ظلَّ غرضُ الرثاء في الشعر العربي محافظاً على طابعِه الخاص وخطابِه المميز، على الرغم من صلته بغرض المديح التي أشار إليها غيرُ واحدٍ من النقاد العرب القدامى وتبعه في ذلك بعضُ النقاد المعاصرين. غير أن ما يمنحُ كلَّ نصٍ شعري،مهما كان غرضُه،خصوصيتَه وتفردَه صلتُه بتجربةِ كاتبِهِ الجمالية والشعورية، فالشاعر لا يتعاملُ مع المواقف والظواهر الحياتية في الواقع الموضوعي بطريقةٍ آلية، تقتصرُ على كون هذا الواقع رافداً حيوياً لنصه، بل يُخضِعُ هذه العلاقة إلى رؤيته الروحية/الوجدانية معتمداً في صياغتها والتعبير عنها على ذائقة فائقة بجماليات التعبير اللغوي وطرائقه.
الرثاء في النَّص الشعري الذي سنقرؤه هنا ونتأملُ خصوصيةَ تجربته، لشاعرٍ لم يصلْنا من شعره سوى هذه المقطوعة القصيرة، وبضعةِ أبياتٍ أخرى اختلف المحققون ودارسو الأدب في نسبتها إليه . ولعل الباحثَ عن أسبابِ فقدان هذا الشعر لا يبذلُ جهداً كبيراً في معرفتها واكتشافها، إذا ما توقف قليلاً عند ما ورد في كتب الأدب من ترجمةٍ لحياة الشاعر، فيكفي لاكتشاف الأسباب معرفةُ أنَّ صعصعةَ بن صوحان أحدُ حواريي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن الذين عرفوه حقّ معرفته، ويعدُّ من سادات عبد القيس من أهل الكوفة، وكانت ضريبة هذه المحبة لأمير المؤمنين أنْ مورس القمع والنفي ضده مرتين؛ الأولى: حينما نفاه الخليفة الثالث إلى الشام مع مالك الأشتر و بعض رجالات من الكوفة، و المرة الثانية نُفي بأمر معاوية بن أبي سفيان، حيث كانت لصعصعة مواقفُ حقٍ كَسرتْ أنوية معاوية، ذكر فيها فضائل الإمام ومناقبه مراراً، فنفاه المغيرة على إثرها من الكوفة إلى جزيرة (أوال) في البحرين، فمات فيها عن عمر بلغ 70 عاماً. كان في جيش الإمام في الجمل، وبعد أن استشهد أخواه زيد وسيحان، رفع لواءهما وواصل القتال .وكان رسول الإمام (عليه السلام)إلى معاوية ومن أُمراء الجيش، ونقل كثيراً من أحداث صفين ووقائعها. وكذلك في حرب النهروان، ويعد من أبرز الذين احتجّوا على الخوارج بأحقّيّة الإمام. ويكفيه أن الإمام (عليه السلام)جعله شاهداً على وصيّته . فكيف لشعره أن يسلم من التغييب الأموي ؟
كان من محطات لوعته أنْ يقفَ باكياً حبيبَه أمير المؤمنين، ويرثيه بأبيات، غايةٍ في اللوعة والألم، وهي على الرغم من بساطة ألفاظها، و طبيعة عباراتها المألوفة في شعر الرثاء عادة، حققتْ خصوصيتها، واحتفظتْ بحرارة تجربتها وصدقها، ولا شك في أنَّ وراء ذلك ما سنرى ملامحه في صدق التجربة، وجمال المبنى الشعري للمقطوعة .
يقول صعصعة في رثاء الإمام(عليه السلام)(1)
هل خبَّرَ القبرُ سائليهِ
أم قرَّ عيناً بزائريــــهِ
أم هل تَراه أحاطَ علماً
بالجسد المُسْتكنِّ فيـهِ
لو عَلِمَ القبرُ مَنْ يواري
تاه على كلِّ مَنْ يليهِ
يا موتُ ماذا أردتَ مني
خِفتُ ما كنتُ أتقيـهِ
يا موتُ لو تقبل افتداءً
لكنتُ بالروح أفتديهِ
دهرٌ رماني بقصدِ إلفِي
أذمُّ دهري و أشتكيـهِ
تدعونا رغبةُ اكتشاف خصوصية هذه الأبيات، إلى أنْ نقف عند مستوى من مستويات تحليل لغة النص، وهو المستوى الصوتي، لسعة هذا الأخير وقدرته على تشكيل الدلالة و إثرائها في التعبير الأدبي عامة، وفي النص الشعري على نحو خاص. ومنشأ ذلك ما للغة من علاقة جدلية تربطها بالشعر، فاللغة الشعرية(تؤلف جانباً مهماً من جوانب القيمة الجمالية للقصيدة باعتبار أن للكلمات سلوكاً يرتبط بالتغييرات التي تصيب الثروة اللفظية في ضوء تحليل المعنى الذي يقرر طبيعة ذلك السلوك في مدى تفاعله بسلوك التعبير الذي يعد من خصائص التحليل الأدبي حين تكون مهمة النقد دراسة الأدب بوصفه ظاهرة، إنها ابتداء الاهتمام بتحليل العمل الأدبي وهو أمر يذهب إلى أبعد من الانطباعات العادية)(2) .
لا بد من معرفة أن الشاعر في أثناء كتابة نصه لا يبدأ من فراغ ولا ينتهي إليه، فعملية الكتابة لديه تخضع إلى أنساق فنية، يزاوج فيها الشاعر بين الفكرة واللفظ حيث يرتقي باللفظ إلى أبعاد ومستويات تحقق له درجة عالية من التماثل والتطابق بين عالمي القصيدة (الخارجي والداخلي). ومن هنا فإنَّ المحاكاة هي العملية الإبداعية التي يشكَّل الشاعر بواسطتها معطيات الواقع الذي يعيشه، و يصاحبه شعور خاص يثيره عنصر المحاكاة الحسي في التجربة الشعرية.(3)
و إنَّ التماسك والتوافق ما بين مفردات بنية الشعر اللغوية هي سمة البناء الفني الجيد الذي يرتقي بالنص الشعري إلى خصوصيته الفنية العالية، و قيمته الذاتية المتفردة؛ ولا شك في أنَّ هذه البنية ستكون المرآة التي تعكس لنا صدق التجربة الشعورية، نتيجةً حتمية لهذا التماسك والتوافق. ويعد الإيقاع الداخلي الذي تولده الأصوات داخل بناء النص الشعري عنصراً هاماً من عناصر الأداء الفني الذي يعتمده الشاعر في تجسيد تجربته، ولذا يكتسب خصوصية في الدراسة النقدية التي تتحرى التحقق من جودة النص الشعري أو عدمها؛ فثمة علاقات طبيعية بين الفكر والبنى اللسانية المعبرة عنه، و هناك نوع من التعادل بين الشكل والمضمون، واستعداد طبيعي يقوم في الشكل للتعبير عن بعض فئات الفكر، يتجلى في علاقة طبيعية بين الصوت والمعنى في الكلمات المحاكية، وفي عدد كبير من الكلمات بفضل استعداد هذه البنى لإنتاج حركة الانفعال(4).
تتجسد الصلة واضحة ما بين لغة صعصعة بن صوحان الشعرية في هذه الأبيات وبين معاني ودلالات هذه اللغة الغائرة في نفس الشاعر و وجدانه، ومن ثم نرى الصدق الفني متجلياً بشكل متلازم مع صدق التجربة الشعورية في هذه الأبيات، فكان الموقف المؤلم (رثاء أمير المؤمنين (عليه السلام) وحالة استشعار فقده) محفزاً و مستثيراً لأحاسيس الشاعر الصادقة، وهو ما نراه حاضراً عبر الرقة الظاهرة في الكلمات، فالإيقاع الداخلي فيها ناتج عن مزاوجة بين مستويات المفردة الشعرية من (صوتية ودلالية)، وكاشف عن تقنية عالية في بناء النص الفني، وهو ما سنحاول قراءته في تجربة الشاعر هنا.
يبدأ المقطع بالتساؤل المجازي عن إدراك القبر ومعرفته بالشخص الثاوي فيه، وهل يجيب سائله عن ذلك، أم إن استبشاره بشخص أمير المؤمنين (عليه السلام) وبهجته به قد منعته من الكلام والإخبار. ويستخدم الشاعر لتأدية هذا المعنى الفعل (خَبَّرَ) بأصواته المجهورة ذات التردد السمعي العالي، وفي تكرار صوت الباء (المشدد) ما يُثقلُ من إيقاع الشطر الأول من البيت، ثم تكراره في لفظة (القبر) ليكون هذا الثقل محاكياً لإيقاع الحزن الثقيل المتموج الذي يطبق على الشاعر كما ينطبق القبر على ساكنه.
والشاعر في غمرة حزنه يبحث عن متنفس للوعته وغصته التي تملأ صدره فلا يملك إلا أن يخاطب الموت مراراً، إمعاناً منه في تصوير حالة الشعور بالوحدة والفقد التي تستفحل إلى صورة التمني بأن يكون فداءً لشخص أمير المؤمنين(عليه السلام) وبديلاً عنه، لو كان الأمر ممكناً، فيستخدم (لو) الدالة على امتناع لامتناع، فهو يستبق معنى النفي واستحالة تحقق الأمر المرجو. ويستمر نداؤه وأمنيته التي لا تتحقق، فلا شيء لديه غير دعوة الموت إلى القبول بهذا الطلب، ونلاحظ اطراد معنى النفي وحالته، إذ يأتي موحَّداً من حيث الدلالة ومتعدداً من حيث الصورة والشكل. ولا تخلو دلالة النداء للموت من شعور لدى صعصعة بهيمنة سطوة الموت وقوته الخاطفة التي تأخذ الأحياء وتنتشلهم على حين غرة، ولعل في دعوة الموت لأن يقبل به فداءً لأمير المؤمنين (عليه السلام) نوعاً من إنزال العقاب بالذات، فصعصعة يشعر بقساوة أن يبقى حياً بعد أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهنا لا يظهر الجانب الإيجابي لصورة الموت من أنه لقاء بالأحبة وارتحال إلى حياة أبدية، وليس الشاعر معنياً هنا بهذا الأمر، فهو المفرق بين الأحبة، والمغيب لصورهم، ودفء حضورهم وبهجته. وستكون التركيبة الصوتية للألفاظ مجسدةً لهذا المعنى ومشاركةً في تأكيده وزيادته .
يُسهم الإيقاع المتموج الذي تشكَّلَ من المقاطع الطويلة المفتوحة (سا / زا / را/ حا/وا / تا/ يا .. إلخ) في الأبيات في هيكلة الحزن الذي يغرق فيه الشاعر. حيث يمتاز صوت العلة بوضوح سمعي عال، وهو ما يعكس علواً في مستوى التوتر النفسي، وقد جاءت استجابة لحالة حزن هادئة مفعمة بالأسى، ثم صفير صوت (السين) الذي هو من الأصوات المهموسة ليخلق الأثر السمعي أثراً انطباعياً، لدى المتلقي بضراوة حالة الفقد والألم التي تفترس الشاعر.
أما الحضور الآخر البارز في الأبيات فهو لصوت (الهاء) الاحتكاكي المهموس، فقد جاء مكسوراً ليمثل قافية الأبيات، وهو حرف حلقي خارج من أقصى الجهاز الصوتي، ليؤلف مع ما يسبقه من مقطع طويل مكون (صوت + الياء)، مقطعين طويلين ستنتظم الأبيات الستة على وفقه، ويمكن لهذه الدلالة أنْ تتعزز إذا ما قرأنا القافية لوحدها متلاحقة هكذا (هيْ /هيْ / هيْ/هيْ..)، ومن الواضح مجيؤها مماثلةً لصوت البكاء المستمر، فنرى أنَّ لصوتية الحروف فاعلية بنائية تخضع في بعض الأحيان لانطباعات فجائية مبعثها ما يسمى بإيحاء الأصوات أو ما يصطلح عليه (تداعي معاني الحروف) حيث يشكل الصوت في النسق اللغوي منطلقاً للوعي والتأثر، فالشاعر يكرر حرفاً بعينه أو مجموعة من الحروف فيكون لهذا مغزى يعكس شعوراً داخلياً للتعبير عن تجربته الشعرية فقد يتفوق الجرس الصوتي على منطق اللغة فيخرج من قيد الصوت المحض إلى دلالة تحرك المعنى وتقوّيه(5)،
على أنَّ صعصعة هنا لم يقع تحت تأثير انطباع فجائي مبعثه إيحاء الصوت، بل جاء الأمر متماهياً مع حالته الشعورية الخاصة.
وهكذا تنتظم الأبيات وحدةٌ إيقاعيةٌ تندرج في وحدة معنوية، تصبح اللفظة فيها كياناً مكتنزاً بالإيحاءات والدلالات المترابطة، بشكلٍ يدفعنا إلى القول بعدم إمكانية التعبير هنا على أنْ يستنفد إمكانات الرؤيا لدى الشاعر أو يستوعب سعة حزنه و ألمه . ولعل ذلك قد تجلى بشكلٍ واضح حينما اتسعت الدلالة في الأبيات محققةً وحدةً عضويةً متكاملة تجمع بين تجربتيها الشعورية، والفنية بطريقة فائقة. وقد حقق صعصعة بن صوحان هذا بعفوية وصدق، ذلك قبل أنْ يصيغ (بوب) عبارته (على الصوت أنْ يبدو كما لو كان صدى للمعنى) .
نشرت في العدد المزدوج 57-58
الإحالات
أعيان الشيعة : العاملي : 38/ 290
(1) التحليل النقدي والجمالي للأدب : د. عناد غزوان: 30
(2) ينظر: الأسلوبية الصوتية في النظرية والتطبيق (مقال) : د. ماهر مهدي هلال، مجلة آفاق عربية ع 12، س 1992 : 68 .
(3) ينظر : الأسلوب والأسلوبية : جيرو : 36
(4) الأسلوبية الصوتية في النظرية والتطبيق (مقال) : 1992 : 71 .