لا يخفى على أحد أنّ النعم التي أنعم الله بها على الإنسان كثيرةٌ متنوعةٌ لا تُعد؛ فكل ما يصدق عليه نعمة كالنعم المادية والمعنوية مشمول بما تذكره الآية الكريمة: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: 18)، ويتعامل الإنسان مع هذه النعم بطريقتين:
أولًا: الشكر:
وهو الاعتراف بالمعروف والإحسان، والثناء على المحسن بما أولاه من معروف. أو هو (حالة نفسانية تنشأ من العلم بالمشكور وصفاته وإنعامه، وتثمر العمل بالقلب واللسان والأركان )(1).
فشكر المنعم والثناء عليه، من الأمور الفطرية التي جبل الإنسان عليها، وأمرت بها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، وأقرها العقل والمنطق، وعمل بها الإنسان منذ خلق على الأرض، قال أحد الشعراء:
فلو كان يستغني عن الشكرِ ماجدٌ لعزَّة مُلكٍ أو عُلُـــوِّ مكــــانِ
لمــا أمـــــر اللهُ العبـــادَ بشكـرهِ فقال: اشكروا لي أيّها الثَّقلانِ(2)
لقد حظي الشكر باهتمام بالغ من لدن الباري سبحانه في عدد غير قليل من آيات القرآن الكريم، وكذلك في أحاديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وأحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام).
فقد وردت عدة آيات تعطي الشكر والشاكرين أهمية بالغة، إذ جعله الله مقابل نعمه على العباد، أو ثمنًا لها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172).
بل جعل الله الشكر سببًا لزيادة نعمه على العباد (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، وعن الإمام الباقر(عليه السلام): (ما أنعم الله على عبد نعمة فشكرها بقلبه، إلا استوجب المزيد فيها قبل أن يظهر شكرها على لسانه)(3)، كما اعتبره الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) نصف الإيمان (الإيمان نصفان نصف في الصبر ونصف في الشكر)(4).
وفوق هذا وذاك، فقد كان سلوك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرشدنا إلى أن أفضل العبادة، شكر الله على نعمه، فقد كان (صلى الله عليه وآله) يقوم الليل بالتهجد والعبادة ويجهد نفسه ويبكي ــ وهو على علو مقامه وسمو منزلته ـ فلما سئل (صلى الله عليه وآله)… قال: (أفلا أكون عبدًا شكورا)(5).
وكذلك اعتاد المخلصون من العباد جعل عبادتهم وما يتقربون به إلى الله، شكرا لله، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (وإن قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة)(6). وقد جعل الله سبحانه قلة الشكر والتقصير فيه سببًا لزوال تلك النعم ـ كما سيمر علينا ـ قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (إِنَّ لِلهِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ حَقّاً فَمَنْ أَدَّاه زَادَه مِنْهَا ومَنْ قَصَّرَ فِيه خَاطَرَ بِزَوَالِ نِعْمَتِه)(7).
ثانيًا: الجحود:
أما ترك الشكر فقد عده الله جحودًا وكفرًا: قال تعالى: (وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152)، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(الدهر: 3)، وتوعد تاركه بالعذاب الشديد، (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(إبراهيم: 7).
ويتجلى الجحود في استخدام هذه النعم بالمعصية وسوء الخلق، فيكون الرد على الشكر تحويل النعم إلى نقمة، من خلال اتباع الشهوات وحب الدنيا وكل ما يكون اشباعًا للذات الإنسان، ويغيب الوصول إلى طريق الملكوت بوصفه الهدف الأسمى لهذه النعم.
ومن المؤكد أن التضييع للنعم يلحق أشد الضرر بالإنسان ويصل إلى من حوله، وتبتعد فرص نجاة النفس المسكينة المضيعة للنعم والجاحدة لها، بل تتهاوى هذه النعم أمام أرذل الأعمال فتنتج جبلاً من الذنوب التي لا ندرك ما يكون عقباها في الدنيا قبل الآخرة.
من أعظم هذه النعم التي أنعم الله بها على الإنسان: اللسان؛ إذ يعد من لطائف صنع الله، فعلى الرغم من صغر حجمه فإن الطاعة به تعدُّ كبيرة، ولا يتحقق الإيمان إلّا به، ولا يتبين إلّا بشهادته، ولا يمكن الاهتداء إلى الصفاء إلّا بدلالته، وبه يثبت وينفى ما يكون موجودًا أو معدومًا، وهو الذي يشير بالحق أو بالباطل(8).
ولعل أمثل تصوير وتجسيد لأهمية هذا العضو وخطورته ما وَرد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): (ما الإِنسانَ لَولا اللّسانُ إِلاّ صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ أَو بَهَيمَةٌ مُهمَلَة)(9).. وقوله (عليه السلام): (الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِه)(10)، ولذا وجب على الإنسان أن يكون حذرًا في ما يتلفظ به من كلام، وهو ما يشير إليه الإمام(عليه السلام) في تتمة كلامه؛ (فَزِنْ كلامك واعرضه على العقل والمعرفة، فإن كان لله وفي الله تكلم، وإن كان غير ذلك فالسكوت خير منه، وليس على الجوارح عبادة أخف مؤونة وأفضل منزلة وأعظم قدراً عند الله من كلام فيه رضا الله عز وجل، ولوجهه ونشر آلائه ونعمائه على عباده، وإن الله لم يجعل فيما بينه وبين رسله معنى يكشف ما أسر إليهم من مكنونات علمه ومخزونات وحيه غير الكلام، وكذلك بين الرسل والأمم، فثبت بهذا أنه أفضل الوسائل، وكذلك لا معصية أثقل على العبد وأسرع عقوبة عند الله وأشدها ملامة وأعجلها سآمة عن الخلق منه، فاللسان ترجمان الضمير وصاحب خبر القلب، وبه ينكشف ما في سر الباطن، وعليه يحاسب الخلق يوم القيامة، والكلام خمر يسكر العقول ما كان منه لغير الله وليس شيء أحق بطول السجن من اللسان)(11)،
فيغفل الإنسان عن كمال هذه النعمة التي إن سلمت أوصلته إلى الكمال وإن بدَّلها بما هو أسوأ أسست له بنيانًا من المعاصي. وأن لكل بناء أساس وأساس اللسان هو القلب، فإذا كان القلب محجوبًا عنه النور تكون النتيجة أكثر قبحًا، وينتج عن ذلك الكبر والحسد والحقد وهذه الصفات الذميمة تدفع الإنسان إلى سوء الخلق وإلى الاعتداء على الآخرين والإساءة إليهم، ويكون في دائرة من مكر الشيطان وتكون الغفلة مستحكمة فيه.
ومن الممكن أن يجره الكِبَر إلى عقوق الوالدين أو معاملة الأهل والأولاد بأبشع صورة، تصل إلى الإهانة أو الضرب أو غيرها، وأيضًا من كان حسودًا وحقودًا سينتهي الأمر به إلى الإيقاع بين المؤمنين والبهتان عليهم، ولا ينجو ذلك حتى من الغيبة على من حسده وكثر عليه حقده، فكل فعل مذموم من هذه الآفات لا يرجى منها الخير.
وبعد كل هذه الذنوب التي تتسبب بالفراق وعدم اللقاء مع المحبوب تعالى ذكره، تتجلى نعمة أخرى من نعم الله سبحانه، إذ يبقى المحبوب في شوق رجوع العبد إلى ساحته، وإنْ كان هذا الحجاب المسود بالمعاصي لا يرجى أن يزول إلّا أن الكرم الإلهي مبسوط العطاء، ويقطع يأس كل يائس، فأول باب ينفتح لهذا العبد المنغمر في الدنيا هو باب التوبة مقابل هذا الجبل الهائل من السير وراء مغريات الشيطان ومكائده.
فعن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) أنه قال: قَالَ رَسُولُ الله(صلى الله عليه وآله): مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِسَنَةٍ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَه، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ السَّنَةَ لَكَثِيرَةٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِشَهْرٍ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَه، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِجُمْعَةٍ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَه، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْجُمْعَةَ لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِه بِيَوْمٍ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَه، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ يَوْمًا لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُعَايِنَ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَه)(12).
وهنا تتجلى أكبر نعمة تعيد النعم المضيعة سابقًا، إلّا أن العبد قد غشي على كل جوارحه وصار أسير الشيطان، ولهذا لابد من وجود عقاب يترتب على ذلك، ويكون إما في الدنيا أو بعد انتهاء حياة الإنسان، (قال الإمام الصادق (عليه السلام) الموت كفارة ذنب كل مؤمن) يعني أن المؤمن كلما يقع عليه من الأمراض والبلايا فهو كفارة لذنوبه، فإذا بقي منها شيء فالموت كفارة له، ولا يدل على أن الموت كفارة كل ذنوبه إلّا باعتبار أنه جنس مضاف ويدل على العموم وفيه شيء، وفي الأخبار الكثيرة أنه إذا بقي شيء منه فكفارته عذاب القبر، وإذا بقي منه شيء فبأهوال يوم القيمة…)(13).
أما الحسرة التي وردت في قوله تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (مريم:39)، وتكون الحسرة هنا على ما فات من عمر الإنسان في غير ذكر الله، وتضييع النعم أو تحويلها إلى نقم، ولابد لذلك من كفارة؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى دائم العطاء للعبد، فبقدر ما يغفل ويلهو في الدنيا ومتاعبها وشهواتها فإنه سبحانه لا يقطع الخير عنه، ولا ينقطع عن رعايته في كل مواقفه.
إلّا أن هذا الجاحد لابد له من ضربة لعلها توقظه من غفلته في دنياه، ومن هنا فإن كل بلية أو مرض أو كل ما يعكر صفو العبد، هي من النعم لأنها موصولة برد هذا العبد المسكين اللاهي عن لطف المحبوب، فتكون التصفية آخر نعمة تمنح للعبد، وهي نهاية الدنيا وختام أعمال الإنسان، وبداية الآخرة بعالم البرزخ، ففي الاصطلاح هو عالم ما بين عالمي الدنيا والآخرة(14).
وقد جاء في الروايات ما خلاصته إن الإنسان حينما يموت يخف حمله شيئاً، (فإن لم يطهر ففي انتزاع الروح عن البدن يؤخر شيئًا لكي تخف ذنوبه، فإن لم يكن كافيًا، يقول الإمام زين العابدين(عليه السلام) يدخل في برزخه، ويطهر من ذنوبه فإن لم يكن كافيًا وكانت ذنوبه كثيرة ولم تتطهر طيلة عالم البرزخ سيق إلى القيامة وعقابها ذات الخمسين موقفًا، يمتد كل موقف لألف سنة، فيوقف في كل موقف حتى يتم إصلاح حاله)(15)،
ويبقى المولى تبارك وتعالى ينظر دائماً بعين الرحمة لما قام به العبد وإن كان في معصيته؛ فكل هذه المراحل من تصفية الذنوب التي يتم علاجها وتخفيف وزرها هي بحد ذاتها نعمة عظيمة ورحمة من الله لضعف هذا العبد وقلة حيلته لكي تنجيه من هول العذاب السرمدي، فما أعدل حكم الله حينها وما أقبح ظلم العبد لربه ونفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1ـ شرح أصول الكافي /محمد صالح المازندراني/ج1 ص 221. 2ـ فضيلة الشكر لله /محمد بن جعفر السامري/ص65. 3ـ الحكايات/الشيخ المفيد/ص96. 4ـ تحف العقول /ابن شعبة الحراني/ ص 48. 5ـ بحار الأنوار – العلامة ألمجلسي – ج 46 – ص 79(بتصرف). 6ـ تحف العقول – ابن شعبة الحراني – ص 246. 7ـ نهج البلاغة /ص 511. 8ـ جامع السعادات/الشيخ محمد مهدي النراقي/ص433. 9ـ عيون الحكم والمواعظ/الليثي الواسطي/ص483. 10ـ نهج البلاغة/ تحقيق صبحي الصالح/ص497/ ح:148. 11ـ مستدرك الوسائل/ النوري الطبرسي/ ج9: ص22. 12ـ الكافي/الكليني/ج 2،ص440. 13ـ روضة المتقين / المجلسي الأول/ ج1 ص346. 14ـ ينظر: العقائد الحقة: السيد علي الحسيني الصدر/ ص413. 15ـ أسرار القرآن: السيد عبد الحسين دستغيب مج 2، 336.