القصد، والمراد به في الشرع هو: قصد زيارة بيت الله الحرام على نحو خاص معلوم من الشريعة، وبكيفية معلومة ومبينة في الكتب الفقهية من أداء لمناسكه العبادية الواردة في الشريعة، المقيدة بمكان معين، وأيام معينة، وأفعال معينة، مع نية القربة كسائر العبادات.
فالحج وكما يعرفه الإمام علي(عليه السلام) بقوله: (الحج جهاد كل ضعيف)(1).
إن الحج من أهم أركان الإسلام ومبانيه، ففيه قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (من مات ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً)(2).
ويراد به من كانت لديه الاستطاعة وباقي الشروط، ومع ذلك تعمد عدم الذهاب، أو من ينكر هذه الفريضة الإسلامية، لا مطلقًا.
لذا فالإمام الصادق(عليه السلام) يوضح ذلك بقوله: (من مات و لم يحج حجة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحج، أو سلطان يمنعه منه، فليمت يهوديًا أو نصرانيًا)(3). في توضيحٍ منه (عليه السلام) إلى المستطيع القادر على الذهاب إلى الحج، غير الممنوع، أو المصدود، وغير المطلوب، أو المطارد، ذلك أن من لا يذهب للحج من غير مانعٍ أو عائق فهو غير مؤمن بأركان الإسلام.
فلسفة الحج:
نقف مع جملة من الأحاديث المباركة والتي تبين فلسفة الحج، وما له من بركات وأسرار، والتي منها:
1ـالحج تواضع لله تعالى، وطاعة له سبحانه:
يقول الإمام علي (عليه السلام) في ذلك: (وفَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِه الْحَرَامِ، الَّذِي جَعَلَه قِبْلَةً لِلأَنَامِ، يَرِدُونَه وُرُودَ الأَنْعَامِ ويَأْلَهُونَ إِلَيْه وُلُوه الْحَمَامِ، وجَعَلَه سُبْحَانَه عَلَامَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِه، وإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِه)(4).
2ـالحج يزيد في الصحة، والرزق، والإيمان:
قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): (حجوا واعتمروا تصح أجسامكم، وتتسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مؤونة الناس ومؤونة عيالاتكم)(5).
3ـ الحج تسكين للفؤاد:
قال الإمام الباقر(عليه السلام): (الحج تسكين القلوب)(6).
4ـ الحج رضوان وغفران:
قال الإمام الصادق(عليه السلام): ( … و هو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غفرانه …)(7).
5ـ مذلة للجبابرة:
قال الإمام الصادق(عليه السلام): (ما من بقعة أحب إلى الله تعالى من المسعى؛ لأنه يذل فيه كل جبار)(8).
6ـ الحج تفقه وتعلم:
قال الإمام الرضا (عليه السلام): (…لما فيه من التفقه ونقل أخبار الأئمة (عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية)(9).
آداب الإحرام للحج:
إن للحج مجموعة من الآداب، والتي على المسلم أداؤها، والتي تتوزع على جميع أعمال الحج، والتي هي:
1ـ حلية مال الحج، وطهارته، وإعطاء ما به من حقوق إلى مستحقيها من دَيْنٍ أو خمس أو زكاة.
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (من حج بمال حرام فقال: لبيك اللهم لبيك، قال الله له: لا لبيك ولا سعديك، حجك مردود عليك)(10).
2ـ أن يكون طلبًا من أجل مرضاة الله تعالى، خاليًا من الرياء والسمعة.
قال الإمام الصادق(عليه السلام): (الحج حجان: حج لله وحج للناس، فمن حج لله كان ثوابه على الله الجنة، ومن حج للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة)(11).
3ـ إخلاص النية لله مع الخوف والخشية منه تعالى.
عن مالك بن أنس قال: حججت مع الصادق(عليه السلام) سنة، فلما استوت به راحلته عند الإحرام كان كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد يخر من راحلته، فقلت: قل يا بن رسول الله، ولا بد لك من أن تقول، فقال(عليه السلام): (يا بن أبي عامر، كيف أجسر أن أقول: لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن يقول عز و جل لي: لا لبيك ولا سعديك)(12).
4ـ الخشوع والخضوع والإقبال على الله تعالى.
قال الإمام الرضا(عليه السلام): (إنما أُمروا بالإحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم الله وأمنه، ولئلا يلهوا ويشتغلوا بشيء من أمور الدنيا وزينتها ولذاتها، ويكونوا جادين فيما هم فيه، قاصدين نحوه، مقبلين عليه بكليتهم)(13).
شروط الحج ومقدماته:
إن للحج مجموعة من الشروط والمقدمات المهمة، والتي على الحاج مراعاتها، وهي:
1ـ البلوغ، فلا يجب على الصبي.
2ـ العقل، فلا يجب على المجنون مطلقًا.
3ـ الحرية، فلا يجب بأصل الشرع على العبد.
4ـ الاستطاعة المالية، فلا يجب على من لم يتمكن منه من حيث المال.
5ـ الاستطاعة البدنية، فلا يجب على الضعيف والمريض والهرم ومن أشبههم إذا كان حرجيًا في حقهم أو متعذرًا. ولمن أراد المزيد من التفصيل مراجعة الكتب الفقهية المختصة بذلك.
فوائد الحج:
إن للحج جملة من الفوائد، وبالخصوص على الصعيد الروحي، وعلى الصعيد الديني، ومن تلك الفوائد:
1ـ الحج برهان عملي من المؤمن على أنه يفضل حب الله تعالى على أهله وعمله ودياره، فيتحمل مشاق السفر ومخاطر الطريق تلبية لدعوة الله تعالى وابتغاء رضوانه.
2ـ في الحج تعويد للحاج على الصبر، وتحمل الشدائد، ومفارقة الأهل والأولاد والأوطان، وتمرين عملي على حياة الخشونة وشظف العيش.
3ـ في الحج تقوية للإيمان وتهذيب للنفس وتكفير للذنوب، لأن المؤمن يتفرغ فيه للعبادة والتفكر وذكر الله تعالى، لا تشغله هموم الحياة ولا تفتنه بهارجها الزائلة.
4ـ وفي الحج تتحقق المساواة التامة، والأخوة الإنسانية بأجلى صورها، فلا فرق بين أبيض وأسود، ولا فقير أو غني، ولا عربي وأعجمي.
5ـ يكتسب المسلم في الحج ثقافة واسعة وخبرة عملية حيث يختلط بالناس بمختلف ديارهم وأوطانهم، فيتعرف عليهم وعلى أخبارهم وأحوالهم.
6ـ يرى الحاج بأم عينه البقاع الطاهرة التي شهدت مولد الإسلام ونبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله) وباقي الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ومدافنهم الطاهرة، مع تلك المواقف التي شهدت قوة الإسلام وانتشاره.
الإمام الصادق (عليه السلام) يبين أسرار الحج:
نقف عند حديث الإمام الصادق (عليه السلام) والذي يبين فيه جملة من أسرار الحج، والتي علينا معرفتها:
قال (عليه السلام) في حديث طويل له: (…إذا أردت الحج فجرد قلبك لله تعالى من كل شاغل وحجاب حاجب، وفوض أمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق يلزمك من جهة المخلوقين.
ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك مخافة أن يصير ذلك عدوًا ووبالًا فإن من ادعى رضا الله واعتمد على ما سواه صيره عليه وبالًا وعدوًا ليعلم أنه ليس له قوة وحيلة ولا لأحد إلّا بعصمة الله وتوفيقه فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع وأحسن الصحبة.
وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيه (صلى الله عليه وآله) وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات.
ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك.
والبس كسوة الصدق والصفا والخضوع والخشوع.
وأحرم من كل شيء يمنعك عن ذكر الله ويحجبك عن طاعته.
ولبِ بمعنى إجابة صادقة صافية خالصة زاكية لله تعالى في دعوتك متمسكاً بالعروة الوثقى.
وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوفك مع المسلمين بنفسك حول البيت.
وهرول هرولة من هواك وتبرأ من حولك وقوتك.
واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى ولا تتمن ما لا يحل لك، ولا تستحقه.
واعترف بالخطايا بعرفات، وجدد عهدك عند الله تعالى بوحدانيته وتقرب إليه.
واتقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل.
واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة.
وارم الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات.
واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك.
وادخُل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم.
ودر حول البيت متحققًا لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه.
واستلم الحجر رضًا بقسمته وخضوعًا لعزته.
وودع ما سواه بطواف الوداع.
واصف روحك وسرك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا.
وكن بمرأى من الله، نقيًا أوصافك عند المروة.
واستقم على شرط حجتك هذه ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك وأوجبته له إلى يوم القيامة، واعلم بأن الله تعالى لم يفرض الحج ولم يخصه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى: (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).
ولا شرع نبيه سنة في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه إلّا للاستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة وفضل بيان السبق من الدخول في الجنة أهلها ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحج من أولها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النهى)(14).
وبذلك تتوضح لنا آداب وأسرار وفوائد الحج، والذي هو فريضة وركن إسلامي مهم، تكتنف في داخله جملة أسرار، على المسلم معرفتها، والتوق إلى عملها، ففيها طاعة الله تعالى، وفيها نجاته، وفيها سعة رزقة، وزيادة حسناته.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1ـ الخصال، ص 620. 2ـ المحجة البيضاء، ج 2، ص 189. 3ـ المصدر السابق. 4ـ نهج البلاغة، الخطبة 1. 5ـ ثواب الأعمال، ص 70. 6ـ أمالي الطوسي، ص 296. 7ـ أمالي الصدوق، ص 493. 8ـ البحار، ج 99، ص 45. 9ـ عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 119. 10ـ الدر المنثور، ج 2، ص 63. 11ـ ثواب الأعمال، ص 74. 12ـ الخصال، ص 167. 13ـ الوسائل، ج 9، ص 3. 14ـ مصباح الشريعة، الحج، والمحجة البيضاء، ج 2، ص 266 ـ 267.