قسم النبي (صلى الله عليه وآله) العلم النافع إلى ثلاثة أقسام مهمة، وأوصى بتعلمها والاهتمام بها، باعتبارها نافعة منجية يوم القيامة،
فقد ورد عن أبي الحسن موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: (دخَلَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ، فَقَالَ: ومَا الْعَلَّامَةُ؟ فَقَالُوا لَه: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ ووَقَائِعِهَا وأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ والأَشْعَارِ الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله): ذَاكَ عِلْمٌ لَا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَه ولَا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَه، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله): إِنَّمَا الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ ومَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ)(1).
سأل النبي(صلى الله عليه وآله) عن هذا العلّامة بكلمة (ما)، لمعرفة حقيقة الوصف الذي وصف الناس هذا الشخص به وهو العلم بقولهم (علّامة) لأن غرض النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) بمعرفة الوصف لا بمعرفة الشخص، وإلّا لسأل بكلمة (من) التي تستعمل للسؤال عن الشخص وتميزه عن الآخرين، (فإنّهم أخطأوا وأجابوا عن السؤال المذكور بأنّه أعلم الناس بالأمور المذكورة ـ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ ووَقَائِعِهَا وأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ والأَشْعَارِ الْعَرَبِيَّةِ ـ، زعماً منهم أنّ للأمور المذكورة مدخلاً في كونه علاّمة، ولذلك نبّههم على الخطأ، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): ذاك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه) في الآخرة، وإنّما ذاك نوع فضيلة يصطاد به الحطام ويكتسب به صرف قلوب العوام، وما هذا شأنه لا يعتدّ به ولا يعدّ صاحبه علاّمة. ثمّ قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) إرشاداً لهم إلى العلم الذي يضرّ جهله يوم المعاد، وينفع يوم يقوم فيه الأشهاد)(2).
يتضح أن العلم النافع الذي يقصده النبي (صلى الله عليه وآله) هو العلم النافع يوم القيامة، وأما بقية العلوم كالطب والهندسة وغيرها من العلوم فهي بحد ذاتها غير نافعة يوم القيامة، ولكنه (صلى الله عليه وآله) لم ينه من تعلمها لأغراض دنيوية، بل شجع على طلبها واكتسابها،
فقد تواتر عنه (صلى الله عليه وآله) قوله: (اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)(3)، فأي علم في الصين قصده النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله؟ لابد أنه لم يقصد علوم الدين. وقد وصف (صلى الله عليه وآله) العلوم التي خارج نطاق الدين بأنها (فضل)، إذا استخدمت بالخير لخدمة البشرية، أما إذا استخدمت بالشر فهي دمار للبشرية ووبال على أصحابها يوم القيامة.
أقسام العلم
قسم النبي (صلى الله عليه وآله) العلم إلى ثلاثة أقسام، تقسيمًا حصريًا لأنه (صلى الله عليه وآله) استخدم كلمة (إنما) وهي تفيد الحصر، فهذه الأقسام الثلاثة فقط فيها العلم النافع في الآخرة، أما غيرها وإن كانت علمًا لكنها غير نافعة، وكما عبر النبي (صلى الله عليه وآله) لا ينفع من علمه، ولا يضر من جهله، وعلى الإنسان العاقل أن يبحث عن علم ينفع من علمه، ويضر من جهله، وهذا منحصر في الأقسام الثلاثة :
القسم الاول : آية محكمة
أراد النبي (صلى الله عليه وآله) به العلوم الالهية والعقائدية والعقلية التي يستدل بها على وجود الله وأسمائه وصفاته والمعاد وما فيه من ذِكر أحوال يوم القيامة حسب ما ذكره العلماء في تفسير الحديث، وهذه العلوم تعد من أفضل العلوم لأن فيها التقرب إلى الله سبحانه ومعرفته، وهذا أمل كل عالم في هذه الدنيا، لأن الذي يعمل مع العلم يصل إلى القرب الالهي، أما الذي يعمل بدون علم فإنه يفسد أكثر مما يصلح ويعتقد أنه يقترب من الله وهو يبتعد عنه،
قال الامام الصادق (عليه السلام): (الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ لَا تَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْدا)(4)، ولكن شرط هذه العلوم أن تؤثر في القلب فيحصل الإيمان الذي به تقبل الأعمال ويحصل على الثواب الذي فيه نعيم الأبد والدخول إلى الجنة بهذا الإيمان،
وأما إذا استخدمت هذه العلوم من أجل المراء والجدال مع الأقران وإظهار تفوقه العلمي وقابليته على النقاش واستعمال المصطلحات بسرعة وسهولة في هذه المسائل فمثل هذا الإنسان يكون حاله حال الشيطان الذي يعلم بأسماء الله وصفاته ويعلم بالجنة والنار ويعلم بالملائكة التي يعجز الإنسان عن رؤيتها، ومع ذلك لم ينفعه علمه، فهو من أهل جهنم خالدًا فيها أبدًا لأنه لم يطع الله سبحانه وتعالى عندما أمره بالسجود لأدم (عليه السلام) ولم يحصل على نعيم الأبد فلم ينفعه العلم وهذه عبرة لكل إنسان أن ينتبه لذلك.
القسم الثاني : فريضة عادلة
بين النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث علم الأخلاق الذي هو من أهم العلوم في هذه الدنيا، لأن الخُلق الحسن هو الحد الوسط بين الإفراط والتفريط وكلاهما مبغوضان من قبل الشارع المقدس، وأما حُسن الخلق فهو أمنية كل مؤمن لأن به يحصل على الثواب العظيم، وإن كان ضعيف العبادة كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة)(5)، وعلى ضده سوء الخلق، فإنه ينزل بصاحبه النار وإن كان ممن يصوم النهار ويقوم الليل، كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) وقد قيل له: أن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها. فقال: لا خير فيها هي من أهل النار)(6)،
بل يصل بسوء الخلق أسفل درك من الجحيم، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن العبد ليبلغ من سوء خلقه أسفل درك جهنم)(7). على هذا لابد للمؤمن من معرفة هذا العلم وفهم أصوله حتى يحصل على الثواب ويبتعد عن السيئات والذنوب، وهذا أنفع شي للإنسان في هذه الدنيا، وهذا العلم يعتمد على أصول أربعة يجب على الطالب لهذا العلم معرفتها، وهي:
أولًا : الحكمة:
وهي الحالة الوسط بين السفه والبله، والسفه هو استعمال الفكر في غير مورده، والبله هو تعطيل القوة الفكرية في الموارد التي ينبغي استعمالها فيه، فمن السفه أن يستخدم الإنسان فكره وقواه الأخرى في خداع الناس، والمكر والغدر بهم أو استعمال قابلياته الذهنية في ابتكار طرق لسرقتهم والتسلط على حقوقهم التي جعلها الله لهم، أو يعطل تلك القوى الذهنية عن العمل والإبداع وخدمة نفسه ومجتمعه، وهذا من البله،
فالإنسان الحكيم يستخدم قواه الفكرية والمعرفية بما يخدم بها نفسه ومجتمعه، داخل الإطار الذي ترسمه الشريعة له و(خير الناس من نفع الناس)، ولمعرفة الأطر الشرعية لحركته، عليه التفقه في معرفة أحكام الدين ومعرفة الأحكام الشرعية والمسائل العقائدية التي ترسمها الشريعة، لكي لا يقع في المحاذير والوقوع في حبائل الشيطان،
روي عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله: (عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابًا، فإن من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزك له عملاً)(8)، وروي عنه(عليه السلام) أيضا: (من لم يتفقه في دينه ثم أتجر ارتطم في الربا ثم ارتطم في النار)(9)، وقال (عليه السلام) أيضاً: (من أراد التجارة فليتفقه في دينه، ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه. ومن لم يتفقه في دينه، ثم أتجر، تورط في الشبهات)(10).
ثانيا : الشجاعة:
وهي الحالة الوسط بين الجبن والتهور، والجبن هو الخوف والهروب في مورد لا ينبغي للنفس ان تخاف وترتبك، وبين عدم الخوف في مورد ينبغي فيه الخوف، وهذا هو التهور، فالإنسان المؤمن يدرك هذه الفضيلة بصورة عادلة فلا يجبن في مواجهة عدو يريد به وبدينه أو عرضه أو ماله شرًا، والمواجهة لا تعني بالضرورة استخدام القوة العضلية أو قوة السلاح، فإذا كان بالإمكان رد المعتدي عن طريق الفكر والمنطق والمحاججة، فلا ينبغي استخدام القوة برد العدوان، بل يعد هذا الاستخدام تهورًا، وهذا هو المنهي عنه في الشريعة، فالشجاعة هي عدم السكوت والخضوع للمعتدي ويعد ذلك جبنًا، ولا التهور في استخدام القوة ما دام هناك سبيل لرد العدوان بالعقل،
قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(فصلت:34)، وقد أجمل القرآن الكريم حالة التعامل مع العدو بكلتا الحالتين بقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ…. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ…)(الأنفال:60ـ61).
ثالثًا: العفة:
وهي الحالة الوسط بين الشره والخمود، والشره هو استخدام الشي أكثر من محله، فينغمس في الشهوات، سواء في شهوة الجنس أو شهوة الأكل والشرب أو شهوة حب المال، وبين الخمود الذي يترك الزواج ويعرض عن الدنيا، فتراه يعيش مع الآخرين بجسده لا بروحه ومشاعره، فهو يعيش حالة من الرهبانية التي نهى الإسلام عنها، وقد تواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: (لا رهبانية في الإسلام)(11)،
أما المؤمن فإنه يعيش حالة العفة، فإنه يتزوج ويأكل ويشرب ويختلط مع الناس يساعدهم على أعمالهم ويحل مشاكلهم، وهذا كان دأب أهل البيت (عليه السلام) فكانوا يتزوجون ويأكلون ويعملون، بعكس الذين ينخدعون بأساليب الشيطان ويعرضون عن الدنيا ويعتقدون بأن هذا يقرب من الله سبحانه وتعالى، وخير شاهد على ذلك قول الإمام علي (عليه السلام)لأحد أصحابه حين علم بانعزاله عن الناس وهجر أهله وانصرف للعبادة والتبتل و(لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا، قَالَ (عليه السلام) : يَا عُدَيَّ نَفْسِه لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ ـ الشيطان ـ ، أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ ووَلَدَكَ أَتَرَى اللهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وهُوَ يَكْرَه أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذَلِكَ)(12).
رابعا: السخاء:
وهو الحال الوسط بين الإسراف والبخل، والإسراف هو بذل الشيء في غير محله، والبخل عدم بذل الشيء فيما ينبغي بذله، والإسراف محرًّم لأن الشيطان اللعين يصور للإنسان بأن هذا جود وكرم إذا أسرف في البذل، وكذلك تصور البخل على أنه اقتصاد، وفي الحالين يقع الإنسان فريسة لحبائل الشيطان، وقد وصف القرآن الكريم حال المؤمنين في الإنفاق بقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)(الفرقان:67).
القسم الثالث: السُنَّة القائمة
وهذا العلم يعود إلى العلوم التعبدية وهي سنة مأخوذة من المعصوم (عليه السلام) وما يعبر عنها بقول المعصوم وفعله وتقريره والذي يطابق الحكم الواقعي الذي يريده الله في كافة الأمور التي يتعبد بها الإنسان في هذه الدنيا، ويحصل على نعيم الأبد، فالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس وغيرها يجب أن تطابق ما يقوله ويؤديه المعصوم (عليه السلام) وإلّا كانت فاسدة وكانت يوم القيامة هباءً منثورًا كما عبر القرآن بذلك، وعندها تظهر الحسرة الحقيقية والخسران الذي لا يجبره شيء لكل إنسان ترك المعصوم(عليه السلام) وتمسك بغيره.
وكما ذكرنا سلفاً أن بعض العلوم الدنيوية كعلم الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والتاريخ والفلك والجغرافية وغيرها، لا بأس بتعلمها وتعليمها إذا استخدمت للخير، بل أكثر من ذلك، فيمكن للإنسان أن يجعلها من الآية المحكمة في بيان عظمة الله سبحانه وقدرته، فيحصل الإيمان بالله والتسليم له والاعتقاد بالمعاد والثواب العظيم، فيندفع مثل هذا الإنسان نحو العمل الصالح وأداء الواجبات إلى آخر عمره، فيكون هذا العمل عليه خيرًا وبركة وتوفيقًا إلهيًا نحو الإيمان والحصول على النعيم الأبدي.
وعلى هذا ينبغي لطلاب هذه العلوم أن يكونوا حذرين منتبهين في كيفية استخدامها واستثمارها في الخير، لئلا تكون وبالاً عليهم في الآخرة. وقد أتحفنا مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في إحدى حكمه حول العلم وفضله، وما ينبغي على طالب العلم أن يتصف به، بقوله:
(يا طالبَ العلم، إنّ العلم ذو فضائل كثيرة: فرأسُه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، وأُذُنه الفهم، ولسانه الصِّدْق، وحفظه الفحص، وقلبُه حُسن النيّة، وعقله معرفة الأشياء والأمور، ويده الرحمة، ورِجلُه زيارة العلماء، وهمّته السلامة، وحكمته الورع، ومستقرّه النجاة، وقائده العافية، ومَركبُه الوفاء، وسلاحه لِين الكلمة، وسيفه الرضى، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب النوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه محبّه الأخيار)(13)،
وإذا لم يكن فيه هذه الصفات فقد درس علمًا لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه.