ا لحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
أما بعد..
لا شك أن الصائم أقرب الدُّعاة استجابة, وذلك لانعكاس تلك الفريضة تربوياً على نفسه إيماناً وتقوى وإنابة، وعلى سلوكه حباً للطاعة والدعوة في إطار إيجابية الأداء, ونلاحظ التوجيه إلى ممارسة الدعاء من خلال قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(البقرة:186)إذ يبرز البناء العبادي على طاعة الدعاء من مجيء هذه الآية في آيات الصيام, لأن فريضة الصيام تدفع الإنسان نفسياً إلى التعلق بالدعاء لما تقدم من استشعاره بالرقيب المطلق سبحانه, فضلاً عن أن فريضة الصيام تسهم في رفع روحانية نفسه, وسموها مما يؤثر تأثيراً ملحوظًا في إقبال الإنسان على الدعاء, فكانت الدعوة واضحة إلى الدعاء في سياق آيات الصوم, ومما يلفت النظر في الآية الكريمة أيضاً، أن الله تعالى أشار إلى ذاته المقدسة سبع مرات وأشار إلى عباده سبعاً! مجسداً بذلك غاية لطفه وقربه وارتباطه بعباده, فلا يقتصر الدعاء على طلب استجابة الحاجات, بل هو أيضاً لتحقيق هذا الارتقاء والارتباط بالمطلق سبحانه (وأي مطلوب نفسي أعظم منه مع كونه من الانقطاع إلى الله ومظهر العبودية المحضة لله تعالى)(1).
وقد أكدت آيات قرآنية كريمة على أهمية الدعاء والحث عليه، ووجوب تعلقّ قلب الإنسان بالله سبحانه وحده, وان(الآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن )(2)، ومن هذه الآيات, قوله تعالى على لسان إبراهيم(عليه السلام): (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)(إبراهيم:41)، هذا الدعاء الخاشع من إبراهيم(ع) يناجي ربه بالدعاء الخاشع الضارع يرتسم فيه إبراهيم(عليه السلام)أبو الأنبياء نموذجاً للعبد الصالح الذاكر الشاكر، كما ينبغي ان يكون الإنسان كعبد لله تعالى.
وفي أهمية الدعاء ما نلحظه في قوله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أإلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)(النمل:62) يقول السيد الطباطبائي: (إن المدعو يجب أن يكون هو الله سبحانه, وإنما يكون ذلك عندما ينقطع الداعي عن عامة الأسباب الظاهرية, ويتعلق قلبه بربه وحده، وأما من تعلق قلبه بالأسباب الظاهرية فقط, أو بالمجموع من ربه ومنها فليس يدعو ربه وإنما يدعو غيره)(3), وقوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)(الفرقان:77), فاكتراثه سبحانه بهم ( إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر, ولولا عبادتهم لم يكترث لهم البتة، ولم يعتد بهم، ولم يكونوا عنده شيئاً يبالي به)(4), (فإن الدعاء هو الإقبال على الله, والاضطرار والتوجه إلى الله تعالى وهو من أقوى الارتباط بالله … فلا يعبأ الله بعبده, لولا هذا الانشداد والارتباط والعلاقة القائمة على أساس الفقر والاضطرار إلى الله)(5) .
وأكد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) أهمية الدعاء, وضرورة الالتزام به والإلحاح فيه, يقول الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): (الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراماً فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة, ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء وإنه ليس باب يُكثر قرعه إلا يوشك أن يفتح لصاحبه)(6), ويقول الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): (عليكم بسلاح الأنبياء, فقيل: ما سلاح الأنبياء؟ قال(ع): الدعاء)(7).
ولا تقتصر عبادة الدعاء فقط عند نزول البلاء, بل هو عبادة مفتوحة في كل مكان وزمان وفي الشدة والرخاء, سواء بسواء, يقول الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): (من سره أن يستجاب له في الشدة, فليكثر الدعاء في الرخاء)(8),
وكذلك ما نلحظه في قوله(عليه السلام): ( من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء, وقيل: صوت معروف ولم يحجب عن السماء, ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء, وقالت الملائكة: إن ذا الصوت لا نعرفه(9). وعنه(عليه السلام) عن آبائه عن الإمام علي(عليه السلام) أنه كان يقول: (ما من أحد ابتلى وإن عظمت بلواه أحق من المعافى الذي لا يأمن البلاء)(10).
وقد خص الصيام في شهر رمضان المبارك وغيره بأدعية مأثورة(11) أوضح الأئمة(عليهم السلام) أهميتها وأثرها, فهذه الأدعية تعد (امتيازاً لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام), وتأكيداً لعلمهم وإمامتهم ودورهم في الحياة الإسلامية, وتوضيحاً لمنهجهم في بناء الجماعة الصالحة والأهداف السامية لهذا البناء, ومنها إيجاد هذه الجماعة المتكاملة في جانبها الروحي والمعنوي(12),
فتتعزز علاقة الإنسان بالمطلق سبحانه لأن الإنسان بطبيعته وفطرته مشدودة إليه سبحانه, لأن علاقته بالمطلق تمثل أحد مقومات نجاحه وتغلبه على مشاكله في مسيرته الحضارية, وهو بحاجة إلى سلوك عملي يعمق هذه العلاقة ويوثقها بدلاً من أن تضيع أدراج الرياح فـ(بدون سلوك معمق قد يضمر هذا الشعور ولا يعود الارتباط بالمطلق حقيقة فاعلة في حياة الإنسان, وقادرة على تفجير طاقاته الصالحة)(13),
ويشد من أواصر القرب الإلهي فهو نوع من أنواع (التوعية وإيقاظ القلب والعقل, وارتباط داخلي بمبدأ كل لطف وإحسان)(14), فالإنسان الذي يكون قلبه مشغولاً بغير الله عز وجل, يكون بعيداً عن تقبل الله سبحانه لدعائه, ولو اجتهد ظاهره, وبالتالي يحرم من استجابة ذلك الدعاء أو حصول الأجر فيه. يقول الإمام علي(عليه السلام): (لا يقبل الله دعاء قلب لاه)(15). وعن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): (إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه, فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة)(16).
فنلحظ أن الله سبحانه ختم آية الدعاء بـ (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، ففيها دلالة واضحة على أن يكون تطبيق الإنسان للأمر الإلهي بتوجه من القلب المفعم بالإيمان المطلق بصاحب الأمر، لا على وجه الإسقاط وحسب، (أي بالجمع بين الإذعان للأمر والنهي، والرشد والرشاد، ضد الغي والفساد فعلمنا أن الأعمال إذا لم تكن صادرة بروح الإيمان، لا يرجى أن يكون صاحبها راشداً مهدياً، فمن يصوم اتّباعاً للعادة وموافقة للمعاشرين، فإن الصيام لا يعدّه للتقوى ولا للرشاد، وربما زاده فساداً في الأخلاق وضراوة بالشهوات، لذلك يذكرنا تعالى – في أثناء سرد الأحكام – بأن الإيمان هو المقصود الأول في إصلاح النفوس، وإنما نفع الأعمال في صدورها عنه وتمكينه إياها )(17).
وبكلمة: أكد القرآن الكريم ( أهمية الدعاء في رمضان وللصائمين فيه وأن رمضان من الأزمان المباركة التي تستجاب فيه الدعوات لا سيما ليلة القدر وساعة الإفطار للصائم )(18)، وإن لهذه الاستجابة شروط ظاهرية وقلبية يجب أن يتحلى بها الإنسان عند مباشرته لهذه العبادة العظيمة, وهذا بطبيعة الحال لا يُغنينا عن التوسل بالعوامل الطبيعية, ليحدث بذلك تغيير كبير في حياة الإنسان وتجديد لمسيرته, وإصلاح لنواقصه سواء أكان في أيام الصيام أو في سائر أيامه الأخرى…والحمد لله رب العالمين.
نشرت في العدد المزدوج 57-58
هوامش
(1) حسين نجيب محمد , جمال السالكين للعالم الرباني السيد عبد الأعلى السبزواري:173 .
(2) الرازي، مفاتيح الغيب، 5/85. وفي الآيات: سورة الأعراف: الآية56, وسورة الزمر الآية:8.
(3) الميزان في تفسير القرآن: 15/ 323 , وابن عاشور , التحرير والتنوير: 19/289 .
(4) الزمخشري , الكشاف: 3/303 , والطبري , جامع البيان عن تأويل القرآن: 19/65 .
(5)محمد مهدي الآصفي ، في رحاب القرآن/: 14/31.
(6)الكليني , الكافي: 2/470 .
(7) الحر العاملي , وسائل الشيعة: 7/39 .
(8)الكليني , الكافي: 2/472 .
(9)المصدر نفسه .
(10) الصدوق, من لا يحضره الفقيه: 4/400 , الحر العاملي , وسائل الشيعة: 7/42 .
(11)الكفعمي(ت900هـ) ، البلد الأمين والدرع الحصين، عباس القمي, مفاتيح الجنان, الجوهرجي، ضياء الصالحين.
(12)محمد باقر الحكيم , دور أهل البيت(ع) في بناء الجماعة الصالحة: 2/348 .
(13)محمد باقر الصدر , نظرة عامة في العبادات: 34.
(14)ناصر مكارم الشيرازي , الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: 1/376 .
(15)الكليني , الكافي: 2/473 .
(16)المصدر نفسه .
(17)محمد رشيد رضا /تفسير المنار، 2/148 .
(18)عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، الصيام ورمضان في السنة والقرآن، دار التعليم، ص173.