لقد كان الإنسان ولا يزال يتصرف وفق أحاسيسه المحدودة، وعواطفه الكامنة، كما كان يظهر أحاسيسه وعواطفه وفقاً للوسائل والإمكانات المتوفرة لديه والموجودة في عصره، ومن خلال تتبع الآثار التاريخية المتروكة عن ذلك الإنسان يمكن ملاحظة أنه كان يعتقد بوجود خالق للكون في جميع تلك الفترات والأدوار (فالكل يعلم بوجوب وجود الخالق لكن الاختلاف وقع في كيفية العبادة، والتقرب، والطاعة، لذلك الخالق) فنرى ذلك الإنسان في كثيرٍ من الأحيان تشتبه عليه ضالته، فيلتجئ إلى الأجرام السماوية ويعتبرها هي الخالقة والمؤثرة، وتارة يلتجئ إلى غيرها لاعتقاده بمؤثريتها.(إن الإنسان في مزلَّة من تجسيم الأمور المعنوية، وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصور وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوة فائقة قاهرة، والاعتناء بشأنها)(1). لذا فقد تطور الشرك من أنواع بدائية بسيطة، ومن أفكار ساذجة، كاتخاذه الخشب والحجارة شركاء لله تعالى، ثم تطور إلى أن اتخذ أشكالاً وصوراً أخرى أكثر تعقيداً، وذلك تبعاً لتطور التجربة البشرية. ففي العصور الغابرة حين كان الإنسان لا يعرف سوى الطبيعة وعناصرها لذلك فقد عبدها كما وعبد الشمس، والقمر، والكواكب الأخرى، والماء، والنار، وما شاكل ذلك. ولكن هذه الأشياء والمعبودات اضمحلت تدريجياً وحلت محلها أشياء ومفاهيم أخرى بحسب التطور والطلب والحاجة ومن خلال هذا التتبع التاريخي يتضح لنا (إن الإنسان مجبول بطبيعته وغريزته على العبودية لإله)(2).
موارد نشوء الشرك
ويمكن إجمال موارد نشوء الشرك بما يلي:ـ
1ـ الحاجة المنبعثة من الفطرة والغريزة على العبودية لإله .
2ـ الخلل الحاصل للعقل الإنساني في تحديد المعبود مما حدا به إلى التخبط يميناً وشمالاً.
3ـ الإغواءات الشيطانية المبعدة للإنسان عن جادة الصواب، فهو القائل:(وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر: 39)
ومن العوامل التي ساهمت في نشوء الشرك وانتشاره الطواغيت. يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (إن بني أمية أطلقوا للناس تعليم الإيمان، ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه)(3).
إذ إن الشرك يعتبر من أفضل أسلحة الطغاة، وذلك خوفاً على مناصبهم وعروشهم، من خلال رمي واتهام الناس به ممن يعارض ويعاند السلطة الحاكمة حتى يقتصوا منه. ويخرجوه من الدين والملة، وبذلك يصنعوا به ما يشاؤون فمعنى (أطلقوا للناس تعليم الإيمان، ولم يطلقوا تعليم الشرك).
أي إنهم ولحرصهم على إطاعة الناس إياهم اقتصروا لهم على تعريف الإيمان، ولم يعرفوهم حقيقة الشرك وما يؤدي إليه حتى إذا حملوهم على طاعتهم لم يعرفوا أي الناس أنها من الشرك، ليكون الناس لو علموا إن طاعة بني أمية شرك لما أطاعوهم.
ومن المعلوم أن طريق الإيمان هو طريق أهل البيت(عليهم السلام)، وطريق الشرك هو بعكس ذلك، وبالتالي فإن طريق الشرك هو طريق أعداء أهل البيت(عليهم السلام)، والمتمثل ببني أمية، وكل من ناصب العداء لأهل البيت(عليهم السلام).
حيث (بذل الأمويون كل جهدهم لتحريفه. حيث فرغوا الإسلام من محتواه الأصيل واستبدلوه بكذب، في الطعن على علي (عليه السلام) ليس فقط لتغيب إمامته الدينية بل لتحويله إلى رمز للإلحاد يلعن ويتبرأ منه، وفي قباله يكون القائد إلى الله الذي تكون طاعته قربى وزلفى تقود إلى الجنة هم بنو أمية) (4).
فديدن الطغاة والظلمة والمستكبرين هو استغفال العقول، والتضليل، وإثارة، الشبهة، وتلبيس الحق بالباطل.
لذا فإن معاوية يقول: (الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركت للناس، فبفضل مني)(5).
لذا فإن ادعاء الخلافة عن الله تعالى هي من بدع واختراعات معاوية بن أبي سفيان، كما وضع أحاديث كاذبة في سبيل تأييد أطروحته. وسار على هذا الديدن كل بني أمية، وبني العباس، وكل من جاء من بعدهم، حتى الدولة العثمانية، ولحد الآن عند الشعوب المستغفلة والجاهلة.
لذا يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (لولا أن بني أمية ما وجدوا من يكتب لهم، ويجبي لهم الفيء، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا) (6).
فهذه الأسباب وما شاكلها كانت العامل في نشوء الشرك وانتشاره على مر العصور (على أن اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مئات الملايين قاطنين في شرقها وغربها) (7). ومن جراء كل ذلك تولدت آلهة بحسب الأهواء والطلبات والتمنيات، فأصبح الإله يُفصَّل كالملابس، كما ويمكن تغييره من فترة لأخرى. والجامع المشترك في كل ذلك هو: طلب الشفاعة من هذه الآلهة، أو أن هذه الأصنام هي واسطة الشفاعة، وذلك من أجل طلب الخير ، ودفع الشر، وما شاكل ذلك من اعتقادات وتخرصات باطلة، وأعذار واهية.
درجات الشرك
إن درجات الشرك مراتب وأقسام نستعرضها هنا فنقول:
إن للشرك ثلاث درجات رئيسية هي:ـ
1ـ الشرك الجلي:ـ
أو ما يسمى بالشرك العظيم، أو الحقيقي، أو الظاهري، ويتمثل بعبادة غير الله تعالى علناً، وهو ما ذهب إليه أهل الأوثان وعباد الأصنام، وغيرها من المعبودات المخترعة وهم ينكرون توحيد المعبود، أو عبادة الواحد، إذ يقولون في ذلك:(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)(ص: 5).
يقول الراغب الأصفهاني: (الشرك العظيم:ـ وهو إثبات شريك لله تعالى. يقال أشرك فلان بالله. وذلك أعظم كفر. قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) (النساء: 48)(8)
والشرك الجلي أو الفعلي أو الحقيقي: من أشد مظاهر الشرك خطورة على الإنسان. إذ إن المشركين وبأكثريتهم مع اعترافهم بالخالق والصانع وعدم إنكارهم له، لا يوحدونه، ولا يعترفون بالنبوة أو الرسالة ولا بالأنبياء والرسل(عليهم السلام).
قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللهُ، وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (التغابن: 6)
2ـ الشرك الخفي:ـ
أو ما يسمى بالباطني، أو المستور.
يقول الراغب الأصفهاني:ـ (وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور…)(9).وهو أخطر من الشرك الجلي لقوله تعالى:(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (يوسف: 106)
ومن صوره (الرياء)، ذلك السم القاتل والمحبط للأعمال. وذلك لأن المرائي أشرك غيرَ الله معه في عبادته، وهذا هو الشرك بعينه، لا بل هو أكثر قبحًا منه لأن عُبّاد الأصنام عبدوا أموراً موجودة وظاهرة للعيان، أما المرائي وفي حال تلبسه بالرياء قد عبد أموراً موهومة، ليس وراءها إلا التعب في الدنيا و الخسران في الآخرة، (فأهل عبادة الأصنام جهال، والمرائي أجهل منهم، حيث إنهم عبدوا ما استحسنوا والمرائي عبد ما استقبحه)(10).
فالرياء هو: (ترك الإخلاص في العمل بملاحظة غير الله تعالى فيه)(11)
والرياء باطل ومحرم شرعاً وهو من المعاصي، وقد عبر عنه بالنصوص بالشرك، وذلك لأن ظاهرها عبادة المرائي لله، وباطنها وحقيقتها لغيره.
والرياء بحقيقته طلب المنزلة لدى الناس من خلال التظاهر بالعبادة والعمل الصالح أو بصفات النساك والزهاد. (فالرياء هو عدو الأعمال وماحِقَها وجاعلها هباء، بل جاعلها وبالاً، فليته إذا فاته الثواب سلم من العقاب)(12).
قال أمير المؤمنين(عليه السلام): (يسيرُ الرياءِ شركٌ)(13).
3ـ الشرك الأخفى:ـ
وهو أخفى وأخطر مما تقدم، يقول السيد محمد حسين الطباطبائي ((رحمه الله)): (وأخفى منه القول باستقلال الأسباب والركون إليها وهو شرك، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلا المخلصون وهو الغفلة عن الله والالتفات إلى غير الله عزت ساحته، فكل ذلك شرك)(14).
يقول الصادق(عليه السلام): (إن الشرك أخفى من دبيب النمل)(15).
موارد الشرك الأخفى
1ـ تغيير الأشياء بالاعتقاد عما هو عليه واقعاً:ـ
روى بريد العجلي عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركاً.
قال: فقال(عليه السلام)(من قال للنواة أنها حصاة وللحصاة أنها نواة ثم دان به)(16)
2ـ الطاعة لغير من فرض الله تعالى طاعته:ـ
فمن يفعل ذلك فهو مشرك، لأنه قد أشرك مع الله سبحانه وتعالى من لم يأمر بطاعته. قال الإمام الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (يوسف: 106) (يطيع الشيطان من حيث لا يعلم فيشرك)(17). وعنه(عليه السلام): (وإن صاموا وصلوا أي الناس وشهدوا أن لا إله إلا الله وجعلوا في أنفسهم أن لا يردوا إلينا كانوا بذلك من المشركين)(18).
فطاعة من أمر الله تعالى بطاعته واجب كطاعة الله سبحانه وتعالى، إلا أن طاعة الله بالذات، وطاعة من أمر الله تعالى بطاعته طاعة بالعرض.
3ـ الاعتراض على الحكمة الإلهية:
كما يصدر كثيراً على ألسنة عوام الناس عند التعرض لحادث معين مهما كان سواء كان الاعتراض قلبي أو لساني.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام): (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وأتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم قالوا لشيء صنعه الله تعالى، أو صنعه النبي(صلى الله عليه وآله) ألا أصنع خلاف الذي أصنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا مشركين)(19).
ومنها قول الناس: لو أغناني لكان أفضل، ولو فعل كذلك لكان الأصلح إلى غيرها من العبارات….
4ـ الإشراك معه تعالى في المحبة:ـ
أو (تعدد المحبوبين وتعدد الولاءات) في داخل القلب الواحد، فالإنسان مع حبه لغير الله مع الله إلا أنه يقول: ليس في قلبي سوى الله. لكن كل شيء بحسب وقدر وإلا فإن زاد عن حده صار شركاً.قال تعالى: (مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب: 4)
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (حب الدنيا وحب الله لا يجتمعان في قلب أبدًا)(20).
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (القلب حرم الله، فلا تسكن حرم الله غير الله)(21).
نشرت في العدد المزدوج 57-58
(1)الميزان الطباطبائي، ج10، ص293
(2)مصدر الوجود، سبحاني، ص9
(3) الكافي، الكليني، ج2، 415
(4)الحسين في مواجهة الضلال الأموي، السيد سامي البدري، ص10
(5)أنساب الأشراف، البلاذري، ج1، ص20
(6)الكافي، ج2، ص333
(7)الميزان الطباطبائي، ج10، ص293
8ـ المفردات، الراغب الأصفهاني، ص451
(9)المفردات، الراغب الأصفهاني، ص452
(10)الاعتبار من كربلاء، السيد حسين التوبلي البحراني، ص137
(11)التعريفات الجرجاني، ص93
(12) عدة الداعي، ابن فهد الحلي، ص250
(13)ـ نهج البلاغة، الخطبة 86.
(14) تفسير الميزان الطباطبائي، ج1، ص276
15 وسائل الشيعة ، الحر العاملي، ج5، ص99
16ـ الكافي، الكليني، ج2، ص397
17ـ موسوعة أحاديث أهل البيت (ع)، ج5، ص324
18ـ الكافي، الكليني، ج2، ص324
19ـ المحاسن، البرقي، ج1، ص271
20ـ تنبيه الخواطر ، ص362
21ـ بحار الأنوار، المجلسي، ج70، ص25