ليس الموت نهاية لحياة الإنسان وانعداماً لها، ولم تكن الحياة الدنيا هي غاية حياته، بل هو انتقال من نشأة إلى أُخرى، فالحياة مستمرة ممتدة، ولكن بعدة أشكال مختلف بعضها عن بعض، بالتفاصيل والحيثيات، للوصول إلى حقيقة الحياة الخالدة التي تكون ما بعد القيامة.
والحياة في اللغة هي ما بين سُقُوط الولد إلى وقت مَوْتِه(1)، وفي الاصطلاح (ما يشغل العبد عن الآخرة)(2)، والموجودات على قسمين: قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتًا كالأحجار وسائر الجمادات، وقسم منها ربما تغيرت حاله وتعطلت قواه وأفعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس، وذلك كالإنسان وسائر أقسام الحيوان والنبات، فإنّا ربما نجدها تعطلت قواها ومشاعرها وأفعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجياً، وبذلك أذعن الإنسان بأن وراء الحواس أمر آخر هو المبدأ للإحساسات والإدراكات العلمية والأفعال المبتنية على العلم والإرادة وهو المسمى بالحياة ويسمى بطلانه بالموت، فالحياة نحو من وجود يترشح عنه العلم والقدرة،
قال تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)(غافر:11)، والإحياءان المذكوران يشتملان على حياتين:
إحداهما: الحياة البرزخية
والثانية: الحياة الآخرة
فللحياة أقسام كما للحي أقسام(3)، فقد (احتج أكثر العلماء بهذه الآية في إثبات عذاب القبر، وتقرير الدليل أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين حيث قالوا:
(رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) فأحد الموتتين مشاهد في الدنيا، فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي يحصل عقيبها موتاً ثانياً، وذلك يدل على حصول حياة في القبر)(4)،
لأن الإماتة عن الحياة الدنيا والإحياء للبرزخ ثم الإماتة عن البرزخ والإحياء للحساب يوم القيامة، فالآية تشير إلى الإماتة بعد الحياة الدنيا والإماتة بعد الحياة البرزخية وإلى الإحياء في البرزخ والإحياء ليوم القيامة، ولولا الحياة البرزخية لم تتحقق الإماتة الثانية، لأن كُلًّا من الإماتة والإحياء يتوقف تحققه على سبق خلافه(5).
فعالم البرزخ ـ كما يدل عليه اسمه ـ هو عالم يتوسط بين عالمنا هذا والعالم الآخر، وفي القرآن الكريم يكثر الحديث عن العالم الآخر، ولكنّه قليل عن عالم البرزخ، ولهذا السبب هناك هالة من الغموض والإبهام تحيط بالبرزخ، ومن ثم لا نعرف الكثير من خصائصه وجزئياته، ولكن عدم معرفة التفاصيل الجزئية لا تؤثر على أصل الاعتقاد بالبرزخ الذي صرّح القرآن بأصل وجوده)(6).
فما ورد في القرآن الكريم بشأن البرزخ، بيّنته السُنة المطهرة لما فيها ما يثبت حياة الإنسان في الآخرة، التي يكون جزءاً منها حياة البرزخ، ففي الآيات الصريحة التي تذكر امتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته، يقول سبحانه وتعالى في حقّ الكافر إذا وقف على سوء مصيره يتمنّى عودته إلى الدنيا ليتدارك ما فات، ولكن يخيب سعيه، ويُردُّ طلبه،
قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون: 99ـ100) ، وقد جاء في تفسير القمّي (ت329هـ) أن البرزخ هو أمر بين أمرين وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة، وهو ردٌّ على من أنكر عذاب القبر والثواب والعقاب قبل القيامة وهو قول الصادق (عليه السلام):
(والله ما أخاف عليكم إلّا البرزخ، فأما إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم)(7)، وقال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (إن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران)(8).
الترغيب الحسي في البرزخ:
إن ابن آدم يتمثل له عمله في القبر على هيئةٍ من الثواب أو العقاب الحسي، تبعاً لحاله في الحياة الدنيا ويتجسد له في قبره، لتأخذ مكانها في الترغيب والترهيب الحسي، وهو ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
فقد روى الكليني (ت329 ه) بسنده في كتابه الكافي(9) عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) قال: (… فإن كان لله وليًا أتاه[يعني عمله] أطيب الناس ريحًا وأحسنهم منظرًا وأحسنهم رياشًا، فقال: أبشر بروح وريحان وجنة نعيم ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح ارتحل من الدنيا إلى الجنة، وإنه ليعرف غاسله ويناشد حامله أن يعجله فإذا أدخل قبره أتاه ملكا القبر يجران أشعارهما ويخطان الأرض بأقدامهما، أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: الله ربي وديني الإسلام، ونبيي محمد(صلى الله عليه وآله)، فيقولان له: ثبتك الله فيما تحب وترضى، وهو قول الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ)(إبراهيم: 27)، ثم يفسحان له في قبره مد بصره، ثم يفتحان له بابًا إلى الجنة، ثم يقولان له: نم قرير العين، نوم الشاب الناعم، فإن الله عز وجل يقول: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا)(الفرقان:24))(10).
وقد ذُكرت هذه الرواية في مجموعة من المصادر التفسيرية وبألفاظ متقاربة(11).
وإن هذه الرواية وما اشتملت عليه من اقتباسٍ لنصوص القرآن الكريم، لتشفي الغليل بذكرها الترغيب الحسي صراحةً ورسمها للصورة الشمية والبصرية السمعية، من قبيل أن ريح العمل تكون أطيب الريح، ومنظره أحسن المناظر، ويسمع الميت كلاماً يؤنسه، وهو يبشره بروحٍ وريحان وجنة النعيم، ثم أن الملكان يوسعان له قبره لمسافة أضعاف ما يحتاجه فيتخلص من معيشة الضنك، ثم يفتحان له باباً إلى الجنة، ليَنامَ متنعماً إلى أن يبعثه الله عزوجل خير مبعث.