ترك الشيخ المفيد مؤلفات متنوعة وفي موضوعات شتى كلها تعبر عن روح العصر وحاجته الماسة لمثل تلك المؤلفات سواء على مستوى التنظير العقيدي الأصولي أو على مستوى التطبيق العملي الفقهي , وإن أكثر تلك المؤلفات كانت في العقائد والكلام والردود والنقوض,إذ أثبت السيد عبد العزيز الطباطبائي في مقال له عن الشيخ المفيد إن نسبة الكتب الكلامية والاحتجاجية من مصنفات الشيخ المفيد قد ترتقي إلى نسبة (75%) من مجموع مؤلفاته(1) , والمتابع لهذه المؤلفات فانه يجدها تعبر عما يأتي (2):
1. إنها صدى لروح العصر الذي عاش فيه الشيخ المفيد وانعكاساً واضحاً لطبيعة تلك الحقبة الصاخبة بالجدل الديني والمناظرات المذهبية .
2. إنها تمثل ابرز ثورة فكرية عرفها الفكر الإسلامي آنذاك والفكر الشيعي بالذات يوم كانت بغداد مسرحًا لعقائد وآراء ونزعات ومذاهب في مختلف أشكالها وألوانها وهي في نقاش وجدل مستمرين .
3. إن هذه الثورة الفكرية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل حرية فكرية واسعة تشمل الجميع بل وحتى الملاحدة والزنادقة .
لذا كان على الشيخ المفيد وهو مرجع الشيعة الإمامية العلمي والفكري أن ينبري لمصارعة زعماء تلك المذاهب والاتجاهات والنزعات بما وهبه الله من طاقة علمية حية وفكر واع رحب , ومن هنا كانت مؤلفاته في الأكثر ذات طابع متميز عن مؤلفات غيره وإن الصفة المميزة لها هي تشبعها بروح الجدل والمناظرة أو بروح الدفاع العقائدي أو التقريري لمذهب أهل البيت(عليهم السلام)(3).
وهناك بعض المؤلفات التي مثلت هذه النظرة عند الشيخ المفيد منها :
المسح على الرجلين والإفصاح في الإمامة ورسالة في المهر وجوابات أهل الموصل والمسائل السروية والحكايات في الرد على المعتزلة وغيرها من المؤلفات الأخرى .
الأسلوب التجديدي في رسالة المسح على الرجلين
تمثل هذه الرسالة واحدة من بحوث الشيخ المفيد الفقهية ، وخاصة في مجال الفقه المقارن الذي يتم البحث فيه مع العامة المخالفين لنا في المباني الأصولية والمناهج الفرعية ووحدات الأدلة وطرق الاستدلال بها .
والشيخ يعتمد منهجه الرصين للبحث العلمي على :
1 – فهو أولًا – يوافق الخصم ، عندما يستدل بحديث يرويه كل بطرقه عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فلا يجابهه الشيخ بإنكار الرواية وردها كما لم يعارضه بإنكار مبناه في الاعتماد على أخبار الآحاد ، التي لا يعترف الشيخ بحجيتها . فهو يقول للخصم : ( أنا أسلم لك العمل بأخبار الآحاد تسليم نظر وإن كنت لا أعتقد ذلك ) ووجهته في هذا التصرف ما ذكره . يقوله : (استظهارًا في الحجة ) يعني إذا ألزمه على مبناه وأبطل مستنده كان ذلك أنجع في الحجة وأحكم في الإلزام . ويقول له أيضًا : ( نحن سلمنا حديثك ، وما رويناه قط ، ولا صححه أحد منا ، ثم كلمناك عليه . . . وقد كان يسعنا دفع حديثك في أول الأمر ) ويطلب منه الإنصاف واتباع نفس الطريقة فيقول : فينبغي لك أن تنصف وترضى لغيرك بما ترضاه لنفسك ) . وبهذا قرر الشيخ المفيد واحدة من ( آداب البحث والمناظرة ) .
2 – وهو ثانيًا ينبه الخصم على عدم صحة ( الانتقال في المناظرة ) وأصل ( الانتقال ) هو : ترك الدليل الأول ، والاعتراض بشيء أخر . فالمفروض في البحث العلمي أن يكمل المستدل دليله الأول ، ويخرج عن عهدته ، بجميع فروضه ونقوضه وما يرد عليه ، ثم يتركه إلى غيره . وقد ذكر الشيخ – بكل هدوء – أمثلة لهذا الانتقال ، وأوضح عدم صحته ، وبين ما وقع من المستدل من ذلك . ثم إن الشيخ تصدى لرد الخبر الذي استدل به الخصم وهو المنسوب إلى النبي(صلى الله عليه وآله) من قوله : ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) بعد أن غسل رجليه في ذلك الوضوء . وقد رده الشيخ بوجهين :
1 – بتحليل الخبر على أساس من ألفاظه ومفرداته ، فقال ما معناه : إن اسم الإشارة (هذا) يدل على أن الحكم المذكور وارد على المشار إليه المعين بالإشارة ، فالحكم مختص بما صدر من الرسول(صلى الله عليه وآله) في تلك القضية والواقعة ، ولا يسري إلى غيره ، لأن التعدي بحاجة إلى دليل من عقل وليس هناك دليل عقلي عليه ، وليس هذا أيضًا محلًا للقياس ، لأن اللفظ (هذا) يدل على الخصوصية في المستعمل فيه فلا يمكن شمول غيره . وإذا كان لفظ (هذا) إشارة إلى خصوص ما صدر منه في هذا المورد ، سواء كان ما وقع منه – من غسل الرجل – جزءا للعمل أو خارجا منه لضرورة التطهير مثلا ، كما إذا كانت الرجل محتاجة إلى الغسل لإماطة نجاسة ظاهرية أو مانع عن مسح البشرة ، ونحو ذلك فإن عمل الغسل ودخوله في خصوص هذا العمل لا يدل على دخوله في خصوص فرض الوضوء ، لأنه أعم كما ذكرنا . ثم إن إطلاق كلمة (الوضوء) على مجموع ما هو داخل في فرض الوضوء ، وما هو خارج عنه ، باعتبار الجموع أمر متعارف ، وفيه من المسامحة العرفية ما هو متداول ، لأن اللوازم القريبة والمقدمات اللازمة التي يتوقف عليها العمل ، تدخل في التعبير به ، للمناسبة اللغوية ، وإن لم تكن داخلة في حقيقة لفظه .
2 – بالنقض على الخبر ، بالأخبار التي تدل على عدم اشتراط غسل الرجلين في الوضوء . وقد نقل الشيخ المفيد تلك الأخبار الناقضة من طرق المخالفين لتكون أتم في الحجة على الخصم وإلزامه بما يلتزم هو به . ثم إن الخصم عمد إلى رواية نسبها إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام ، و فيها : ( إنه توضأ ومسح على رجليه ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث ) وجعلها دليلا على رأيه القائل بأن الغسل واجب في الوضوء ، وذلك لأن قوله : ( من لم يحدث ) معناه : من لم يصدر منه الحدث الناقض للطهارة ، فيكون الوضوء المجرد من غسل الرجل ، والمحتوى على مجرد المسح وضوءا غير رافع للحدث , ورد الشيخ المفيد بأن ظاهر الرواية : أنه أخبر عن أن الوضوء المشتمل على مسح الرجلين هو الوضوء الذي لم يتغير ولم يدخله إحداث أو تغيير ، فيكون الوضوء بغسل الرجلين وضوءا محدثا مبتدعا ، حيث لم يجئ به كتاب ولا سنة ، فكان الغاسل بدلا عن المسح محدثا بدعة في الدين , والدليل على صحة هذا التأويل – دون الأول – : انعقاد إجماع الأمة على صحة وضوء من أحدث إذا أتى به من لم يحدث ، كالمتوضئ تجديدا ، وعلى أن من لم يحدث فليس له وضوء خاص به . ثم إن هذا التأويل الثاني ، إذا لم يكن متعينا معلوما ، فهو – على الأقل احتمال مفروض في الرواية – وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال على الاحتمال الأول .
وهذه الرسالة على صغرها تحتوي على آراء عديدة للشيخ المفيد ، هي :
1 – عدم الاعتقاد بالعمل بأخبار الآحاد .
2 – الالتزام بخصوصية المعنى المستعمل فيه الحرف .
3 – المجازات تحتاج صحتها إلى مناسبات لغوية .
4 – رأيه في تأويل الأخبار وما يصح منه وما لا يصح .
5 – التزامه بالوضوء التجديدي لمن كان على طهارة .
6 – مضافًا إلى توضيحه بعض قواعد المناظرة وآداب البحث وتطبيقها في بحثه هذا . وصدر الرسالة يدل على أن مجلس الشيخ المفيد كان مفتوحًا أمام المخالفين وعلمائهم ، ليحضروا ويطرحوا آراءهم بكل حرية ، فمثل الشيخ النسفي – ( ت 414 ) الذي كان في عمر الشيخ المفيد – يحضر هذا المجلس ويدخل مع الشيخ المفيد غمار المناقشات العلمية , وهذا يدل على انفتاح علمي ، وسمو في روح التعامل الفكري ، مضافًا إلى ما يستتبعه من إثارة المناقشات العلمية والفكرية المؤدية إلى نمو المعرفة و نشرها ، وتركيز الحق وتعميقه ووضوحه على المستوى الخاص والعام , كما يدل على الاستعداد التام لدى الشيخ المفيد لخوض بحار العلوم وفي المجلس العام ، وهو الأمر الذي يستكشف بوضوح من خلال مناظراته ومجالس بحثه المسجلة ، والتي جمع طرفًا منها تلميذه السيد الشريف المرتضى في كتاب ( الفصول المختارة ) .
نشرت في العدد المزدوج 57-58
الهوامش
(1) ينظر , الطباطبائي , عبد العزيز , الشيخ المفيد وعطاؤه الفكري الخالد , مقال ضمن كتاب , مصدر سابق , ص23-24 .
(2) البلداوي , عبد الاله علي حسن , عكبرى مدينة العلماء و الأدباء , مصدر سابق , ص98 , كذلك الرحيم , عبد الحسين مهدي , الشيخ المفيد , رسالة ماجستير , ص49-50
(3)البلداوي , عبد الاله علي حسن , عكبرى مدينة العلماء والأدباء , مصدر سابق , ص98 .