Take a fresh look at your lifestyle.

العدول القرآني في الضمائر

0 2٬233

 

         العدول كلمة اختيرت من بين كثير من الكلمات المقاربة لها دلالياً في مجال الأسلوبية المعاصرة، ومنها الانزياح والخروج والانحراف والفجوة وغيرها؛ لقدرتها على احتضان تلك المقاربات ولاستعمالها القديم عند العرب(1)،

           واللغة الإبداعية تنشأ من العدول أحياناً نتيجة التحول من الكلام العادي المألوف إلى الكلام الراقي غير المألوف، أو التحول من معنى إلى آخر، أو التحول من أسلوب إلى آخر، أو من حرف إلى حرف آخر(2) وهكذا.

         ولهذه الظاهرة الأسلوبية تسميات عديدة منها: (الانزياح، الإزاحة، الانحراف، التحريف، الفارق، الفرق، المفارقة، الاختلاف، الخرق، الاختراق، الفجوة، البعد، الابتعاد، التبعيد، الفاصل، …)(3).

         ويبدو أن مصطلح العدول أجملهن؛ لأن الانزياح مثلاً يُفهِمُ السامعَ البسيطَ بالخروج غير اللازم عن حدود الإبداع، والانحراف قد يقود الذهن إلى التفكر بالانحراف الأخلاقي، والتحريف والفجوة والخرق والاختراق تشعر هذا المصطلحات بوجود خلل نصي، أو أنها لا تلائم المعنى الجمالي للقرآن، أما العدول من جنس الاعتدال؛ فهما مشتقان من جذر معجمي واحد هو (عدل)، والعدل أو الاعتدال نعمة جمالية منحها الله للإنسان،

          قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ)(الانفطار: 6–8)، فإذا كان الله تعالى قد منحها لعبده الفقير الذليل، ألا يودعها في محكم كلامه المبارك؟!

         والعدول القرآني أسلوب من أساليب تقحٌّم الصعب واللامألوف، وهو ليس دليلاً من دلائل نقص ذخيرة القرآن الكريم؛ لأن جميع النصوص الأدبية عندما تكون صعبة تكون أكثر أهمية من غيرها؛ لأنها عندما تكون واضحة تفقد أدبيتها(4) أو درجةً من ذلك، وهذا لا يعني نقص ذخيرة كل نص واضح بل تبقى القضية متعلقة بمقتضى المقام.

           ويتلثم هذا الأسلوب بأساليب بلاغية عديدة كـ (الالتفات، والأسلوب الحكيم، الحذف والذكر) وغيرها.

         وقد رجحت الدراسة الإبقاء على متابعة أسلوب الالتفات في ضمائر الخطاب القرآني من أجل رصد المغايرة أو العدول؛ لأن الالتفات في الضمائر يحقق خاصية العدول في التعبير بشكلٍ لامعٍ انطلاقاً من أن لأسلوب الالتفات خاصيةً تعبيريةً تتميز بطاقتها الإيحائية من حيث اعتماد بنائها على العدول(5)، وكل التفات عدول، وليس كل عدول التفات، هذا يعني أن العدول أعم وأوسع من الالتفات(6)، والالتفات في الخطاب القرآني هو العنصر الأهم في فنيته من بين الأساليب العدولية؛ لارتباطه بالإلهام أو الإبداع الذي لا يمكن الإتيان بمثله.

         وسنستعين بالإجراءات الحديثة في التحليل باتجاه الرؤية الأسلوبية؛ لأن العدول من زمرة المصطلحات الأسلوبية، على الرغم من استعانته بالإنجازات النقدية الكثيرة في فهم الالتفات وتحليله.

       وسنتعرف على دوافع العدول وبواعثه عند التلقي من خلال تقصي جوانب الخطاب القرآني وإمكاناته كافة التي آلت وتؤول إلى اللجوء إلى العدول الذي يقود إلى التكثيف الدلالي الذي لا يعنى بالشكل والمضمون بقدر عنايته بالدلالة.

        والالتفات الضمائري يعني (العدول من حالة من الحالات الثلاث – التكلم والخطاب والغيبة – التي يقتضيها الظاهر إلى حالة أخرى منها)(7)، وهو أنواع منها: (الالتفات من التكلم إلى الخطاب، الالتفات من التكلم إلى الغيبة، الالتفات من الخطاب إلى التكلم، الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، الالتفات من الغيبة إلى التكلم، الالتفات من الغيبة إلى الخطاب)(8). والأمثلة الآتية مصاديق لذلك:

         قال تعالى: (وَمَالِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(يس: 22). فقد تحقق العدول هنا من صيغة التكلم (أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) إلى صيغة الخطاب (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). فلماذا لا يكون التعبير (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه أرجع)؟ عند ذلك يكون سياق التعبير وتراً واحداً وهو وتر (التكلم).

         ولو رجعنا إلى تفسير الآية لوجدنا أن مقام الآية يتطلب هذا العدول؛ لأن الآية هنا في مقام الاحتجاج بوحدانية الله ونفي الآلهة، فالآية في مقام الحجاج تريد إبطال ما ادعى به أصحاب الوثنية الذين تبنوا عبادة الأصنام وأربابها(9)؛ ولذلك عدلت الآية من ضمير التكلم إلى ضمير الخطاب من أجل ملاءمة المقال لمقتضى الحال.

         وقال تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 1ـ 2)، حصل العدول هنا من ضمير المتكلم الجمعي (إنا + أعطينا) إلى ضمير المفرد الغائب (ربك)، فكان من المألوف أن يقول (فصل لنا وانحر)، فلماذا هذه المغايرة بأوتار الضمائر؟! ويبدو أن هذا العدول الذي دبَّ بكلمة (ربك) جاء (تحريضاً على فعل الصلاة لحق الربوبية)(10) وليس غير ذلك.

        وقال تعالى: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)(هود: 61). فالعدول هنا من ضمير الغائب (استغفروه + إليه) إلى ضمير التكلم (ربي). كان من المألوف أن يقول (إن ربكم قريب …).

          ويبدو أن لهذا العدول قصدية، وهي مطابقة المقال لمقتضى الحال؛ فأصحاب نبي الله صالح (عليه السلام) وهم ثمود كانوا يعتقدون برب غير الرب الذي يعتقد به صالح (عليه السلام)؛ لذلك حاول أن يقنعهم بميزات ربه الذي يعبده هو، والمتجسد في قوله (ربي)، والذي يتسم بـ(القرب ، والإجابة)؛ (وذلك لأنهم إنما كانوا يعبدون الأوثان ويتخذونها شركاء لله تعالى لأنهم كانوا يقولون – على زعمهم – إن الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم وأرفع وأبعد من أن تناله عبادة أو ترتفع إليه مسألة،

          ولا بد للإنسان من ذلك فمن الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة التي فوض إليها أمر هذا العالم الأرضي وتدبير النظام الجاري فيه ونتقرب بالتضرع إليه حتى يرضى عنا فينزل علينا الخيرات، ولا يسخط علينا ونأمن بذلك الشرور، وهذا الإله الرب بالحقيقة شفيعنا عند الله لأنه إله الآلهة ورب الأرباب، وإليه يرجع الأمر كله)(11).

           فالذي حصل في واقع الحال منافسةٌ بين ربَّين اثنين، رب يعتقد به قوم صالح (عليه السلام)، ورب يعتقد به صالح (عليه السلام) وحده أي من دون أصحابه؛ لذلك وردت كلمة (ربي) دون كلمة (ربكم). فلسان حال نبي الله صالح(عليه السلام) يقول: (استغفروا ربي وليس ربكم الذي تعتقدون به ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب).

           وقد تكرر العدول نفسه وفي السورة نفسها أيضاً في سياق الإخبار بقصة نبي الله شعيب (عليه السلام) مع قومه، إذ قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)(هود: 90).

           وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس: 22). فكان من المألوف في القياس أن يقول (جرين بكم) وليس (بهم)، فلِمَ هذا العدول من صيغة الخطاب إلى صيغة الغيبة؟!

          دقَّ العدولُ أوتادَه في الآية من خلال التحول من وتر إلى آخر، ونَصَّبَ دلالاتٍ بليغة أفادت تنويع الأسلوب لينشدّ القارئ إليه، وليتخذ المخاطَب منه الموعظة والحكمة، ففي سياق الرخاء والنعمة وظِّفَ ضمير الخطاب، وما أن عدل عنه إلى العسر والبؤس حتى تمَّ تحويل الضمير إلى الغيبة من أجل ملاءمة مقام المخاطب.

          والملاحظ أن الالتفات من ضمير المخاطب (أنتم) إلى ضمير الغيبة (هم) يفيد التخصيص بعد العموم؛ ذلك أنّ صدر الآية يخبر عن لطف الله تعالى بعباده وهم في البر والبحر وهذا أمر عام ومألوف عند الناس جميعاً ومعتاد عليه ومتداول في واقعهم المحسوس؛ إذ أن جميع الناس يتمكنون من السير في البر أو البحر؛ فجاء الخطاب المباشر بالضمير (كم) موافقاً لعموم المخاطَبين،

           أما السير في طقوس الخطر والمآزق فأمر خاص لا يتأتى إلا إلى القليلين، وهم على قلتهم تكون أخبارهم مجهولة في أثناء رحلتهم، فجاء الخطاب بضمير الغيبة (هم) ملاءمةً لحالهم المجهول وتنبيهاً ببعدهم عن الجماعة ومضيهم في الظرف السرمدي(12)، والله العالم.

          وقال تعالى: (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ) (فاطر:9). لاحظ العدول الانتقال من الغيبة إلى التكلم (الله/هو) (فسقناه/نحن)، إن صيغة الغيبة أفادت بيان المختص بعملية الإرسال وهو البارئ القدير، و صيغة التكلم أفادت تأكيد هذا الاختصاص والتنبيه على أن قيادة السحاب إلى البلد الميت لا يقدر عليه غير الله. والتنبيه أيضاً وظيفة خطابية تهدف إلى التأكيد(13).

         أو إن العدول من الغيبة إلى التكلم ورد في الآية من أجل المبالغة والتفخيم بأمر الفاعل – جلَّ شأنُهُ – والباب مفتوح للبحث والاجتهاد …

        وقال تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(الفاتحة:3ـ4). لاحظ الانتقال من الغيبة (مالك) إلى الخطاب (إياك)، فكان من المألوف أن يقول (إياه نعبد وإياه نستعين)، وهذا العدول يشير (إلى أن الخلق قاصرون عن مخاطبته، فإذا عرفوه بما هو له، وتوسلوا للقرب إليه، بالثناء عليه، وأقروا بالمحامد له، وتعبدوا له بما يليق بهم، تأهلوا – حينئذٍ – لمخاطبته ومناجاته، فقالوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(14).

          إن الاعتبارات الداعية إلى العدول عن مقتضى القياس في باب الالتفات كثيرة لكن أهل العلم به ذكروا له اعتباراً يجري في كثير من أمثلته، ألا وهو التفنن أو التلوين في طريقة الكلام من أجل تنشيط ذهن السامع، وجعله أكثر تنبهاً للإصغاء إلى الكلام؛ لأن لكلِّ جديد لذة، ولكل طارئ بهجة.

        وهناك بعض المواضع من الالتفات تختص باعتبارات ونكت لا يكشف لثامها إلا من يملك فهماً كافياً، وذوقاً بلاغياً سليماً(15) وفقهاً بالتفاسير القرآنية.
والشكر لله في الأول والآخر .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ ينظر: المفارقة في شعر الرواد – دراسة في نتاج الرواد من الشعر الحر: لـ (قيس حمزة الخفاجي)، رسالة ماجستير، جامعة المستنصرية/كلية التربية،1994م: 63.
2ـ ينظر: الانزياح في الخطاب النقدي والبلاغي عند العرب: لـ(د. عباس رشيد الدده)، ص: 40.
3ـ إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي: لـ(د. يوسف وغليسي)، ص: 217.
4ـ ينظر: دراسات في البلاغة العربية والنقد الأدبي المعاصر: لـ(د. عزيز عدمان)، ص: 182.
5ـ ينظر: البلاغة والأسلوبية: لـ(د. محمد عبد المطلب)،ص 276 .
6ـ ينظر: أسلوبية الالتفات محاولة تأصيلية وتطبيقية – قصار السور القرآنية أنموذجاً: لـ(نوافل يونس سالم الحمداني)، رسالة ماجستير، جامعة ديالى/ كلية التربية، 2004م: 23.
7ـ دروس في البلاغة: لـ(الشيخ معين دقيق العاملي)، ص : 36.
8ـ ينظر: المصدر نفسه: 36.
9ـ ينظر: الميزان في تفسير القرآن: لـ(السيد محمد حسين الطباطبائي): 17/77.
10ـ دروس في البلاغة: 37.
11ـ الميزان في تفسير القرآن: 10/298.
12ـ ينظر: الكشّاف/الزمخشري): 2/327. وينظر: بُنى البديع في القرآن الكريم – دراسة فنية: لـ(د .أميرة جاسم خلف العتابي) ص: 159 – 160.
13ـ ينظر: علم الإشارة – السيميولوجيا: لـ(بييرجيرو)، ت (د. منذر عيّاشي) ص: 32 .
14ـ دروس في البلاغة: 37.
15ـ ينظر: المصدر نفسه: 37.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.