الحج ظاهرة اجتماعية عبادية تعجّ فيها الخلائق من كلّ حدب وصوب، وعلى مرّ السنين من الرجال والنساء، إذ يتوافدون من كل فج عميق حيث بيت الله الحرام، كلٌ قد نوى الرحيل وعقد العزم على ترك الأهل والوطن قاصدًا وجهًا واحدًا ومكانًا دعا الله تعالى خليله إبراهيم (عليه السلام) ليقيم دعائم ذلك البيت العتيق، الذي جعله الله تعالى فيما بعد قبلة للمسلمين.
وكيف لا تهفو قلوب الملايين لذلك الصرح الشامخ … بثوبه الأسود الملفوف الذي يزيده بهاءً وعظمة.. والطواف حوله رحمة وتوبة من الذنوب كما تاب الله سبحانه عن ملائكته فجعل البيت الحرام رحمة للناس،.. والنظر إليه عبادة، بل يستحب إكثار النظر إلى الكعبة المشرفة، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (النَّظَرُ إلَى الكَعبَةِ حُبًّا لَها، يَهدِمُ الخَطايا هَدمًا)(1).
وروي أيضًا في علّة تشريع الطواف في البيت عن الإمام الرضا (عليه السلام) إن الله قال للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء)(البقرة: 30)، فردّوا على الله بهذا الجواب فعلموا انهم أذنبوا فندموا فلاذوا في العرش واستغفروا فأحب الله أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء الرابعة بيتًا بحذاء العرش يسمى (الضرّاح) ثم وضع في السماء الدنيا بيتًا يسمى (المعمور) بحذاء (الضرّاح)، ثم وضع هذا البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم (عليه السلام) فطاف به فتاب الله عليه، فجرى ذلك في وِلْدِهِ إلى يوم القيامة(3).
وبالنظر في هذه الرواية الواردة في علّة تشريع الطواف بالبيت المعظم فلاحظ ورود مفهوم التعبّد والعبادة: (فأحب الله أن يتعبّد بمثل ذلك العباد)، فالذي يفهم من هذه الرواية أن من آثار الطواف بالبيت كما طاف به آدم(عليه السلام) هو الحصول على الاستغفار والتوبة، فجرى في وِلده إلى يوم القيامة، فموسم الحج وأعماله العبادية هو موسم الرجوع إلى الله تعالى، والهجرة إليه، والتوبة والإنابة إليه.
فالمتتبع لمسيرة النبي إبراهيم(عليه السلام) وحركته الرسالية مذ كان شابًا حيث حطّم الأوثان وما لاقى في سبيل نشر رسالة السماء مرورًا بكيفية جلبه لولده وزوجه إلى صحراء مكة ومن ثم قضية ذبح ولده إسماعيل، وبناء الكعبة المشرفة وما تبعها من أعمال الحج، فإننا نحصل على دورة كاملة للمسيرة العبادية والسلوك المعنوي للإنسان، حيث يخرج من مأزق الذات وعبادتها ويصل ويتقرب إلى الله تعالى وينبذ متعلقات النفس المادية والالتحاق بعالم المعنويات والتجافي عن هذا العالم المزخرف،
فهذا السلوك المعنوي الذي يمثل روح العبادة في جميع العبادات يتجلّى في الحج أكثر من غيره، فيشترط في أوّله في التقرب نحو عالم الغيب للخروج من دائرة هذا العالم وقيوده وهذا لا يعني الانعزال وترك كل شيء بل يعني تبني طريقة الصالحين والسالكين إلى الله تعالى في إقامة المجتمع الصالح الأخلاقي ونشر روح العدل والفضيلة وتربية النفس على الطهارة وحبّ الخير والابتعاد عن المعاصي والأمراض الخلقية.
ومما تجدر الإشارة إليه أنه لابد لنا من تسليط الضوء على معنى العبودية الذي أشارت إليه الرواية السابقة في استغفار الملائكة، وإن لم تشر إلى لفظة العبادة والعبودية بشكل صريح ولكننا وجدنا ذلك في ذيل الرواية في قوله (ثم أمر آدم فطاف به فتاب عليه) حيث أن الأوامر والنواهي تكاليف يتعبّد بها الإنسان وملزم بها من قبل الله سبحانه وتعالى، وأولها ترك المحرمات وفعل الطاعات وهو مقدّم على غيره من الأفعال أو كما في قوله (عليه السلام): (فأحبَّ الله أن يتعبّد بمثل ذلك العباد).
إن معنى العبودية: إظهار التذلّل، ولا يستحقها إلّا من له غاية الإفضال(5) ولهذا قال: تعالى: (أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) (يوسف:40)، فإظهار التذلل من العبد في جوارحه وأفعاله لأنه مخلوق وأمره ومصيره راجع إلى الله سبحانه، والخالق هو الذي يستحق العبادة، لأن بيده الوجود والمصير والقدرة وغيرها .. وقد قسَّم الراغب الأصفهاني معنى العبد إلى أقسام، منها قال: عبدٌ بالعبادة وهو قسمان عبدٌ لله مخلصًا، وهو المقصود في قوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)(الإسراء:65)، وقوله تعالى: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر :40)، وعبدٌ للدنيا وأعراضها، وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها، وإيّاهُ قصد النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: (تَعِسَ عبدُ الدَّرهَمَ تَعِسَ عبدُ الدّينار)(6).
لقد بقي النبي إبراهيم (عليه السلام) يدعو قومه إلى عبادة الواحد الأحد ولكن دون جدوى، لقد كان النبي (عليه السلام) مصداقًا لحقيقة العبودية الإلهية وكان مستسلمًا لله ولأوامره إلى أن بلغَ المقام أن يقدّم ولده إسماعيل وهو فتىً يافع قربانًا لله ولمرضاته (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) ولقد كان إسماعيل (عليه السلام) على خطى أبيه … ذرية بعضها من بعض، أجاب والده: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات: 102).
مثل هذا العطاء الخالد ومثل هذه الروحية المتفانية في حبّ الله تعالى حملّ النبي إبراهيم (عليه السلام) مشعل الهداية والتبليغ لرسالة السماء ليترك قومه ويذهب إلى بلد آخر لتبليغ الرسالة (قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)(الصافات: 99) وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام: 161 ـ 163).
لقد كان النبي إبراهيم (عليه السلام) في أعلى مراتب الطاعة والانقياد لله سبحانه وتعالى، وكان يحمل من الجوانب النفسية والروحية التي تحرك الجسم والروح معًا، في طريق تحقيق الغاية من إيجاد الإنسان(7) في هذه الحياة الدنيا: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، لتثمر هذه العبادة وتعطي السعادة في الدنيا والآخرة. فهذه العبادة وهذا السلوك المعنوي الذي يستوعب حركات وسكنات الإنسان فيكون في غاية الخضوع والخشوع، بل إن صلاته وعبادته وحياته ومماته لله، لأن معالم العبادة والعبودية ترتكز على أساس تحقيق الغاية وهي الوصول إلى عالم الربوبية.
نحن نقرّ بأن الله سبحانه يجازي عبدهُ المخلص ويجيبه (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)(البقرة:186)، لذا كان المنطلق الذي اعتمده النبي إبراهيم (عليه السلام) هو كثرة تضرعه ودعائه، حيث قال سبحانه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ)(هود:75).
(الأَوّاه هنا المُتَأَوِّه شَفَقاً وفَرَقاً ، وقيل: المتضرع يقيناً أَي إِيقاناً بالإِجابة ولزوماً للطاعة ؛ هذا قول الزجاج ، وقيل: الأَوَّاه المُسَبّحُ ، وقيل: هو الكثير الثناء . ويقال: الأَوَّاه الدَّعَّاءُ . وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، أَنه قال: الأَوَّاه الدَّعَّاءُ . وقيل: الكثير البكاء . وفي الحديث: اللهم اجْعَلني مُخْبِتاً أَوَّاهاً مُنِيباً ؛ الأَوَّاه: المُتَأَوِّه المُتَضَرِّع)(7)،
وكل تلك المعاني مجتمعة في إبراهيم (عليه السلام)، حيث أن الإنابة جليّة في رجوعه في كل الأمور إلى الله تعالى، ليكشف لنا الدعاء عن مقامات العبودية والحضور التي تعيشها قلوب الأنبياء والصالحين…إن دعاء الإنسان المنطلق من القلب من أوضح معالم العلاقة بين العبد وربّه، فهو يمثل من جانب الإنسان الحاجة والتضرع وفتح باب الأمل، وتثبث لله تعالى مظاهر الألوهية والحاكمية والربوبية، وغناه المطلق وحكمته ورأفته بالخلق، وأدعية إبراهيم (عليه السلام) الكثيرة ترينا هذا التعلق العبودي بالله سبحانه وتبصّرنا كيف كان الخليل يدمن طرق أبواب الرحمة دون كلل أو ترفّع أو استكبار، حتى وصفه القرآن بأنه أوّاه، أي دعّاء.
إن من صور دعاء إبراهيم (عليه السلام) دعاؤه وهو يشيِّد مع ولده إسماعيل الكعبة الشريفة على الأسس القديمة الداثرة، استجابة لأمر الله ورغبة في محبته ورضوانه، وفيما هما مستغرقان تأخذهما حالةٌ من التضرع والابتهال، قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(البقرة: 127ـ 128).
واستجيبت دعوتهما، فقد جعل الله سبحانه مقام إبراهيم مصلىً، نتوجه بالشكر والطاعة والصلاة فيقترن ذكر ذلك النبي بتلك الأماكن المقدّسة، لذا تتضح أهمية الدعاء في حياة الإنسان في جميع المراحل وفي كل الأزمنة، وبالتأكيد هناك أوقات تتجلّى بها أهمية الدعاء، وهناك أماكن يحب الله أن ندعوه بها … لذلك نرى أن موسم الحج يكون حافلًا بالدعاء، ولعل الوقوف بعرفات مملوء بأجواء مشحونة بالدعاء والتضرع إلى الله، فقد روي عن النبي(صلى الله عليه وآله): (مِنَ الذُّنوبِ ذُنوبٌ لا تُغفَرُ إلاّ بِعَرَفات)(8)،
ولكن ما هو دعاء النبي إبراهيم (عليه السلام) وما هي مضامينه؟ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(إبراهيم:35ـ 37)،
لقد طلب النبي (عليه السلام) أن يكون البيت الحرام آمنًا، وأن يجنبه الله سبحانه وبنيه من الشرك وعبادة الأصنام التي أضلَّت كثيرًا من الناس، ثم دعا الله سبحانه لذريته الذين أسكنهم عند هذا البيت ليعبدوا الله فيه، بهذا الواد الأجرد من الزرع، أن يجعلهم مهوى لقلوب الناس. .
(فاستجاب الله دعاءه وأمر الناس بالإتيان إلى الحج من كل فج ليتحببوا إلى ذريته ويعرضوا عليهم نصرتهم وولايتهم ليصير ذلك سببًا لنجاتهم ووسيلة إلى رفع درجاتهم وذريعة إلى تعرف أحكام دينهم وتقوية أيمانهم ويقينهم)(9).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) وسائل الشيعة/ الحر العاملي/ ج13ص265. 2) الكافي/الكليني،ج4ص240. 3) علل الشرائع/الشيخ الصدوق/ج2ص406. 4) مستدرك الوسائل/: 10 / 166نقلا عن التحفة السنية/للمحدث الجزائري/مخطوط/ص184. 5) مفردات ألفاظ القرآن الراغب الأصفهاني ص441. 6) المصدر السابق ص441 ـ 442. 7) لسان العرب/ابن منظور/ج13 ص437. 8) دعائم الإسلام/ القاضي النعمان المغربي/ج1 ص294. 9) الوافي/الفيض الكاشاني/ ج2، ص115.