الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أنصار الحسين؛ قال تبارك وتعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(الزمر:9)، ويقينًا أن من مصاديق هذه الآية الشريفة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد تفرّد في عبادته وصدق توجهه فسمي زين العابدين، وحين رآه الناس لا يقوم من سجود إلّا إلى سجود، سموه السجاد، وحين ارتفعت علامات السجود في جبهته سموه ذا الثفنات(1).
ولد في المدينة المنورة يوم الجمعة الخامس من شعبان سنة 38هـ وكنيته أبو محمد، وألقابه كثير منها إضافة لما سبق: زين العابدين، وصي الوصيين، منار القانتين والخاشعين، المتهجد، الزاهد، العابد، العدل، البكاء، أبو الأئمة(2).
عاش بعد أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) 34سنة وهي مدة إمامته،
عاصر من ملوك بني أمية، يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك.
وله من الأولاد اثنا عشر ولداً وأربع بنات،
وكان نقش خاتمه: وما توفيقي إلا بالله.
استشهد مسمومًا بأمر الوليد بن عبد الملك في الخامس والعشرين من المحرم سنة 95هـ(3)، ولكن ابن الصباغ المالكي يقول: توفي علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في الثاني من المحرم سنة 94هـ(4)
وجاء في تقويم الشيعة: شهادة الإمام السجاد (عليه السلام): في هذا اليوم 25 محرم الحرام من سنة 94 على المشهور أو 95هـ وقيل 12محرم، 18محرم، 19محرم وله سبع وخمسون سنة، عاش بعد أبيه خمساً وثلاثين سنة(5).
واختلف الرواة والمؤرخون في اسم أُم الإمام ونسبها، فقال ابن قتيبة: يقال إن أمه سندية يقال لها سلافة، ويقال غزالة(6).
وقال البلاذري: قالوا كانت أم علي بن الحسين سجستانية تدعى سلافة(7).
وقال المبرد في الكامل: كان اسم أم علي بن الحسين سلافة من ولد يزدجر معروفة النسب، وقيل اسمها خولة(8)، والمشهور إن اسمها شاه زنان ـ ملكة النساء ـ وهي إحدى بنات الملك الفارسي يزدجرد(9)
وعن جابر بن عبد الله أنه قال: .. أبو محمد علي بن الحسين العدل أمه شهر بانو بنت يزدجرد(10) وبعد كل ذلك يرى أحد المحققين أن أم الإمام السجاد (عليه السلام) عربية تيمية.
بزغ نجم الإمام زين العابدين (عليه السلام) في واقعة كربلاء التي تمثل بداية الامتحان الصعب له (عليه السلام)، بل الامتحان الذي لا يجتازه إلّا نبي أو وصي .. وكان السجاد (عليه السلام) مريضًا، فهل جاء مع أبيه وهو مريض أصلًا أم أنه مرض في وقت لاحق؟ فهو أثناء المعركة (كان مريضًا ملقىً على فراشه وقد أنهكته العلة والمرض، ولما قتل والده قال شمر بن ذي الجوشن: اقتلوا هذا الغلام، فقال بعض أصحابه: تقتل مريضًا لم يقاتل؟! فتركوه.
قال ابن عمر: هذا هو الصحيح وليس قول من قال بأنه كان صغيرًا حينئذٍ لم يقاتل وأنه ترك بسبب ذلك)(11)، وهذه النجاة الأولى من القتل.
إنها من ثمار كربلاء، فيها تجلى دليل اللطف الإلهي بحفظ منزلة الإمامة بعد استشهاد الإمام السبط الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذلك بسلامة شخص الإمام علي بن الحسين والتي تعد شبه مستحيلة، وتحسب في خانة الإعجاز، فالمواجهة لم يسلم منها أحد من جنود الحق، وقد نالت سيوف البغي والعدوان حتى الصبيان بل والرضيع ـ عبد الله ـ نجل الإمام الحسين (عليه السلام) ويبقى علي بن الحسين (عليه السلام) حيًا، كيف؟!
وبعد الزوال ارتحل عمر بن سعد إلى الكوفة ومعه نساء الحسين (عليه السلام) وصبيته وجواريه وعيالات الأصحاب ومعهنّ السجاد (عليه السلام) وعمره ثلاث وعشرون سنة وهو على بعير ضالع بغير وطاء، وقد أنهكته العلّة ومعه ولده الباقر(عليه السلام) وله سنتان وشهور.
ومرّ الركب على ساحة المنازلة فارتعبت النساء ولطمن الوجوه … أما علي بن الحسين (عليه السلام) فإنه قد عظم عليه ذلك واشتد قلقه، فلما تبينت ذلك منه زينب الكبرى، أهمها أمره فأخذت تسلّيه وتصبّره، وفيما قالت له: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي، فو الله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك … ووصل ركب السبايا إلى الكوفة(12).
وفي الكوفة، قال أبو محنف … عن حُميد بن مسلم قال: إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين، فقال له: ما اسمك؟ قال: أنا علي بن الحسين. قال: أو لم يقتل الله علي بن الحسين؟ فسكت، فقال له ابن زياد: مالك لا تتكلم؟ قال: قد كان لي أخ يقال له علي فقتله الناس، قال: إن الله قتله، قال: فسكت عليٌ، فقال له: ما لك لا تتكلم؟ قال: إن الله يتوفى الأنفس حين موتها .. قال: أنت والله منهم، ويحك، انظروا هل أدرك؟ والله إني لأحسبه رجلًا، قال: فكشف عنه مُريّ بن معاذ الأحمري، فقال: نعم قد أدرك، فقال: اقتله. فقال علي بن الحسين: من توكل بهؤلاء النسوة؟ وتعلقت زينب عمته به، فقالت: يا ابن زياد حسبك منّا، أما رويت من دمائنا؟ قال: فاعتنقته وقالت: … إن قتلته لمّا قتلتني معه. قال: فنظر إليها ـ ابن زياد ـ ساعة ثم نظر إلى القوم، فقال: عجبًا للرحم، والله إني لأظنها ودّت لو أني قتلته أني قتلتها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك(13)،
وهذه النجاة الثانية، إنها إرادة الله سبحانه وتعالى وليست رغبة الفاجر ابن زياد فهو والرحمة على طرفي نقيض.
لقد رأى الإمام علي بن الحسين(عليه السلام)تفاصيل واقعة كربلاء منذ البداية حتى النهاية بأم عينه، ولله صبره، ولكن لشد ما مرّ به من موقف لا يطاق، وهو ينظر إلى ابن مرجانه وبيده العود ينكث ثنايا أبيه الحسين (عليه السلام) في قصر الإمارة في الكوفة، إنه من المفارقات التي يذم بها الدهر …
وبدأ المسير إلى الشام بأمر من يزيد بن معاوية، وأمر عبيد الله بن زياد بعلي بن الحسين فغُلّ بغلٍ إلى عنقه(14)، وسارت قافلة الأسرى يتقدمهم رأس الإمام الحسين (عليه السلام)ورؤوس من قتل معه إلى يزيد، وفي أول يوم من صفر دخلوا دمشق، فأوقفوهم على باب الساعات، وقد خرج الناس بالدفوف والبوقات وهم في فرح وسرور(15).
ترى ماذا فعل هذا المشهد بالإمام المنهك المريض ومن معه من النساء؟ إنها فعلة الجبناء مسلوبي القيم والأخلاق الإسلامية، فالسبايا أبناء العترة المطهرة، وليسوا من الديلم كما يزعم الظالمون.
وفي مجلس يزيد يواجه الإمام السجاد (عليه السلام) الأسير أصعب المواقف، فبعد سؤال وجواب وإفحام الطاغية بأجوبة الإمام، وثب رجل من أهل الشام، فقال: دعني أقتله، فألقت زينب (عليها السلام) نفسها عليه، وقالت: يا يزيد حسبك من دمائنا(16)،
وهذه المرة الثالثة التي ينجو فيها الإمام (عليه السلام) من القتل، ليس بفضل من يزيد الغادر بل لأن الله تبارك وتعالى قضى بأن لا تخلو الأرض من حجة لله سبحانه.
وموقف صعب آخر حيث أمر يزيد بمنبر وخطيب يصعد ويذم الحسين (عليه السلام) وأباه، فصعد الخطيب المنبر … ثم بالغ في ذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد (عليه السلام) وأطنب في مدح معاوية ويزيد وذكرهما بكل جميل: فصاح به الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) : ويلك أيها الخاطب، اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوّأ مقعدك من النار، وطلب أن يسمح له بارتقاء المنبر، وبعد إصرار الحضور على إعطائه فرصة الحديث، أذعن يزيد إلى طلبه،
فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة أبكى فيها العيون وأوجل منها القلوب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام، ولما قال المؤذن .. أشهد أنّ محمداً رسول الله، التفت الإمام من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته(17)؟
وبعد أيام الامتحان العسير في شام آل أبي سفيان، توجه السجاد (عليه السلام) وبقية السبايا إلى مدينة جده رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وتحدث بحديث مليء باللوعة والمرارة والضغط النفسي الذي يتعدى حدود التحمل، يقول بعد خطبة شرح فيها ما حصل من قتل وسبي وإذلال: والله لو أن النبي(صلى الله عليه وآله) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصية بنا لما زادوا على ما فعلوا، وإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأكضها وأفظعها وأمرّها، فعند الله نحتسب مصابنا (18).