Take a fresh look at your lifestyle.

الدلالة الصوتية في سورة الواقعة

0 3٬646

 

            القرآن الكريم كتاب منزل من لدن حكيم خبير، فكل شيء فيه جاء عن دراية وقصد وحكمة، فهو منزه بكل حركاته وسكناته، وفي حروفه وأصواته، عن اللغو والعبث، لذلك ترى لأصواته ميزة خاصة لا تمتلكها بقية النظم الأخرى من (شعر، ونثر، وسجع)، ومن هنا احتلت الدلالة الصوتية حيزًا لها من بين الدلالات المستقاة من القرآن الكريم، كالدلالة الصرفية والنحوية والسياقية والمعجمية، وربما كانت الدلالة الصوتية هي الأبرز من بينها، كون اللغة ما هي إلّا أصوات(1)، والقرآن الكريم نازل بهذه اللغة وينص على ذلك قوله تعالى (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)(الشعراء:195)، أي إنه يُتلى وليس موجودًا في الكتب، فالأصوات كانت هي السبيل الأول لنقل القران الكريم، فلا ريب بما للدلالة الصوتية من أهمية.

            ومعلوم لدينا إن القران الكريم أُنزل للناس جميعًا، وهو آخر الكتب السماوية المرسلة، ولهذا فهو على مستوى فائق من العناية الإلهية التي شملت كل حركاته وسكناته ومعانيه وحروفه وحتى أصواته، فأصوات القرآن الكريم مختارة بعناية حسب ما يتطلبه الموقف وما يقتضيه السياق، أي أن لكل صوت دلالة معينة تسترعي انتباه القارئ أو السامع حتى وإن كانا في جهل تام لدلالة الأصوات، فهو في موضع من القرآن الكريم يشعر بلذة ويطمئن قلبه، وفي موضع آخر ينتابه الخوف ويتملكه الفزع لسماعه بعض الأصوات في سياق آيات معينة،

          فلقد (اعتنى الله تعالى أيّما عناية بأصوات القرآن الكريم، فإذا أردت أن تعلم ما معنى الدلالة الصوتية للحروف، لا سبيل أمامك إلّا الرجوع للكتاب المبين، فطريقة نظمه جعلت المسامع لا تنبو عن شيء من القرآن ولا تلوي من دونه حجاب القلب، حتى لم يكن لمن يسمعه بدٌ من الاسترسال معه والتوفر على الإصغاء إليه، لا يستلهمه أمر من دونه ،…، فإنه إنما يسمع ضرباً خالصاً من الموسيقى اللغوية في انسجامه واطرِّاد نسقه واتزانه على أجزاء النفس مَقطَعاً مَقطَعاً ونبرةً نبرةً كأنها توقِّعه توقيعاً ولا تتلوه تلاوة)(2).

            ومن نعم الله سبحانه على الإنسان أن جعل له قدرة تمكنه من إنتاج وحدات صوتية دالة ومعبرة يستعملها في التعبير عن حاجاته، فسما بهذه القدرة على بقية المخلوقات(3)، ثم جعل من كتابه برهانًا لمن أراد التثبت من وجود هذه القدرة، فخص كل صوت بدلالة معينة وعند اجتماع عدة أصوات تنتج الدلالة الصوتية التي تستمد من طبيعة بعض الأصوات من العبارات ولها عدة مظاهر كالنبر والتنغيم(4).

          إلّا أن الدراسة الصوتية عند القدماء كانت عبارة عن إشارات متناثرة في بطون الكتب المؤلفة في تلك الحقبة، إذ لم تخصص لها مباحث منفردة، لكنها بعد ذلك استقلت وأضحت علمًا من علوم اللغة، وذلك بسبب التقدم الحاصل وتوفير الأجهزة للدارسين في هذا المجال(5).

         فأصبحت الدراسة الصوتية بعد ذلك من أبرز الدراسات في العصر الحديث وتنبه الباحثون لأهمية الأصوات في توضيح الدلالة.

  الدلالة الصوتية في سورة الواقعة:

         إن المتتبع لآثار الدلالة الصوتية في سورة الواقعة يجدها في كثير من المواطن التي تدلل عليها، ومن هذه الأدلة:

  1- الفاصلة:

       وهي عبارة عن (لفظ آخر الآية ينتهي بصوت قد يتكرر محدثًا إيقاعاً مؤثراً في صورة السجع وقد لا يتكرر)(6)، وقد انتقى القرآن الكريم لفواصل هذه السورة المباركة حروفاً تميزت بوقعها النغمي لتكون أكثر وضوحاً للسمع عند الوقوف عليها(7).

         لقد توزعت الفاصلة القرآنية ما بين (التاء، والنون، والميم، والألف، والباء، والدال، واللام، والهمزة) والذي حظي بنسبة أكبر هو صوت النون وأقل صوت هما صوتًا الهمزة واللام إذ ذكرا مرة واحدة، وهذه الفواصل لها دلالة صوتية كبيرة فهي (صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقاً عجيباً يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه)(8).

  2- التركيز على أصوات معينة:

         إن استغلال الكلمات بحروف دون غيرها يكسبها ذائقة سمعية، فتكون لها استغلالية صوتية خاصة تجعلها مختلفة عن غيرها من الكلمات المتفقة معها في المعنى نفسه، فهي ربما تكون أكثر تأثيرًا في الصدى أو البعد الصوتي أو بتكثيف المعنى أو بإقبال العاطفة، فهي مرة تصك السمع وأخرى تهيئ النفس أو تضفي دلالة الفزع من شيء، أو توجهاً لشيء أو طمعاً في شيء(9).

          وإن السياق الذي جاءت به السورة المباركة، هو وصف القيامة الكبرى التي فيها بعث الناس وحسابهم وجزاؤهم، فتذكر أولاً شيء من أهوالها، فتذكر تقليبها للأوضاع والأحوال بالخفض والرفع وارتجاج الأرض وانبثاث الجبال وتقسم الناس ثم الاحتجاج على أصحاب الشمال المنكرين لربوبية البارئ وللبعث ثم تختم الكلام بذكر الاحتضار بنزول الموت(10)، لذلك كان التركيز في هذه السورة المباركة على أصوات تناسب الحديث عن هذه الأمور.

  3- الصيغة الصوتية الواحدة:

           وهي (تسمية الكائن الواحد، والأمر المرتقب المنظور بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة، بنسق صوتي متجانس للدلالة بمجموعة مقاطعه على مضمونه وبصوتيته، على كنه معناه ومن ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى)(11).

          فإن استعمال صيغة معينة للتعبير عن أمر معين يكون لسبب معين يريد المتكلم إيصاله، فهذه الصيغ كالقارعة، والآزفة، والراجفة، ومن ضمنها الواقعة، (تهزك من الأعماق، ويبعثك صوتها من الجذور، لتطمئن يقيناً إلى اليوم الذي لا مناص عنه، ولا خلاص منه، فهو واقع يقرعك بقوارعه، وحادث يثيرك برواجفه ،…،

        الصدى الصوتي، والوزن المتراص، والسكت على هائه أو تائه القصيرة)(12)، فكأنما ارتبط سماع هذا اللفظ إيذاناً بوقوع أمر جلل فأصبح المتلقي يخشى من هذه العبارة خشيته من يوم القيامة نفسه، فالمعنى اللغوي للواقعة (النازلة الشَّديدةُ من صُروفِ الدَّهر)(13)، وهي عند وقوعها تزلزل الناس وتقلب أحوالهم فتخفض المرتفع وترفع المنخفض(14)، فعبر عما يحدث في ذلك اليوم من اضطراب بصيغة صوتية مناسبة لما يحدث فيه من انقلاب وقبله (وأكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة والعذاب، وصوت اللفظ يوحي بهذا المعنى)(15).

4- مادة الصوت:

         لقد اختار الله عز وجل للتعبير عن ألفاظ كتابه العزيز أصواتاً معينة وفق مبدأ منظم بإحكام تام وليس اعتباطًا، فتجد لفظة معينة في القرآن الكريم تعبر عن دلالة معينة لا تقوم بمهمتها أية لفظة أخرى، (وليس يخفى أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته، إنما هو سبب في تنويع الصوت بما يخرجه فيه مداً أو غنَّة أو ليناً أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه ،…،

          ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع، أو الإطناب والبسط، بمقدار ما يكسبه من الحدوة والارتفاع والاهتزاز)(16)، لهذا يُلاحظ في هذه السورة المباركة التركيز على مادة الأصوات فصوت الباء الذي تكرر في السورة في كلمات كقوله تعالى: كاذِبةٌ…بُسَّتِ…بَسًّا…هَبَاءً…مُنبثّاً، فهذا الصوت من الأصوات المجهورة(17)،

        ومعنى الجهر: الوضوح، والصوت الجَهير أي الصوت العالي(18)، وأيضاً يمتاز هذا الصوت بالشدة، فالأصوات الشديدة هي: (الهمزة، والقاف، والكاف، والجيم، والطاء، والتاء، والدال، والباء)(19)، 

        وهذان المعنيان أي الوضوح والشدة مما يتناسب بلا شك مع السياق المراد في هذه السورة المباركة، وقد استعمل الله عز وجل عبارات دون غيرها نحو لفظة: رُجَّتِ…بُسّتِ…هباءً…مَّوضُونةٍ…يُصَّدعُونَ، ولكل واحدة من هذه العبارات لفظة مقابلة لها أو أكثر، لكن الله عز وجل آثر استعمال هذه الألفاظ على نظائرها، فالرجّ مثلًا هو: (تحريك الشيء تحريكاً شديداً، إشارة إلى زلزلة الساعة)(20)،

          فلم يقل الله عز وجل: وحركت، فالحاء تُعد من الأصوات الرخوة بعكس الجيم التي تُعد من الأصوات الشديدة(21)، فلما كانت الراء موجودة في اللفظتين وكانت الكاف والجيم من الأصوات الشديدة جاءت المفاضلة بصوت الجيم، وإن لم يكن مقابلاً للصوت في الكلمة الأخرى، فعبر عن المعنى المراد خير تعبير فالأرض في ذلك اليوم (تتحرك بحركة مزعجة)(22)، وكذلك الرج فيه إشارة إلى القَلب والإمالة فعند رجنا لقنينة الدواء مثلاً دائماً ما نميلها ولا نقوم بالرج بصورة عمودية.

           وكذلك (البَسْ) فهو التفتيت والطحن(23)، وهو (عود الجسم بدق ونحوه أجزاء صغاراً متلاشية كالدقيق)(24)، وكما هو معروف أن الفاء من الأصوات المفخمة فقد أسْتعيض عن هذه العبارة أي (الفَتْ) بلفظة (البَسْ) لأن الباء من الأصوات الشديدة وهي تختلف عن الفاء التي تكون من ضمن الأصوات الرخوة(25).

           والبَسْ (هو جرٌ للحمار)(26)، وقد استعمل هنا للدلالة على أنها مُقادة خاضعة فشابهت حالٌ الحمار الذي لا حول له ولا قوة. وفي قوله تعالى: (هَبَاءً)، من (هبو: الهَبْوَةُ: غبار ساطع في الهواء كأنّه دخانٌ ،…، والهباءُ دقائق التّراب)(27)، فالهباء إما يُراد به الغبار أو الذَّرة من الغُبار(28) فيدل على الكل والجزء بلفظة واحدة وهو ما يتناسب مع حال السموات والأرضين كما يتناسب مع القدرة الإلهية التي لا يفوقها شيء فيُلاحظ أن الهاء والغين من الأصوات الرخوة والباء من الأصوات الشديدة والألف من الأصوات المتوسطة، فجاءت المُفاضلة بين اللفظتين عن طريق الراء والهمزة حيث الراء تُعتبر من الأصوات المتوسطة بعكس الهمزة التي تُعد من الأصوات الشديدة(29). فجاءت عبارة (هباء) للتعبير عن انعدام الشيء انعداماً تاماً.

  خاتمة

         إن الأصوات ذات أهمية كبرى بالنسبة لأي خطاب، فما بالك بخطاب أزلي موجه إلى الناس كافة، ولمّا كان تلقي القرآن الكريم لأول مرة عن طريق السماع، فكان من الضروري التركيز على أصوات القرآن الكريم وماهية هذه الأصوات، وتتبع ألفاظ سورة الواقعة أكد هذه الحقيقة التي تتجلى واضحة في أمور عدة منها:

1- الفاصلة.

2- التركيز على أصوات معينة تمتاز بالجهر والشدة.

3- لزوم بعض العبارات صيغاً محددة، غَدت عَلماً على حدوث أمر جلل.

4- مادة الأصوات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الخصائص / ابن جني 1/33.
2ـ إعجاز القران والبلاغة النبوية / مصطفى صادق الرافعي, 212-213.
3ـ يُنظر: البحث الدلالي في التبيان في تفسير القران لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ت460م, ابتهال كاصد ياسر الزيدي، أطروحة دكتوراه، كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، 1424هـ -2004م، ص31.
4ـ يُنظر: دلالة الألفاظ/ إبراهيم أنيس، 46-47.
5ـ يُنظر: البحث الدلالي32.
6ـ علم الأصوات النطقي دراسات وصفية تطبيقية/ د.هادي نهر253.
7ـ يُنظر: المصدر نفسه 253.
8ـ إعجاز القرآن 216.
9ـ يُنظر: الصوت اللغوي في القرآن، محمد حسين الصّغير 164.
10ـ يُنظر: الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي 119-120.
11ـ الصوت اللغوي 171.
12ـ المصدر نفسه 171.
13ـ العين/ الخليل بن أحمد 1062-1063.
14ـ يُنظر: تفسير الفخر الرّازي 29/140.
15ـ الصوت اللغوي 172.
16ـ إعجاز القرآن 215-216.
17ـ يُنظر: دراسة الصّوت اللغوي/ أحمد مختار عمر 324.
18ـ علم اللغة مقدمة للقارئ العربي/ محمود السعران 91-92.
19ـ الميزان في تفسير القرآن 120.
20ـ يُنظر: علم الأصوات النطقي 34-35.
21ـ تفسير الفخر الرازي 140.
22ـ يُنظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن/ الشنقيطي 511.
23ـ الميزان في تفسير القرآن 120.
24ـ يُنظر: دراسة الصوت اللغوي 325.
25ـ يُنظر: علم اللغة 91-92.
26ـ العين 17.
27ـ المصدر نفسه، مادة (هبا) 1001.
28ـ يُنظر: الميزان في تفسير القرآن 120.
29ـ يُنظر: علم الأصوات34-35.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.