وقد نزلت هذه الآية المباركة لرفع الحرج الذي وقع فيه المسلمون عند السعي بين الصفا والمروة، إذ كان عليهما صنمان (أساف ونائلة) وكان المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تبارك وتعالى الآية المتقدمة.
إنّ سبب الحرج والكراهية كان خوفًا من أن يكون فعلهم من أفعال الجاهلية، إذ إنّ الصنمين كانا على حالهما حول الكعبة، وذلك في عمرة القضاء، ولم يكن فتح مكة بعد(1) وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما تيمُّنًا بهما وعبادة، وقد قيل إنّهم كانوا يكرهون السعي بينهما، فظنّ قوم أنّ في الإسلام مثل ذلك(2)، فأنزل الله تعالى الآية، وجعلهما من شعائره سبحانه، بالسعي بينهما والطواف بهما، فقال: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله...)، إذ قدّر العلماء محذوفًا (الطواف) أي أنّ طواف الصفا والمروة من شعائر الله، غير أنّ هذا التقدير غير مسوّغ له، إذ قال تعالى: (مِنْ شَعَائِرِ الله) بعده(3)، والشعائر جمع شعيرة وهي (المعالم للأعمال، فشعائر الله: معالم الله التي جعلها مواطن للعبادة وهي أعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر، وهو مأخوذ من شعرتُ به أو علمت، وكلّ مَعْلَم لعبادة من دعاء أو صلاة أو أداء فريضة فهو مشعر لتلك العبادة)(4)،
ونقل أبو حيان الأندلسي (ت 756هـ) عن الهروي قال: (سمعت الأزهري يقول: هي العلائم التي ندب الله إليها، وأمر القيام بها)(5)، وهذا مُشعر لعدم أهمية تقدير محذوف لانَّ المقدّرَ معروفٌ كالمسلِّم به ومتبادر إلى الذهن حال السماع.
وقد وقع الوهم في دلالة الآية المباركة بسبب من تعدّد المفاهيم المأخوذة عن النص المبارك، ولذلك تعدَّدَت الآراء في حكم السعي بين الصفا والمروة: أهو واجب أم تطوّع، أهو ركن أم لا، وكان القوم على ثلاثة أقوال:
1ـإنّ السعي واجب وركن، ولا يتم الحج إلّا به، وإنّ في تركه أو بعضه يُبطل الحج. وهو رأي الإمامية، وقال به الحسن وعائشة ومالك وهو مذهب الشافعي وأصحابه، واستندوا لذلك في أنّ السُنَّة قد أوجبته، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): (كُتِبَ عليكم السعي فاسعوا)، فظاهر الآية إنّما يدل على إباحة ما كرهوه من السعي(6)، لهذا فإنّ نفي الجناح قد ورد على فعل السعي ولم يرد على عدمه، وفي هذا دلالة على الجواز بالمعنى الأعم، لا على التخيير المحض، لأنّ التخيير المحض إنّما يدل على الفعل والترك، ولم تتضمن الآية دلالة الترك.
2ـإنّ السعي واجب، وليس بركن، وهو قول أبي حنيفة وعلى تاركه دم(7)، ودليل من أوجبه دلَّ على مطلق الوجوب(8).
3ـ إنّ السعي تطوّع، ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير وعطاء ومجاهد وأحمد بن حنبل، وتنصره قراءة ابن سعد، (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، ودليلهم أنّ رفع الجناح وما فيه من التخيير بين الفعل والترك (9) كقوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)(البقرة: 230)، وقوله سبحانه: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) (البقرة:158)، وقوله جلّ ثناؤه: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)(البقرة: 184).
وقد استند أصحاب القولين الأول والثاني إلى ما جاء في السنة النبوية المباركة(10)، وما روي عنه (صلى الله عليه وآله): (اسعوا فإن الله تبارك وتعالى كتب عليكم السعي)(11)، وفي الحديث دلالة على الوجوب، وأما كون السعي ركنًا فإنه ثبت أنّه نسك من مناسك الحج والعمرة، أو كان منهما، فهو كالطواف، ومستند ذلك قوله (صلى الله عليه وآله): (خذوا عني مناسككم)(12).
أما مستند أصحاب القول الثالث فإنهم أوّلوا (أن يطَّوّف) على تقدير (ألاّ يطَّوّف) قال الفراء: (وهذا يكون على وجهين: أحدهما أن نجعل (لا) مع (أن) صلة على معنى الإلغاء كما قال: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(الأعراف: 12). والمعنى: ما منعك أن تسجد، والوجه الآخر أن نجعل الطواف بينهما يرخّص في تركه، والأول المعمول به)(13).
لكن أجدُ في السعي بين الصفا والمروة من المسلّم به، وأنّ الآية المباركة قد تجاوزت مسألة وجوده وإنّه ركن واجب، عندما عُدَّ من شعائر الله تعالى وعلامة من علامات متعبداته، ولم تشر إليه الآية بقوة لأنّه ممّا تعارف عليه كل من حج البيت أو اعتمر في الجاهلية وفي صدر الإسلام، حتى حُذف من صدر الآية، فقال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ...) الآية، ولو كان هناك حكمٌ متعلقٌ بالسعي ذاته لأشار إليه لفظًا، لكنه عندما كان مما تُسلِّمَ على وجوده ووجوبه على عادة الحجاج ترك معنى الإشارة إليه.
إذن رفع الجناح لم يكن موضوعه ذات السعي بين الصفا والمروة، وإنّما كان يشير إلى موضع الحرج الذي تعرّض له الحاج وهو وجود الصنمين عليهما، ثم أنّه لو كان رفع الجناح يشير إلى السعي ذاته لقال سبحانه: (إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) وسكت، وعندها سيكون رفع الجناح مطلقًا إلى السعي لا غير.
بيد أنّي أجد هذا النفي قد قًيِّد بقيد (أن يطَّوَف بهما) أي أنّ رفع الجناح لا يكون إلّا بالطواف بهما، رغم وجود الصنمين وتحرجهم منهما، فكان الطواف بهما علة في رفع الجناح لا شرطًا في وقوعه، وقد تنبه الطبرسي إلى ذلك، فقال: ( فرجع رفع الجُناح عن الطواف بهما إلى تحرجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين لا إلى عين الطواف، كما لو كان الإنسان محبوسًا في موضع لا يمكن الصلاة إلّا بالتوجه إلى ما يكره التوجيه إليه من المخرج وغيره، فيقال له: لا جُناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان، فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة، لأنّ عين الصلاة واجبة وإنّما يرجع إلى التوجه إلى ذلك المكان)(14).
وإنّ وقوف الآية عند قوله: (أن يطَّوَف بهما) دليل وجوب الطواف والسعي، لأنّ ظاهر النص بعده يشير إلى التطوّع، إذ أنّ النص ابتدأ بجملة جديدة حين استأنف الحديث بقوله سبحانه: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا)، وهذا مما لا يدع شكًا لوجوبه، ولو لم يأتِ بهذه الجملة الاستئنافية الجديدة، لأطلق الدلالة واحتمل الوجوب والتطوع في السعي والطواف.
إذن في الآية إجمال وتفصيل، فقد أجمل سبحانه في المواضع التي تسالم عليها الحجيج، وفصّل في نفي الجناح، وموضعه والتطوّع ومكامنه لأنّه كان موضعًا لسبب نزول الآية وبيان أحكامها، ففصّل بها فأحكم التفصيل.
ثم قد يتساءل أحدٌ: لماذا قال تعالى: (أن يطَّوَف بهما)؟ فجيء بالمصدر المؤول من (أن والفعل) الذي يبدو أنّ مجيئه فيه الدلالة على الزمن الماضي والمستقبل(15)، وأنّ القرينة هي التي تحدد ذلك الزمن، ولما لم توجد قرينة محددة لزمن معين، دلّت الآية على الزمنين الماضي والمستقبل أي أنّ عدم وجود القرينة قد ناسب نفي الجُناح عن المسلمين قبل نزول الآية وبعدها. ولو جاء بالمصدر الصريح (التطوّف) لوقع الإبهام، لأنّ المصدر الصريح يدل على مطلق الزمن، وعندها لم تُعرف حدود الزمن أهو الماضي أم الحاضر أم المستقبل، وعندها ستختلف الأحكام في السعي والطواف وتزداد الاحتمالات وهذا مما لا يدعو له النص المبارك.
ثم أنّه جاء بحرف الجر (بهما) ولم يقل (بينهما)، فلو قال بينهما لم يدخل فعل الطواف على الجبلين (الصفا والمروة)، وهذا ليس مطلوب الآية أيضًا، فمجيء حرف الجر الباء الدال على الإلصاق، أي أنّ على الطائف أن يسحق بأقدامه سفحيهما اللذَيْن نُصِب عليهما الوثنان (أساف ونائلة)، وفي هذا مغزى كبير، ذلك أنّ المسلمين كانوا حديثي عهد بالإسلام، ومازالت أدران الجاهلية عالقة في صدورهم، من تقديس الصنم ورمزيته، فدفع الله بهم إلى المواجهة مع هذين الرمزين والطواف بالجبلين مع وجود الصنمين قبل فتح مكة، لغرض تجاهلهما وانتصار القيم الجديدة على قيمهم القديمة.
أما المغزى من الطواف بهما بعد الفتح وتكسير الأصنام فهو لأجل تمكين النفوس المسلمة من التقدم خطوة أخرى بعد تجاهل الصنمين إلى سحقهما بأقدامهم والوقوف عليهما انتصاراً لوحدانية الله وأن لا إله إلّا هو، وإسقاط رمزية الصنم من نفوسهم.
ويُستفاد أيضًا من صيغة الفعل (يتطوّف) الذي جاء على زنة (يتفعّل) الثلاثي المزيد بحرفين المطاوع لصيغة (فعّل) الذي يفيد التكثير، إذ إنّ من معانيها العمل المتكرر، في مهلة نحو جرّعتك الماء فتجرّعته أي كَثَّرتُ لك جرع الماء، فتقبّلت ذلك التكثير(16).
وهذا يعني أنّ (يطّوّف) تفيد كثرة التطوّف حولهما، ولو أراد طوفة واحدة لقال (يطوف) التي تعني أداء الفعل لمرة واحدة، لكنه كثّر ذلك عندما جاء بصيغة (يطّوّف) الدالة على تكرار فعل الطواف مرة بعد مرة في مهلة، وأنّ السنة النبوية هي التي حدّدت العدد بسبع مرات.
وقد ناسب هذا الفعل أيضًا طريقة السعي والطواف، فقال (يطّوّف) فقلب التاء طاءً وأدغم في الطاء الثانية، لأنّهما من مخرج واحد وكلاهما أسناني شفوي، وشديد ومهموس، إلّا أنّ الطاء صوت مطبق، والتاء منفتح(17)، فتوافق الحرفان في أكثر الصفات واتحدا مع بعضهما، فكانت الغلبة لصوت الطاء لما فيه من الإطباق الذي أفقد صوت التاء خاصية الانفتاح، فنتج عن ذلك إدغامهما. (وأنّ الإدغام أنبى اللسان عن المثلين نبوة واحدة فصارا لذلك كالحرف الواحد)(18)،
وهذا ممّا قلّل الزمن المستغرق في نطقهما وأسرع، فضلًا عن ذلك نجد في موضع الطاء الأولى قلقلة صغرى التي تؤدي إلى حفز على موضعها وضغط مما يُناسب حالة السعي الذي هو (عدوٌ دون الشدّ)(19)، ولو جاء الفعل على صيغة (يتطوّف) لاحتيج إلى زمن أطول، مع رفع القلقلة التي ينعدم معها الحفز والضغط على التاء أو الطاء، فيأتي الفعل على صيغته الطبيعية من الأداء الخالي من السرعة والضغط، فضلاً عن قلة العناء والتعب، في حين يُصاحب السعي شدة وتعب وعناء وسرعة، وهذا مما ناسب صيغة (يطّوّف).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1ـ ظ: التبيان /الطوسي :244. 2ـ ظ: م . ن. 3ـ ظ: البحر المحيط /أبو حيان : 1/651. 4ـ م . ن. 5ـ م . ن : 1/647. 6ـ ظ: التبيان /الطوسي: 1/240 ، ظ: الكشاف /الزمخشري: 1/234. 7ـ ظ: الكشاف /الزمخشري: 1/234 ، تفسير آيات الأحكام /محمد علي السايس: 1/38. 8ـ ظ: المغني /ابن قدامة: 3/408. 9ـ ظ: م . ن:1/234، معاني القرآن /الفراء: 1/95، البحر المحيط /ابن حيان: 1/651، تفسير آيات الاحكام /محمد علي السايس:1/39. 10ـ ظ: تفسير آيات الأحكام /محمد علي السايس: 1/38-39. 11ـ الطبقات الكبرى/ابن سعد/ج8ص247، تذكرة الفقهاء/العلامة الحلي/ج 8 ص136. 12ـ الانتصار/الشريف المرتضى/ص254. 13ـ معاني القرآن / الفراء: 1/95 ، ظ: تفسير آيات الاحكام /محمد علي السايس: 1/39. 14) مجمع البيان /الطبرسي: 1/240 ، ظ: الطراز الاول /ابن معصوم: 4 /296-297 – جنح. 15ـ ظ: الأشباه والنظائر /السيوطي: 4 /69. 16ـ ظ: شرح الشافية /ابن الحاجب: 1/76، شذا العرف /أحمد الحملاوي:45. 17ـ ظ: سر صناعة الإعراب /ابن جني: 1/60 ، الأصوات اللغوية / د. إبراهيم أنيس: 58. 18ـ الخصائص /ابن جني: 2/496. 19ـ لسان العرب /ابن منظور: 6/271- سعى.