حَفلَ التاريخ الإسلامي بالوقائع المهمة التي مثلّت تحولاً خطيراً في الواقع السياسي الإسلامي، وكان لموضوع الخلافة الدور البارز في ظهور الخلافات السياسية التي أصبحت نقطة الخلاف والانقسام عند المسلمين، وأدى بالتالي إلى ظهور تلك الوقائع في صدر الإسلام وجلبت الويلات على المسلمين .
وصُلحُ الإمام الحسن(عليه السلام) واحدٌ من تلكمُ التحولات الخطيرة التي شهدت وضعاً سياسياً مرتبكاً بين المسلمين، فهي ليست واقعة عابرة أو حادثة سطحية احتوت البساطة في مجرياتها، بل كان لها الأثر الأكبر عمقاً في امتداد الرسالة الإسلامية والأكثر تأثيراً في سير خطّها الطويل.
وحيث إنّ مسألة الصلح تتعلّق بجوهر الرسالة السماوية وتكملة الإنجازات النبوية التبليغية، وتكمن في إبراز وصاياها التي لا تنقسم ولا تفترق عن الأوامر القرآنية التي صدرت عن الباري عزّوجل في إثبات القوانين اللازمة على صاحب تلك الرسالة النبي محمد(صلى الله عليه وآله)، ومن ثم على المسلمين الالتزام بها والسير عليها وهو ما جاء في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين)(1)، لذلك فقد حدد القرآن الكريم الواقع السياسي والهيكلية الإدارية للمسلمين في حالة انتقال المُبلّغ الأول وصاحب الرسالة إلى الباري عزّوجل، ولم يشأ أن يضع المسلمين في حالة الحيرة؛ لأنّ القرآن الكريم كان قد رسمَ الخطوات الأساسية المهمة للمسلمين، وليس من الصحيح أن يتركهم سداً يقعون في غيّهم وحيرتهم .
ولكن في حالة عدم التزام المسلمين بما صدرَ عن المُدبّر الأول وواضع القوانين لهذا الكون، فإنّ الويلات سوف تحِلُّ بهذا المجتمع الذي سوف ينحدر إلى الهاوية، وهذا ما حدث بالفعل وأدى إلى سلسلة من الصراعات والنزاعات بين المسلمين أنفسهم، بعد أن أولدت خلافات عميقة كانت أسبابها تتعلّق باليوم الأول الذي رحلَ فيه المبلّغ المحمدي للرسالة الإلهية، ويعتبر السبب الرئيس لذلك هو عدم التزام المسلمين للأمر الإلهي منذ ذلك اليوم وانطلاق الشرارة التي توّهجت نيرانها في الخلاف الذي دبَّ بين الإمام الحسن(عليه السلام) ومعاوية بن أبي سفيان، ممّا أدى في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى الصلح .
الصُلح في المنظومة الاستشراقية
قبل التعرض لآراء المستشرقين في صلح الإمام الحسن(عليه السلام)، لابد من الإشارة إلى أن هذا الصلح بقي منذ حصوله إلى يوم الناس هذا موضع خلاف بين المسلمين وغيرهم من جهة ،وبين الشيعة أنفسهم من جهة أخرى، في أسبابه ونتائجه وجدواه، فمنهم من اعتبره فتحًا كصلح الحديبية، وعزًّا للمؤمنين، وكشفًا لزيف الحكم الأموي الذي كان يحكم باسم الإسلام. ومنهم من اعتبره انتكاسة في تاريخ الشيعة وذلًا لهم.للمزيد مراجعة كتاب (صلح الحسن للشيخ مرتضى آل ياسين).
وكيفما يكون فإن الإمام تعرض لهجمة شرسة وما زال يتعرض لها، تحاول النيل منه بشكل أو بآخر (وليس يضر الحسن بن علي أن تظلمه الضمائر البليدة ثم ينصفه التمييز . وإن لهذا الإمام من مواقفه ومن مواهبه ومن عمقه ومن أهدافه ما يضعه بالمكان الأسنى من صفوة (العظماء) الخالدين .)(صلح الحسن/ص19)
فإذا كان هذا التباين بالمواقف بين المسلمين أنفسهم ، فلنا أن نتصور ما ينقله المستشرقون، فمنهم واضح الحقد والكراهية ،ومنهم من دس السم بالعسل باسم العلم والحيادية والموضوعية.
والمتتبع لأغلب تلك الآراء والدراسات التي تحاملت على الإمام الحسن(عليه السلام)يرى كثيرًا من المؤاخذات التي حملت في طياتها الحقد والكراهية والتعصب على حفيد رسول الإسلام النبي محمد(ص)، وهذا ناتج لا محالة عن القصور الذهني، والاعتماد على المصادر التاريخية التي صنعتها أيادي السلاطين، وأنتجتها تلك العقول التي لا تحمل سوى الحقد والكراهية لآل البيت(عليه السلام).
ويلمس القارئ في كتابات تلك المنظومة كثيراً من التهجم والتجريح البعيدين عن الحيادية والموضوعية للباحث الذي يُريد أن يصل إلى الحقيقة دون المساس بهذا أو ذاك، ولعلَّ بعض هذه الآراء جاءت بوحيٍ من المبشرين الذين غزو العالَمَين العربي والإسلامي، وأرادوا تغطية الفشل الذي وصلوا إليه، فعمدوا إلى تشويه الحقيقة التي هي أَبين من الشمس في واضحة النهار .
ونحن هنا لسنا بصدد الرد على التخرصات والأقاويل البائسة بشكل تفصيلي، وإنما ننوه بإمكانية الرد على تلك الآراء لأنها لا تصمد أمام الواقع والدليل.
وإليك بعض هذه الآراء :
فالمؤرّخ (فيليب حِتّي) في كتابه (تاريخ العرب)(2)الذي أرجع الوقائع التاريخية التي حدثت بعد مقتل الإمام علي(عليه السلام) إلى النزاع حول خلافة المسلمين، وسرد كلاماً حول معنى الخلافة، وهل هي منصب سياسي أم لا ؟ وما كان من رأي الطرفين الأموي والهاشمي حول هذا المنصب، ويعزو (حِتّي) سبب تنازل الإمام الحسن(عليه السلام) عن عرش الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، لأنّ الحسن بن علي(عليه السلام) لم يكن يهتم بأمور السياسة والحكم، بل كان مهتماً بحياته الشخصية ، قائلاً:(غير أن الحسن بن علي لم يكن يهتم كثيراً بأمور السياسة والإدارة والحكم، بل انقطع إلى أمور حياته الشخصية وما لبث أن نزل عن الخلافة لمعاوية واعتزل في المدينة ).
وهذا أمرٌ غير مبرر له؛ لأنّ السياسة عند أهل البيت(عليه السلام) التي يجب أن تسود جميع أنحاء البلاد هي السياسة البناءة التي تضمن المصالح العامة للمجتمع، وبذلك تعمل على إيجاد الوسائل السليمة لرقيّه وبلوغ الأهداف، ومن ثم حمايته من الظلم والجور، وتحقيق المساواة وتبنّي العدل، وإيجاد الفرص المتكافئة لعموم المسلمين لوقايتهم من البؤس والحرمان .
ولقد تمادى بعض المستشرقين على الإمام الحسن(عليه السلام)،ومنهم المستشرق الإنكليزي (أنطوني ناتنج) في كتابه (العرب انتصاراتهم وأمجاد الإسلام)، إذ وقع في أخطاءٍ قد تعمّدَ في تدوينها، وممّا يزيد الطين بلّة، أنّ مترجم هذا الكتاب وهو الدكتور راشد البراوي قد ساهم في إيجاد المبررات لاستخدام هذا المستشرق الأسلوب غير الموضوعي لمعالجة أحداث التاريخ الإسلامي .
إذ يُشير (ناتنج) أثناء حديثه عن الإمام الحسن(عليه السلام)وهدنته مع معاوية بن أبي سفيان، أنّ مبايعة أهل الكوفة للإمام الحسن(عليه السلام) كانت قد صدرت من باب الاحترام لذكرى والده الإمام علي(عليه السلام)، وأنّ الحسن(عليه السلام) كان يؤثر العافية ويحب السلم(3) .
إنّ البيعة الكوفية التي ذكرها (ناتنج) لم يشأ أن يضعها على طاولة الدراسة والتحليل، وإنما تأثر كما تأثر غيره بتحليلات المغرضين والحاقدين لآل البيت(عليهم السلام). فالبيعةُ : هي العهد على الطاعة؛ لأنّ المُبايع يُعاهد أميرهُ على أن يُسلّم له أمر النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا يُنازعه على ذلك، ويُطيعهُ فيما يُكلّفهُ به من الأمر، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك كُلاً من البائع والمشتري، فسُميَّ بيعة(4).
وقد أفرزت دراسة المستشرق الألماني (شتور ثمان) حولَ الربط بين الإمامة والشيعة، وابتغاء الأخير أن تبقى الإمامة في الإسلام للعلويين، باعتبارهم (آل بيت) النبي محمد(صلى الله عليه وآله)،وهذا ما لم يتحقق، فخلافة علي(عليه السلام)القصيرة بين عامي (35و40) لم تكن سوى خلافة لم يجمع عليها المسلمون وتنازعوا في شأنها تنازعاً شديداً، أما ابنه الحسن والقول لـ (شتور ثمان) فإنه لا يمكن أن يسلك (بحق في عداد الخلفاء)(6) .
إنّ هذا الكلام الصادر من المستشرق الألماني مرفوض، لأنَّ المصادر التاريخية الإسلامية لا تقرّهُ، فالإمام الحسن(عليه السلام)تولى الخلافة بشرعيةٍ كاملة وبويعَ من قِبل المسلمين، كما أشرنا إلى ذلك في عدة مواضع، وبعد عقد اتفاقية مع معاوية تنازلَ عن الخلافة (بصفتها الدنيوية) وفق شروط مُعيّنة ومدوّنة .
ويذهب (جرهارد كونسلمان) إلى الرأي الشائع الخاطئ عند المستشرقين من أن الحسن(عليه السلام) هو الذي طلب أولاً الصلح من معاوية بن أبي سفيان بعد أن فقد الأمل في نهاية المعركة، قائلًا :
((عندئذ فقد الحسن الأمل في نهاية طيبة لمعركته مع معاوية وأدرك في يُسر أنه خسر معركته السياسية، فقرر الحسن التعامل مع معاوية في الحال . فأرسلَ مبعوثاً إلى دمشق بغرض محدد للتنازل فرّد عليه معاوية فوراً بأنه مستعد أن يُكافئ الحسن بسخاء، وفي حالة تنازله عن كل الحقوق التي حصل عليها بانتمائه لعائلة النبي(صلى الله عليه وآله). وكان العُرف ينص على أن يقوم الإمام الحسن(عليه السلام) بنفسه بتحديد المبلغ الذي يراه مناسباً . وفي ردّه قام الحسن(عليه السلام)بتحديد مطالبه مقابل تنازله عن الخلافة يطلب خمس ملايين درهم – مرة واحدة للأبد – ويمنح طيلة حياته إقليماً غنياً في بلاد فارس، وتُعادل قيمة هذه المطالب إلى عشرة ملايين دولار . وقد مدّ الحسن أثر التنازل عن الخلافة على أخيه الحسين أيضاً، فبيع حقوق الأخير تعني نصف المبلغ الذي طلبه الحسن لنفسه، ولكي يُبرر الحسن خيانته لقضيته ببيع حقوق بيت النبي ردد الحسن مقولة مزعومة عن الرسول(ص) تُضفي على استسلامه صيغة تقديس إطاعة مشيئة الله . ونص المقولة هو : (بِحَسَنٍ يجعل الله حزبيّ الإسلام المتناحرين أمة واحدة) . ولمّا كان أهل الكوفة مبهوتين لما حدث فقد أقروا تنازل حفيد النبي عن السلطة في الدولة الإسلامية واستمعوا إلى خطبته الأخيرة في الجامع غير مبالين . وقد قام الحسن بمحاولة تبريره للتنازل عن السلطة :لقد أخضع الله الدنيا للتغير المستمر) (7) .
ويَعزي (كارل بروكلمان) صُلح الإمام(عليه السلام)مع معاوية إلى أنه بسبب حفنة من الأموال تنازل عن حقّهِ بالخلافة، بقوله :
(والواقع أنه آثر مفاوضة معاوية وتنازلَ عن حقّه في الخلافة على أن يُترك له خمسة ملايين درهم كانت في بيت مال الكوفة )(8) .
إنَّ ما أشار إليه المستشرق ليس هو الواقع؛ لأنَّ ما في خزانة الكوفة من الأمتعة والأموال قد كانت تحت تصرّف الحسن(عليه السلام)، فضلاً عن أنها لم تكن محجوبة أو ممنوعة عليه حتى يشترط على معاوية أن يُمكّنهُ منها، بالإضافة أن الإمام الحسن(عليه السلام) كانَ في غنى من أموال معاوية، وليس بحاجة لها، ولو كان كذلك فلا ضير على الإمام من أخذها، لأنّ إنقاذ أموال المسلمين من حكام الجور أمرٌ واجب .
أماالمستشرقة البولونية (بوجينا غايانة ستشيجفسكا)، والتي تعد من ظاهر كلامها من المنصفين للإمام الحسن(عليه السلام)، فقد دست السم بالعسل ، في دفاعها عن الإمام الحسن(عليه السلام)،فطعنت به وبأمير المؤمنين(عليه السلام)، كما جعلت معاوية وأتباعه القاسطين بمراتبهم وبمصافهم، بقولها :(بعد مقتل علي بايع شيعته ابنه الحسن وأقام في الخلافة 6أشهر ولم يخضع معاوية له فكادت تكون بينهما حروب كما كان في أيام أبيه، ولكن الحسن فكّر في الأمر ونظرَ إلى الظروف نظرةً صائبة، وكان يكره الفتن ويحب للمسلمين الألفة . فرأى خير المسلمين أن يتنازل عن الخلافة إلى معاوية وصالحه على شروط رضيها الطرفان، وكتب إلى معاوية بالبيعة وسلّم إليه الكوفة في أواخر ربيع الأول سنة 41 .وبذلك تمَّ ما قاله الرسول في الحسن ((إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين )(8).
نشرت في العدد المزدوج 57-58
(1)المائدة ، 67 .
(2)حتي ، فيليب تاريخ العرب ، ترجمة : ادوارد جرجي وجبرائيل جبور ، ط لبنان – 1974، ، ص244- 246
(3)ناتنج ، انطوني ، العرب انتصاراتهم وامجاد الاسلام ، ترجمة : راشد البراوي ، ط مكتبة الانجلو المصرية – القاهرة 1974م ، ص92 .
(4)ينظر : تاريخ ابن خلدون ، المقدمة ، ج1 ، ص209 .
(5)شتروثمان ، دائرة المعارف الاسلامية ، ص58 ، مادة (شيعة) .
(6)كونسلمان ، جرهارد ، سطوع نجم الشيعة ، ترجمة : محمد أبو رحمة ، ط الاولى – مكتبة مدبولي – القاهرة 1992م ، ص45 .
، ص47 .
(7).بروكلمان ، كارل ، تاريخ الشعوب العربية (العرب والامبراطورية العربية)، ترجمة : د . نبيه أمين فارس و منير البعلبكي ، ط الثانية – دار العلم للملايين – بيروت 1953م ، ج1 ، ص145 .
(8)ينظر : ستشيجفسكا ، بوجينا ، تاريخ الدولة الاسلامية وتشريعها ، ط الاولى – التجارية – بيروت 1966م ، ص96 .