Take a fresh look at your lifestyle.

زواج الكتابية من منظور حديثيّ

0 976

          لاريب أن التشريع الإسلامي يدور مدار المصالح والمفاسد، كما قررته فلسفة التشريع في الإسلام، كونه الدستور الخالد الذي أنزله الله، بغية سعادة البشرية في داريّ الدنيا والآخرة، سعيًا إلى التكامل والفوز برضوانه عز وجل، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.

            ثم إن المطلع على كُتب ورسائل الفقهاء يرى جليًا وقوع الخلاف بالقول في مسالة نكاح الكتابية، ويمكن حصر آرائهم على ثلاثة أقوال، ولذا ارتأينا أن نقسم الموضوع إلى مطلبين:

المطلب الاول: الروايات الفقهية، وفيه:

  الفقرة الأولى: روايات المنع، وهي:

   أولًا:

          صحيحة زرارة عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (لا ينبغي نكاح أهل الكتاب)(1)، قلت: وأين تحريمه؟ قال: قوله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر)(الممتحنة:10).

   ثانيًا:

           صحيحة ابن سنان عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (وما أحبّ للرجل المسلم أن يتزوّج اليهوديّة ولا النصرانيّة مخافة أن يتهوّد ولده أو يتنصّر)(2).

   ثالثًا:

          خبر محمد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (سألته عن نصارى العرب أتؤكل ذبائحهم؟ فقال: (كان عليّ (عليه السلام) ينهى عن ذبائحهم وعن صيدهم وعن مناكحتهم)(3).

   رابعًا:

           خبر أبي بصير، قال: سألت الإمام أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن تزويج اليهودّية والنصرانية؟ قال: (لا)(4).

  الفقرة الثانية: روايات الترخيص:

         على نقيض ما تقدم من روايات المنع ثمة روايات قد ذكرتها العديد من الكتب الحديثية أشارت إلى الترخيص في مسالة نكاح الكتابية، إلّا أن منها ما أشار إلى نوع آخر من أنواع الزواج، وهو زواج المتعة، أي الزواج المنقطع وهو كالزواج الدائم إلّا أنه يختلف عنه بالصيغة فضلًا عن كونه ذا مدة محدودة، إلا أن هذه الروايات تختلف عن سابقتها من ناحية السند.

  ونورد تلك الروايات كما يلي:

  أولًا:

           خبر التفليسيّ عن الإمام الرّضا (عليه السلام): (يتمتّع الرجل من اليهوديّة والنصرانيّة))؟ قال: (يتمتّع من الحرّة المؤمنة وهي أعظم حرمة منها)(5).

   ثانيًا:

              خبر زرارة: (سمعته (عليه السلام) يقول: (لا بأس أن يتزوج اليهوديّة والنصرانيّة متعةً وعنده امرأة)(6).

   ثالثًا:

             موثقة الأشعري: (سألته عن الرجل يتمتّع من اليهوديّة والنصرانيّة، قال: لا أرى بذلك بأساً)(7).

   رابعًا:

            مرسلة ابن فضّال عن الإمام أبي عبدالله الصادق (عليه السلام): (لا بأس أن يتمتّع الرجل باليهوديّة والنصرانيّة وعنده حرّة)(8).

المطلب الثاني : فقه الحديث.. وفيه:

          أقوال الفقهاء على اختلافها، مع تقريب الاستدلال بتلك الروايات، وبيان الأقرب منها للصحة، مع بيان القول الفصل والحكمة من التشريع.

         إن القراءة الأولية للروايات أعلاه تبين من خلالها التعارض الذي يتحقق من الجوانب التالية: الصدور والظهور والجهة، ولذا انقسم الفقهاء إلى ثلاثة أقسام في القول في الموضوع وكل قسم له استدلاله، وكما يلي:

   أولًا:

        المنع مطلقاً، وهو قول المفيد والمرتضى وابن إدريس والطبرسي والمقداد والحرّ العامليّ، واعتمد عليه أبو العباس واختاره فخر المحققين من الشيعة الإماميّة. كما ذهب إليه الهادي والقاسم والنفس الزكيّة.

   ثانيًا:

        التفصيل بين المتعة والدائم، بتجويز الأوّل ومنع الثاني؛ وهو المشهور بين الإماميّة؛ فممّن ذهب إليه الطوسي وأبو الصّلاح وابن البرّاج وسلاّر والعلامة والمحقق والشهيد الأوّل(9)، وحجتهم الاستدلال بالروايات التي أفادت المنع.

١- صحيحة زرارة الواردة الذكر أعلاه.

  تقريب الاستدلال:

         قوله (عليه السلام) (لا ينبغي…..) تفيد المنع، وعند سؤال زرارة للإمام (عليه السلام) عن وجه التحريم استدل بالآية (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر)، مبينًا أن أهل الكتاب يعدون كفارًا. والرواية صحيحة السند كما ذكر، وقد استدل بالحرمة بالكتاب والحديث مع أن الرواية هي التي فسرت الآية الشريفة(10).

2- صحيحة ابن سنان عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام).

 تقريب الاستدلال:

          مع أن الرواية صحيحة السند، فإن قوله: (ما أحب،،، الخ الحديث). وإن كانت غير صريحة في الحرمة إلّا أن ذيل الحديث يُفهم منه الحرمة، وذلك من خلال قوله (عليه السلام): (مخافة أن يتهوّد ولده أو يتنصّر) علة للمنع(11).

3- خبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام).

 تقريب الاستدلال:

            قوله (كان عليٌ ينهى….) ظاهر في الحرمة إلّا أنه يمكن أن يستفاد من الحديث الكراهية الشديدة(12).

4- خبر أبي بصير، قال: سألت الإمام أبا عبدالله الصادق (عليه السلام)….الخ الحديث.

تقريب الاستدلال:

           قال: (لا) تفيد المنع أو الحرمة(13).

الرد على روايات الترخيص:

          يرى من يذهب إلى الحرمة، أن روايات الترخيص لا تصل إلى مرتبة روايات المنع(14) كون أن روايات المنع أغلبها صحيحة السند، ومع فرض التعارض من جهة الصدور والظهور في الحرمة وأنها لم تصدر تقية لعدم وجود قرينة تشير إلى ذلك، يمكننا حل ذلك من خلال ما يلي:

1- الرجوع إلى الكتاب الكريم:

           – قوله تعالى: (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إلى النَّار)(البقرة:221).

            – قوله تعالى: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)(الممتحنة:10).

        – وقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)(الروم:21)، بضميمة قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ)(المجادلة:22).

 تقريب الاستدلال:

            ذكر المفسرون(15) أن أهل الكتاب يصدق عليهم تعبير الكفر أو الشرك، كما تقدم في تفسير الكوافر في صحيحة زرارة، معارضةً الروايات لآراء العامة الذين يفتي فقهاؤهم بالجواز(16).

  النتيجة:

      مما تقدم يظهر دليل الحرمة عند القسم الأول من الفقهاء.

    2-الجواز مطلقاً؛ وهو قول جمهور أهل السنّة بأجمعهم. كما قال ابن قدامة الحنبلي: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حلّ حرائر نساء أهل الكتاب، وممّن روي عنه عمر وعثمان وطلحة وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم. قال ابن المنذر: ولا يصحّ عن أحد من الأوائل أنّه حرّم ذلك. وروى الخلال بإسناده أنّ حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوَّجوا نساءً من أهل الكتاب(17). وبه قال سائر أهل العلم،

           وحرّمته الإماميّة ومن هذا ظهر انفراد الإماميّة بالمنع. كما صرّح بذلك المرتضى؛ حيث قال: (وممّا انفردت به الإماميّة حظر نكاح الكتابيّات، وباقي الفقهاء يجيزون ذلك)(18). وحجتهم بذلك أن الصحابة قد تزوجوا من الكتابيات.

    القول بالتفصيل: إذ أن مقتضى الجمع بين هذه الأخبار حمل المنع على الزواج الدائم، وحمل الجواز على المتعة(19).

          استدلّ أنصار نظرية التفصيل هنا بدليلين اثنين: الكتاب والسنّة، إلى جانب الشهرة. والذي يهمنا في المقام هو السنة الشريفة، ونبينها كما يلي:

  أولًا:

           خبر زرارة: (سمعته (عليه السلام) يقول: لا بأس أن يتزوج اليهوديّة والنصرانيّة).

 تقريب الاستدلال:

           لتقريب الاستدلال بالروايات نقول :

1- الحديث مضمر، وبما أن الخبر عن زرارة، فيرتفع الإضمار بناء على القواعد الحديثية.

2- الرواية صريحة في نكاح المتعة لا الدائم، كما هو واضح من اللفظ ومن خلال قوله لابأس التي تشير إلى الجواز.

   ثانيًا:

           موثقة الأشعري في الطائفة الثانية من الروايات.

 تقريب الاستدلال:

           بالنسبة لموثقة الأشعري فمن ناحية السند مقبولة، بسبب التوثيق، ومرسلة ابن فضال بمنزلة الصحيح، يستدل منها كسابقتها على التصريح بالجواز متعة من خلال كلمة لا بأس.

   ثالثًا:

            أما الكلام في خبر التفليسي فنقول.

 تقريب الاستدلال:

          أن الخبر لا ينهى عن نكاح الكتابية بل يبين الفارق بين المؤمنة والكتابية من باب الأفضلية وهو ظاهر في الجواز أيضا.

  القول الفصل:

         مما تقدم فإن الإنصاف مع النظرية الثالثة ـ مع كون المشهور خلافها ـ من أوضح النظريات الفقهية، لما يُستدلّ به عليها، لكنّ المفترض لفت النظر إلى بعض الأمور:

          أولاً: إنّ عمومات التجويز ليست دليلاً مستقلاً هنا، بل هي من نوع الأصول، بمعنى أنه لمّا لم يُحرز الخروج عن ذلك بأدلّة المانعين والمفصّلين يبقى في مكانه شاملاً للكتابيّات. والظاهر أنّ مرادهم من عمومات تجويز النكاح هو إطلاق آيات النكاح دون التخصيص، إلّا أن التخصيص واضح في روايات الطائفة الثانية.

          هذا حول عمومات الكتاب، أمّا عمومات السنّة في الروايات الاخرى- روايات الجواز- ، فالمهم منها بصدد بيان شرعيّة أصل النكاح واستحبابه في الجملة؛ لذا لزم البحث عن أدلّة أخرى لموضوعنا هنا(20).

          ثانيًا: فك التعارض: بقي على أصحاب التفصيل فك التعارض بين الروايات المتعارضة، اذ يمكن أن يقال: إنّ مجموعة الجواز من الروايات واردة مورد التقيّة؛ لأنّ القول بالجواز المطلق متّفق عليه بين أهل السنة، وردهم هنا هو: لا مجال لحمل روايات الجواز على التقية لأن أبناء العامة يرفضون النكاح المنقطع بالجملة(21).

  حكمة جواز نكاح الكتابيّة بالعقد المنقطع:

           هنا سؤال يجدر الجواب عنه: لماذا يجوز نكاح الكتابيّة متعة مع أنه لا يجوز نكاحها بالعقد الدائم؟ ولابدّ من فهم الحكمة في ذلك أن ننظر في الحقائق التالية:

     1 ـ إنّ للزوج رئاسة الأسرة والقوامة على الزوجة والسلطة الأدبيّة عليها في كلّ شرائع العالم وقوانينه، وله القدرة على التأثير عليها في أفكارها واتجاهاتها أكثر ممّا للمرأة على الرجل في الأعمّ الأغلب النابع من طبيعة المرأة على السواء وبذلك لا يضر اختلاف الدين بينهما(22).

     2 ـ إنّ الإسلام يذعن بالديانتين اليهوديّة والنصرانيّة ويعترف بأنهما من عند الله سبحانه، وأمّا الديانتان اليهوديّة والنصرانيّة المحرفتان فلا تعترفان بديانة الإسلام، ولا تذعنان بأنها من عند الله سبحانه، بل تقولان فيها: إنها مختلقة من عند محمد، ولذا لا تمنعان أتباعهما من القول فيها وإظهار التكذيب لها مع الإمكان. ومن هنا فإن نكاح الكتابية متعة هو من باب ثقافة التسامح بين الأمم والمجتمعات لبيان أن دين الإسلام دين محبة ووئام(23). 

     3- لهذا بادرت الشريعة إلى سدّ هذه الذريعة؛ فحرّمت زواج المسلمة بغير المسلم ولم تفرّق بين وثنيّ وكتابيّ؛ لأنّ العلّة واحدة فيهما معاً؛ فليس تعصّباً ولا أنانّية ولا استعلاءً على النّاس أن يبيح الإسلام للرّجل المسلم أن يتزوّج المرأة الكتابيّة، ولا يبيح للرّجل الكتابيّ أن يتزوّج المرأة المسلمة، بل هو تقدير دقيق لكلّ حالة من الحالتين، ولو أمعن النّظر فيهما ذو رأي غير متعصّب لما خرج إلاّ بهذا الحكم(24).

     4- لعل جواز نكاح الكتابية بالمنقطع لسد حاجة الرجل الجنسية في حالة السفر إلى بلاد الروم، وهو تأكيد على مشروعية نكاح المتعة كما يراه الإمامية، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لولا تحريم عمر لزواج المتعة لأمرت به، ثم ما زنا إلّا شقيّ)(25).

 الخاتمة

            يمكن لنا مما تقدم استنتاج ما يلي:

1- وقع الخلاف بين الفقهاء في مسالة نكاح الكتابية وعلى ثلاثة آراء، الجواز والمنع والتفصيل.

2- إن رفض أبناء العامة نظرية التفصيل هو عدم إيمانهم بمشروعية النكاح المنقطع.

3- إن القائلين بالمنع استدلوا بالكتاب العزيز، وآيات الكتاب صريحة في المنع من المشركين والكفار وأهل الكتاب خارجين تخصصًا.

4- إن الأصح من تلكم الأقوال هو نظرية التفصيل، لما بيَّنا من الأدلة والحكمة من ذلك.

         والحق أن ما ذكرناه ما هو إلّا غيض من فيض، ولعل الحكمة التي تجمع كل تلك التشريعات هي التي بينتها الآية الشريفة بكل وضوح، وهي الاستقرار والمودة والرحمة على المستوى الاجتماعي، كما في قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )(الروم:21).

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الحر العاملي :وسائل الشيعة/10/33.
2- ن.م/10/34.
3- ن.م.
4- ن.م.
5- ن.م/10/39.
6- ن.م.
7- ن.م.
8- ن.م.
9- محمد جواد مغنية : الفقه على المذاهب الخمسة، ص 120.
10- الطوسي: تهذيب الاحكام،3/44.
11- ن.م.
12- الطوسي: المبسوط في الفقه،3/210.
13- ن.م.
14- ن.م/ص211.
15- الطباطبائي: الميزان ، 8/122.
16- محمد جواد مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة، ص122.
17- البخاري: صحيح البخاري ، 10/33.
18- الفقه على المذاهب الخمسة، ص123.
19- الطوسي: الاستبصار، 3/13.
20- تهذيب الأحكام :3/15.
21- ن.م.
22- الصدوق :علل الشرائع، ص 222.
23- المقدس الغريفي: حدود الإساءة للإسلام رسالتي إلى بابا الفاتيكان والعالم ص633.
24- علل الشرائع، ص224.
25- محمد الريشهري: منتخب ميزان الحكمة، ص 404.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.