في السابع عشر من شهر رمضان المبارك وفي السنة الثانية من الهجرة، وقعت معركة بدر الكبرى التي نصر الله بها المسلمين نصرًا عزيزًا، ولا بأس في هذه الذكرى أن نتحدث عن هذه المعركة.
الإسلام دين المحبة والسلام
لم يختلف اثنان من المنصفين على أن دعوة الإسلام هي دعوة للمحبة والسلام، ولم يكن داعية إلى حرب أو قتال، لا على المستوى التنظيري ولا على المستوى التطبيقي، إلا مضطرًا لذلك دفاعًا عن النفس أو العقيدة أو المال أو الثغر.
فآيات القرآن الكريم ومن بعدها سنة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) توضح موقف الإسلام من هذه القضية الهامة، قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً)(208: البقرة)، وكذلك سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) ومسالمتهم مع ألدّ أعدائهم وعفوهم عنهم، لهي خير دليل على ذلك.
وقد كُتب الكثير حول هذا الموضوع ، ولا نريد تكرار ما أُثبت سلفًا ، ولكن الذي نريد أن نؤكده هنا ، هو أن جميع حروب النبي (صلى الله عليه وآله) التي خاضها كانت حروبًا دفاعية مضطرًا إليها ، وليست هجومية، بما فيها معركة بدر الكبرى التي هي موضع النقاش والاختلاف والتي نعيش في أجواء ذكراها.
خطأ شائع:
دأب كثير من الكتّاب المنصفين، وصار شبه اتفاق بينهم أن جميع حروب النبي(صلى الله عليه وآله) وغزواته التي خاضها في حياته والبالغة ثلاثة وثمانين غزوة ، كلها كانت حروبًا دفاعيةـ والحرب الدفاعية تعد حربًا مشروعة في جميع الأعراف ـ ماعدا معركة بدر الكبرى كانت هجومية ـ هكذا يقولون ـ، ثم يسردون كيفية تعرض النبي(صلى الله عليه وآله) لقافلة قريش القادمة من الشام والتي كانت بقيادة أبي سفيان، وعلى إثر ذلك التعرض حدثت المعركة، فكانت المعركة الهجومية الوحيدة ـ حسب اعتقادهم ـ. وهذا وَهْمٌ ولبسٌ كبير وخطأ غير مقصود، ولأجل الوقوف على الحقيقة، سنعرض الأمر من جانبيه الواقعي والمنطقي.
1- على الصعيد الواقعي
فعلى صعيد الواقع ومجريات الأحداث، لابد لنا أن نعلم: بأن النبي(صلى الله عليه وآله) كان له مطلب واحد منذ أن كان في مكة وحتى بعد هجرته إلى المدينة، وهو أن تخلي قريش بينه وبين العرب، وأن تتوقف عن استغلال نفوذها عند القبائل العربية لصدهم عنه، وأن تتوقف عن دعاياتها الكاذبة ضده وضد دينه، وأن تعترف بوجوده وبحقه باستقطاب الناس حوله وحول دعوته.
ولقد عبر عن هذا المطلب أحد أكبر زعمائها (عتبة بن ربيعة) حيث خاطب زعماء قريش قبل نشوب القتال في بدر قائلًا: (… فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب)(1) ـ كما سيمر علينا ـ وقريش تعلم علم اليقين أن محمدًا لا يُكره أحدًا على الدخول في دينه، ودين محمد لا يبيح الإكراه وهو قائم على القناعة، (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 265) فجزء كبير من شعب المدينة وما حولها، ما زال على دين اليهودية، وهذه صحيفة النبي(صلى الله عليه وآله) لأهل المدينة بما فيهم اليهود خير شاهد (…. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم)(2).
فاليهود يعيشون بسلام مع المسلمين في ذلك الوقت قبل أن يخونوا المسلمين ويتآمروا عليهم، ـ فاضطر النبي(صلى الله عليه وآله) إلى حربهم أو أن يُسلموا أو يدفعوا الجزيةـ، وزعامة قريش على علم بذلك، وعلى علم بما يطلبه النبي(صلى الله عليه وآله) منها، وهي تعرف قلبه الكبير، ونفسه العالية، فلا خوف من عقابه لها على عذابها له ولأتباعه، قبل هجرتهم إلى يثرب، وبالتالي فليس كثيرًا عليها أن تجيب مطلبه هذا.
فاليهود يستقطبون الناس لدينهم ولا تعترضهم قريش، والنصارى يفعلون ذلك، وعبدة الأصنام يتمتعون بالحقوق ذاتها، وقريش لا تعترضهم، ولا تضع أمامهم أي عائق، وتخلي بينهم جميعًا وبين العرب، فلماذا لا تعامل النبي محمدًا(صلى الله عليه وآله) كما تعامل غيره؟ ولماذا لا تخلي بينه وبين العرب، كما خلت بين أصحاب الديانات وبين العرب؟
ولكنَّ قريشًا رفضت مطلب النبي(صلى الله عليه وآله) رفضًا مطلقًا، وأصرت على ملاحقتها له وعلى إجهاض دينه، وإبطال نبوته والقضاء عليه إن استطاعت، لأنها مسكونة بالحسد لرسول الله محمد بن عبد الله(صلى الله عليه وآله) ولأهل بيته (عليهم السلام)!، مستغلة بذلك قدوم العرب لحج البيت أو لأداء العمرة، فمحمد(صلى الله عليه وآله) مشفق وناصح لخلق الله، ويكره سفك الدم وقتل النفس التي حرم الله، فما هي الطريقة المثلى التي تحقق مطلبه دون سفك دم، ودون قتال؟
المناورة:
مكة التي تسكنها قريش (وادٍ غير ذي زرع)، وحياة سكانها تعتمد بالدرجة الأولى على التجارة، فهي عصب الحياة في مكة، فإذا اقتنعت زعامة قريش أن قوافلها إلى بلاد الشام أصبحت في خطر وتحت رحمة النبي(صلى الله عليه وآله)، فالعقل والمنطق يفرضان عليها أن تتفاوض معه، لرفع الخطر عن طرق تجارتها إلى بلاد الشام، والنبي(صلى الله عليه وآله) لا يطمع بالكثير، فهو يريد أن تعترف به قريش كما اعترفت بغيره، وأن تخلي بينه وبين العرب.
ورسول الله(صلى الله عليه وآله) أولى بذلك للرحم والقربى، وبالمقابل فإن محمدًا لن يعترض طرق تجارتها إلى بلاد الشام. هذا هو أسهل الحلول لتجنب استمرار حالة المواجهة بينها وبين النبي(صلى الله عليه وآله)، ومن الخير لها أن تفاوضه .
وقد أرسل إليهم سبع إشارات خلال أحد عشر شهرًا، إشارات توحي لهم بتمكنه من التعرض لقوافلهم وذلك من خلال بعثه لسرايا تستعرض أمام قوافلهم، كاستعراض للقوة، مرة بقيادته ومرة بقيادة حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث وأخرى بقيادة عبد الله بن جحش أو سعد بن أبي وقاص وغيرهم،
وكل تلك السرايا قبل أن يؤمر النبي(صلى الله عليه وآله) بالقتال،.. ولكن قريشًا مضت بتجاهلها للرسول، تأبى مفاوضته أو التحدث معه بأي شكل من الأشكال. ولم ير منهم إلا الجفاء والعجرفة والكبرياء والاستهانة والتجاهل وعدم الاكتراث به. في المرة الثامنة خرج النبي(صلى الله عليه وآله) مع أصحابه لاعتراض القافلة القادمة من الشام والتي كانت بقيادة أبي سفيان، الذي علم باستعدادات المسلمين للتعرض لقافلته،
فأرسل إلى قريش يستنجدهم لإنقاذ أموالهم التي في القافلة فصاح مناديه في مكة: (يا آل غالب، يا آل غالب، اللطيمة اللطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا، وما أراكم تدركون، فإن محمدًا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم التي فيها خزائنكم! . فتصايح الناس بمكة وتهيؤوا للخروج)(3)، (ولم يتخلف من أشرافهم أحد)(4)
الإصرار على الحرب
ثم غيَّر أبو سفيان مسير قافلته إلى محاذاة البحر، وقد نجت القافلة بالفعل، إلا أن قريشًا قد خرجت لحرب النبي(صلى الله عليه وآله) انتقامًا وحقدًا منها للنبي(صلى الله عليه وآله) ووأداً لدينه بعد فشل محاولاتها من إجهاضه في مكة، واتخذت من اعتراضه للقافلة ذريعة لتأليب أهل مكة عليه، ولما وصل أبو سفيان إلى مكة مع قافلته دون ضرر، أرسل إلى الجيش الخارج لملاقاة النبي(صلى الله عليه وآله) رسالة جاء فيها: (إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا، فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا)(5).
رسالة سلام..
ولكن ولما أفلتت القافلة، أنزل الله سبحانه:
(وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) (الأنفال: 61)(6)، فبعث إليهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) مبعوثًا يحمل رسالة منه جاء فيها: (يا معشر قريش، ما أحد من العرب أبغض إليَّ ممن بدأ بكم، خلّوني والعرب ، فإن أكُ صادقًا فأنتم أعلى بي عينًا، وإن أكُ كاذبًا كفتكم ذؤبان العرب أمري، فارجعوا)(7). (وكأنه يقول لهم أنتم قومي وعشيرتي وأبغض شيء لي أن يحاربكم أحد أو أن أبدأ بحربكم ـ رغم ما قاسى منهم ـ فاتركوني وشأني مع العرب،فإن كنت صادقًا فيما أدعي فأنتم أولى بالفخر بي وأرفع لرؤوسكم بين العرب، لأني ابنكم، وإن كنت كاذبًا أهلكتني قبائل العرب،وكفتكم أمري).
فقال عتبة بن ربيعة: ما رد هذا قوم قط فأفلحوا، ثم ركب جملًا له أحمر وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال، فنظر إليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: إن يكُ عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر، وإن يطيعوه يرشدوا، وخطب عتبة فقال في خطبته: (يا معاشر قريش أطيعوني اليوم، واعصوني الدهر، إن محمدًا له إلٌّ وذمة، وهو ابن عمكم فخلوه والعرب فإن يكُ صادقًا فأنتم أعلى عينًا به، وإن يك كاذبًا كفتكم ذؤبان العرب أمره)(8)
وقال أيضًا: (يا قوم أعصبوها برأسي وقولوا جبن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم) وزاد البيهقي، (يا قوم إني أرى أقوامًا مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير)(9). (فلما سمع أبو جهل ذلك غاظه وقال: يا عتبة.. جبنت.. وتأمر الناس بالرجوع، وقد رأينا ثأرنا بأعيننا!. فنزل عتبة عن جمله وحمل على أبي جهل وهو على فرسه فعرقب فرسه(10) وأخذ بشعره وقال : أمثلي يجبن؟! وستعلم قريش اليوم أيُّنا ألأَم وأجبن؟ وأيُّنا المفسد لقومه! لا يمشي إلى الموت عيانًا إلا أنا وأنت! ثم أخذ يجره بشعره! فاجتمع الناس يقولون : يا أبا الوليد! الله الله! لا تفت في أعضاد الناس تنهى عن شيء وتكون أوله . حتى خلصوا أبا جهل من يده)(11).
(ولما أصبح رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم بدر عبأ أصحابه فكان في عسكره فَرَسان، وسبعون جملًا كانوا يتعاقبون عليها، وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب(عليه السلام) ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون على جمل لمرثد بن أبي مرثد، وكان في عسكر قريش أربعمائة فرس، فلما نظرت قريش إلى قلة أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال أبو جهل :
ما هم إلا أكلة رأس، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذًا باليد)(12).
ولما نزلوا للمبارزة وكان عتبة أول من برز ، قال للمبارزين من المسلمين : (لعن الله من أوقفنا وإياكم هذا الموقف)(13) و هنا لابد لي أن أسجل كلمة، من أن عتبة بن ربيعة كان رجلًا عاقلًا حكيمًا وله بُعد نظر بالأمور، رغم ما يحمل من أفكار العصبية الجاهلية.
النصر المؤزر
وبدأ النزال بين الطرفين، وكانت النتيجة أن قتل عتبة وشيبة والوليد بن عتبة من المشركين وأصيب عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب إصابة بالغة، استشهد على إثرها، وكان أول شهيد من أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله) .
ثم قامت قريش بهجوم شامل فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادَّك وتكذّب رسولك، اللّهمّ فنصرك الذي وعدتني)(14) (اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض)(15)، ثم نظر(صلى الله عليه وآله) وإذا به يقول: (هذا جبرائيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين)(16)، (وقد نصر الله المسلمين على عدوهم فهُزموا وكان عدد قتلى المشركين سبعين رجلًا، كما أسر المسلمون سبعين من الكفار، وعدد شهداء المسلمين أربعة عشر شهيدًا)(17).
فالحمد لله ناصر المؤمنين ومخزي الكافرين. (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران: 123)
2- على الصعيد المنطقي
أـ أكد كل المؤرخين والكتاب المنصفين من جميع الاتجاهات الدينية والفكرية، أن النبي الأكرم محمد(صلى الله عليه وآله) كان نبي الرحمة والسلام، ويحمل رسالة السلام لجميع الشعوب في الأرض، فهل من المنطق لداعية السلام أن يبدأ دعوته ونشر رسالته بشن حرب هجومية؟ وعلى مّنْ؟ على عشيرته وقبيلته وأبناء جلدته؟ فكيف بالأباعد والأغراب من الأمم والشعوب؟ وكيف يتسنى له دعوة تلك الشعوب إلى دين الإسلام؟ وكيف يثبت للعالم أن رسالته رسالة سلام، وهو يبدأ مسيرته بحرب؟ إلا أن يكون مضطرًا إليها ومجبرًا عليها.
ب ـ وهل أن من يريد أن يربح حربًا وينتصر، ليثبت وجوده ويكسر شوكة أعدائه وينتقم منهم ، يأتي بــ (313) مقاتل مقابل (950) أي ثلث جيش العدو؟ أو يأتي بعدة حربية أو تموينية لا تصل في أعلى الروايات إلى عُشر ما يمتلكه أعداؤه؟
أ فمثل هذا ينوي حقًّا شن هجوم على أعدائه ؟ هذا أيضًا خلاف للعقل والمنطق .
ج ـ دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) حين شنت قريش هجومها على المسلمين حيث يقول: (اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها….) وكلمة (أقبلت) تدل على أن قريش هي صاحبة المبادرة للهجوم عليه وليس العكس!.
وكذلك دعاؤه (اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض)، تدل على طلب النجدة والنصرة من الله سبحانه على العدو المعتدي الغاشم.
أفبعد كل هذا تُعد معركة بدر معركة هجومية؟ كلا، بل هي حرب دفاعية كباقي حروبه التي خاضها ضد أعدائه، وأُولها وأهمها ( معركة بدر الكبرى).
نشرت في العدد 64