Take a fresh look at your lifestyle.

التوبة النصوح

0 748

        قال الإمام الصادق (عليه السلام) إذا تاب العبدُ توبة نصوحاً أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت وكيف يستر عليه قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ثم يوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب)(1).
لقد ورد في الحديث الشريف كلمة التوبة النصوح، فما هو المراد من النصوح في هذه الرواية الشريفة الطيبة من الإمام المعصوم صلوات الله عليه وآله هناك أربعو تفاسير لكلمة النصوح.
التفسير الأول: النصوح: بمعنى أنه يتوب توبة تؤثر عليه وعلى سلوكه وتؤدي به إلى أن ينصح الناس بترك المعاصي والذنوب.
لأن الإنسان عندما يرتكب الذنوب والمعاصي يرى آثارها السيئة في نفسه وبدنه وحياته حيث تؤثر الذنوب على سلوكه في علاقاته مع مجتمعه وعائلته وأفراد أسرته وزملائه في العمل وغيرهم، وعندما يتوب يشعر بأن حياته قد تبدلت وتغيرت بسبب ترك الذنوب، فمثلاً الذي تعوَّد على ارتكاب ذنب الغيبة يرى آثارها السيئة في خلق العداوة والبغض بين الناس حيث يكرهون المغتاب، وكذلك إذا ترك الصلاة والصوم أو قطع الرحم وغيرها من الذنوب، فعندما يتوب يرى آثار التوبة الطيبة على نفسه ويشعر بفضل ونعمة تطهير النفس، وعندئذ يدعو الناس إلى التوبة وينصحهم إلى فعل الطاعات والعبادات حتى تكون عوض الذنوب، ولا بأس أن يكون مقابل كل سيئة حسنة قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ( إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها)(2). وأن يقوم بتحسين خلقه لتكون سيئته حسنة يبدلها الله له. قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أربعٌ من كن فيه وكان من قرنه إلى قدمه ذنوباً بدلها الله حسنات: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر)(3).
التفسير الثاني: النصوح ما كانت خالصة لوجه الله . وذلك لأن كلمة النصوح بمعنى الخلوص كما يقول العرب : عسل نصوح إذا كان خالصًا من الشمع، وهنا يراد به توبة خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى. ولا يريد بها سوى التقرب لله سبحانه وتعالى، فلا يريد التقرب للناس أو لشخصية اجتماعية كأن يتقرب لرجل الدين أو الرئيس في العمل أو الوظيفة، أو للحصول على مكانة في المجتمع، أو تكون خوفاً من النار، ولا يهمه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال المحقق الطوسي في كتاب التجريد (بأن الندم من الذنوب للخوف من النار ليس بالتوبة)(4).
ومن الذين تابوا إلى الله توبة نصوحاً أبو لبابة بن عبد المنذر، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حاصر بني قُرَيْظة فقالوا له ابعث لنا أبا لبابة نستشره في أمرنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أبا لبابة ائت حلفاءك ومواليك، فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقال: انزلوا واعلموا أن حكمه فيكم هو الذبح، وأشار إلى حلقه، ثم ندم على ذلك، فقال: خنت الله ورسوله ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومرّ إلى المسجد وشَدَّ في عنقه حبلاً، ثم شدَّه إلى الأسطوانة التي كانت تسمى أسطوانة التوبة، فقال: لا أحله حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فبلغ رسول الله(صلى الله عليه وآله)،فقال(صلى الله عليه وآله): أما لو أتانا لاستغفرنا الله له، فأما إذا قصد إلى ربه فالله أولى به، وكان أبو لبابة يصوم النهار ويأكل بالليل ما يمسك به نفسه، وكانت ابنته تأتيه بعشائه وتحله عند قضاء الحاجة فلما كان بعد ذلك ورسول الله(صلى الله عليه وآله) في بيت أم سلمة نزلت توبته فقال(صلى الله عليه وآله): يا أم سلمة قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت: يا رسول الله أفأؤذنه بذلك؟ فقال: فافعلي فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت: يا أبا لبابة قد تاب الله عليك، فقال: الحمد لله، فوثب المسلمون يحلونه فقال لا والله حتى يحلني رسول الله(صلى الله عليه وآله) بيده، فجاءه رسول الله(صلى الله عليه وآله)فقال: يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من يومك هذا لكفاك.فقال: يا رسول الله فأتصدق بمالي كله؟ قال: لا.قال: فبثلثيه؟ قال: لا قال: فبنصفه قال: لا. قال: فبثلثه؟ قال: نعم. فأنزل الله عزّ وجل: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(5).
التفسير الثالث: النصوح من النصاحة بمعنى الخياطة. والعلاقة بين التوبة والخياطة أن التوبة تصلح ما مزقته الذنوب، وكذلك الخياطة فإن الثوب إذا تعرض إلى الصدمات والشد بقوة فإنه يتمزق، وكذلك النفس الإنسانية إذا تعرضت إلى الذنوب والمعاصي، فإنها تتمزق وتتشتت من الصدمات والآثار المرعبة للذنب، فلا تستطيع أن تؤدي الأعمال العبادية فتخرق الشهوات عقله ونفسه ويركن إلى الدنيا ولذاتها وشهواتها، وعندما تأتي التوبة النصوح فإنما تصلح النفس بالندم ونار الحرقة فترجع قادرة على الأعمال العبادية والطاعات الواجبة عليها. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (التوبة النصوح الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر الله ثم لا تعود إليه أبداً)(6).
التفسير الرابع:ـ أن النصوح وصف للتائب. (وإسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازي أي توبة تنصحون بها أنفسكم بأن تأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكلية، ويكون ذلك بذوب النفوس ومحو ظلمات القبائح بنور الأعمال الحسنة)(7).
أي إن التائب يكون مؤدياً لها بشروطها وأركانها ولذلك لما (سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً قال بحضرته: أستغفر الله فقال له: ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين وهو اسم واقعٌ على ستة معانٍ. أولها الندم على ما مضى. الثاني: العزم على ترك العود. الثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليكم تبعة.الرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.السادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول: أستغفر الله)(8).
والشرط الأول إلى الشرط الرابع من أركان التوبة، ولا تتحقق إلا بها، فعلى التائب أن يندم على ما مضى ويجعل في نفسه العزم والهمة إلى عدم العود إلى الذنب إلى آخر لحظة في هذه الدنيا، ولا تفكر بالرجوع إلى الذنب مرةً أخرى مهما كانت الظروف والمصاعب، وأن يستعين بالله سبحانه وتعالى وأهل البيت(عليهم السلام)للتخلص من الذنب الذي اعتادت النفس عليه وعملته سنوات طويلة، وعليه أن يدعو في جوف الليل ويثق ويعتقد بأن الله سبحانه وتعالى سوف ينصره ويخلصه من هذه الشدة ويبعد عنه الشيطان الذي يدفعه بشدة وقوة إلى ارتكاب الذنوب.وعليه أن لا يبتهج بالذنب عند تذكره أو عندما يتحدث عنه، بل يكون بألم وحرقة، قال الإمام زين العابدين(عليه السلام): (إياك والابتهاج بالذنب فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه(9).

وممن ظهرت التوبة كاملة منه بشر الحافي، فلقد كان من أهل المعازف والملاهي ويقضي ليله بالسكر والدعارة في ليله ونهاره، إلى أن اجتاز على داره ببغداد الإمام الكاظم(عليه السلام) فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تعلو من داره، وخرجت منه جارية وبيدها قمامة فرمت بها في الطريق، فالتفت الإمام(عليه السلام) قائلاً: يا جارية صاحب هذه الدار حرٌ أم عبدٌ؟ فأجابت: بل حر، فقال(عليه السلام): صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه. ودخلت الجارية الدار، وكان بشر على مائدة السكر، فقال لها: ما أبطاك؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمام(عليه السلام) فخرج بشر مسرعاً حتى ألحق بالإمام(عليه السلام) فتاب على يده واعتذر منه وبكى، وبعد ذلك أخذ في تهذيب نفسه، واتصل بالله عن معرفة وإيمان حتى فاق أهل عصره في الورع والزهد)(10)
فالتائب الحقيقي هو الذي تكون توبته ناصحة أي تامة الأركان والشرائط فيحصل على مرتبة ودرجة عالية في الجنة وصفها الإمام علي(عليه السلام) بدرجة العليين.
ومن الممكن أن تكون توبة إنسان مخلص لها، تجمع كل التفاسير الأربعة فهو ناصح للناس من تأثير التوبة وخالصة لله سبحانه وتعالى وأن تصلح ما مزقته الذنوب وبذلك يكون مهيَّأً للحصول على المغفرة والرحمة الإلهية.

نشرت في العدد المزدوج 57-58


(1)أصول الكافي: 2/ 314.
(2)أمالي الطوسي: 186.
(3) أصول الكافي: 2/ 107.
(4) الأربعون حديث للخميني (قدس سره)ص266.
(5) التوبة: الآية (102ـ 104).
(6) كنز العمال: 2/ 103.
(7) الأربعون حديث للخميني (قد سره) ص266.
(8) نهج البلاغة قصار الحكم 417.
(9)البحار: 78/ 59.
(10)أعلام الهداية الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) 80.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.