خاض الإمام (عليه السلام)غمار حرب فكرية مقدسة ضد الأفكار والنزعات الإلحادية والتشكيكية التي ازداد سعيرها آنذاك نتيجة الانفتاح الثقافي على الحضارات الأخرى وازدهار حركة الترجمة والتأليف، فكانت مناظراته العقائدية مع رؤوس الإلحاد من أعمق الدروس الفكرية في الدفاع عن العقيدة الإسلامية.
وعلى الصعيد السياسي بقي الإمام (عليه السلام) يرصد الوضع عن كثب حتى آلت أمور بني أمية إلى المزيد من التدهور وآل ملكهم إلى الانحلال والتفكك إلى أن حانت الثورة على الأمويين، وهي إنما قامت بسبب مشاعر السخط والتبرم التي اجتاحت العالم الإسلامي من جور بني أمية وسياستهم الظالمة الجائرة في الأمة الإسلامية، ومبالغتهم في التنكيل بالعلويين وأئمة أهل البيت(عليه السلام) وذراريهم، حتى أن شعار الثورة نفسه كان هو دفع الأمر إلى ( الرضا من آل محمد )،
وقد بدأت الثورة في خراسان ثم امتدت كالنار في الهشيم إلى بقية الأقطار، وقد قاد الثورة آنذاك اثنان من أخطر رجال ذلك العصر وأبرز قادته وهما؛ أبو سلمة الخلال وأبو مسلم الخراساني اللذان وجدا نفسيهما مضطرين لعرض الحكم والخلافة على أعيان أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك الزمان، وكان منهم بل على رأسهم الإمام الصادق(عليه السلام) لأنهما يعرفان جيدًا مشاعر الاحترام والتبجيل التي يكنها المسلمون لآل البيت فأرادا أن يصلا إلى أهدافهما وأن يضفيا الشرعية على عملهما بذلك العرض،
وقد حاول أبو مسلم وأبو سلمة الخلال أن يزجّا بالإمام الصادق(عليه السلام) في خضم الأحداث وذلك لمكانته المرموقة في المجتمع الإسلامي ولأنه يمثل البقية الباقية من الشرعية التي نص عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فالإمام (عليه السلام) قد تفحص الواقع مليًّا وعلم أن هذين الرجلين ومن كان على شاكلتهما ليسوا بأكثر من طلاب سلطة، وأنهم لا يتورعون عن ركوب أية موجة من أجل الظفر بغاياتهم،
فقد روي من عدّة وجوه أنّ أبا العبّاس السفّاح قدم هو وأهله سرًّا على أبي سلمة الخلَّال بالكوفة فستر أمرهم وعزم على أن يجعلها شورى بين ولد عليّ والعبّاس حتّى يختاروا منهم من أرادوا. ثمّ قال : (أخاف ألَّا يتفقوا)، فعزم أن يعدل بالأمر إلى ولد الحسين أو الحسن (عليه السلام).
فكتب إلى ثلاثة نفر منهم جعفر بن محمّد، وعمر بن علي بن الحسين بن علي، وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي. ووجّه بكتبهم مع رجل من مواليهم من ساكني الكوفة.
فبدأ بجعفر الصادق(عليه السلام) فلقيه ليلًا فأعلمه أنّه رسول أبي سلمة وأنّ معه كتابًا إليه. فقال :وما أنا وأبو سلمة ؟ هو شيعة لغيري. فقال الرسول : تقرأ الكتاب وتجيب بما رأيت. فقال جعفر لخادمه : قرّب السراج منّي. فقرّبه فوضع عليه كتاب أبي سلمة فأحرقه. قال : ألا تجيبه؟ قال : قد رأيت الجواب.
ثمّ أتى عبد الله بن الحسن، فقرأ كتابه وركب إلى جعفر بن محمّد. فقال له جعفر : أمر جاء بك يا أبا محمّد ؟ لو أعلمتني لجئتك. قال : وأيّ أمر ؟ هو ممّا يجلّ عن الوصف. قال : وما هو ؟ قال : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى الخلافة ويراني أحقّ الناس به. وقد جاء به شيعتنا من خراسان. فقال له جعفر (عليه السلام) : ومتى صاروا شيعتك ؟ أنت وجّهت أبا مسلم إلى خراسان وأمرته بلبس السواد. هل تعرف أحدًا منهم باسمه ونسبه؟ كيف يكونون شيعتك وأنت لا تعرف أحدًا منهم ولا يعرفونك ؟ فقال عبد الله : ما هذا الكلام منك إلَّا لشيء. فقال له جعفر : قد علم الله أنّي أوجب النصح على نفسي لكلّ مسلم وكيف أدّخره عنك فلا تمنّينّ نفسك إلَّا الأباطيل فإنّ هذه الدولة تتمّ لهم وما هي لأحد من ولد أبي طالب. وقد جاءني ما جاءك، فلم أجبّ إلَّا بما ستعرف خبره. فانصرف غير راض بما قاله(7) . ،
وقد نظم أبو هريرة الأبّار صاحب الإمام الصادق (عليه السلام) هذا شعرًا فقال :
ولما دعا الداعون مولاي لم يكن ليُثْنَى عليه عزمُه بصوابِ
ولما دعوه بالكتاب أجابهم بحرق الكتاب دون رد جوابِ
وما كان مولاي كمشري ضلالةٍ ولا ملبساً منها الردى بثوابِ
ولكنه لله في الأرض حجة دليل إلى خيرٍ وحسن مآبِ(8)
ومن كلّ ما تقدم يتأكد لدينا اختلاف نظرية الحكم والسلطة عند أهل البيت (عليهم السلام) عنها عند غيرهم، فهم بجميع أشخاصهم، وفي جميع أطوارهم وأدوارهم لا يستهدفون الاستحواذ على السلطة من أجل غايات دنيوية عابرة، وإنما يستهدفون منها إقامة الدين وبناء الإنسان، فهم أمراء القلوب لا أمراء الأبدان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1ـ نهج البلاغة/الشريف الرضي /شرح الشيخ محمد عبدة ، ج2ص 13. 2ـ الأمالي/الشيخ الصدوق، ص 431. 3ـ اختيار معرفة الرجال/الشيخ الطوسي ، ج 2ص 570. 4ـ مقاتل الطالبيين/أبو الفرج الأصفهاني ، ص 170. 5ـ مقدمة الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين (عليهم السلام)/ص12. 6ـ الكافي / للكليني / ج8ص274. 7ـ تجارب الأمم/ابن مسكويه الرازي ، ج 3 ، ص 318. 8ـ مناقب آل أبي طالب/ابن شهراشوب/ج3ص356.