لا يوجد تعريف متسالم عليه للحداثة، ذلك لأن موضوعها نفسه أغراب وغموض ولكن السمة الغالبة فيها أنها مذهب أدبي أو نظرية فكرية تدعو إلى التمرد على الواقع، والانقلاب على القديم الموروث بكل جوانبه ومجالاته(1).
فهي:(انقلاب على الموروث بمختلف اتجاهاته ومناحيه، وهي تتيح للقارئ أن يتعامل مع النصوص بحرية سواء كانت مقدسة أو بشرية، لهذا فأن الفيلسوف الألماني (كانت) الذي يعد من آباء الحداثة يؤكد على أن الحرية هي لازمة الحداثة وشرطها، بمعنى أن العقل يجب أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل)(2). (محمد مصطفى هدارة )
وما يعنينا من مفهوم الحداثة هو محاولات إسقاط متبنياتها على فهم القرآن الكريم، انطلاقاً من هذه الرؤية الغربية التي تدعو للتحرر من سمة المقدس والتعاطي مع النصوص جميعها نظرة استقالالية مجردة عن القدسية، هذه النزعة التي أخذت تترعرع في البيئة الإسلامية وتنمو على أيدي عدد من الباحثين المسلمين الذين تأثروا بها، فانعكست على تعابيرهم الاصطلاحية، فأطلقوا على القرآن الكريم تسميات ومصطلحات تتواءم مع مسلكهم الحداثي، فسموه بالقراءة الحديثة أو القراءة الجديدة، ودعوا إلى تجديد قراءة التراث وتقييمه على ضوء المنهج النقدي غير المقيد. لذا (فالحداثة ليس لها أصول تاريخية أو جذور معرفية داخل التربة الإسلامية، وإنما هي نتيجة جلبت من أرضها ومناخها الخاص وأريد استنباتها في أرض ومناخ مغايرين)(3).
ومن أهم العناوين التي نلحظها في قراءتنا لمظاهر الحداثة في رؤيتها وموقفها تجاه القرآن الكريم ما يأتي:
1ـ مصطلحات الحداثيين وتسمياتهم للقرآن الكريم:
سلك الحداثيون مسلكاً مغايرًا لما أطلقه القرآن الكريم على نفسه من أسماء، وتبعهم المسلمون في تعاطيهم المصطلحي معه، فخالفوا إلى حد ما التأصيل الإسلامي للمصطلح ودلالاته اللفظية والتعبيرية المأخوذة من القرآن، فهو (القرآن العظيم، والقرآن الحكيم، والقرآن المجيد، والكتاب، وغير ذلك من الأسماء التي ذكرها القرآن الكريم نفسه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)، وقوله تعالى: (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)، وقوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)، بيد أنهم جاؤوا بمصطلحات أخرى تحاكي وتتبع مصطلحات المفكرين الغربيين الذين أسقطوا مفاهيمهم وتسمياتهم على النص التوراتي والإنجيلي، وقرأوه وفق منهجهم النقدي، وابتدعوها على ضوء القراءة الحداثية التي اعتمدوها، والتي تساوي بين المقدس وغير المقدس، فاقتفى الحداثيون من المسلمين آثار أولئك الغربيين، وأسقطوا مصطلحات مشابهة لما أطلقه أولئك على كتبهم الدينية، فعبروا عن القرآن الكريم بالمدونة القرآنية، والمدونة النصية القرآنية، والمدونة الرسمية، والنص الرسمي، كما أنهم سموا الآيات القرآنية مقطعاً، أو وحدات نصية، وعبروا عن الآية بأنها وحدة نصية، وذهبوا إلى تسمية الآية بالمنطوقة اللغوية)(4).
2ـ تجويز النقد على القرآن الكريم:
ذهب الحداثيون إلى أن القرآن قابل للنقد، بل إن النقد على القرآن لازم محصلته التغيير والتطوير، يقول أحدهم: (يرى الخطاب العلماني أن نقد القرآن من المناطق المحرمة في فكرنا مع أن هذا النقد ضروري ولا بد منه كي يحافظ الإنسان على تماسكه المنهجي أو العقلي)(5) وقد تطور الأوربيون لأنهم أخضعوا نصوصهم المقدسة للنقد(6)(7).
ويقول كبيرهم : (عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن)(8).
ولكن الحداثيين يتحدثون في الظاهر عن النقد المؤدي للتطوير والثورة الفكرية، ليسلكوا مسلكاً آخر في حقيقة هذا النقد يقترب مما سلكه الأولون، وهدفوا إليه وعمدوا إلى محاولات لنزع القدسية عنه، فوصفوا النبي بأنه شاعر، وأنه يهجر، ونقل القرآن الكريم أقوالهم فقال: ( بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ)( الأنبياء:5)، كما أنهم عمدوا للتشويش على القرآن والضجيج إذ ذكر القرآن واقعهم هذا، في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)( فصلت: 10).
من هنا يمكن أن تعد النزعة الحداثية النقدية لونًا آخر من اللغو في القرآن الكريم، لأن المنحى النقدي الذي يريدونه والنتائج التي يبتغون الوصول إليها يجب أن لا تلتقي مع النتائج التي يريدها القرآن، فهم لا يعدون النقد الذي ينسجم مع الرؤية القرآنية نقداً إيجابياً ما دام لا يتناقض مع القرآن ولا يخالفه، فالنقد بالمفهوم العلماني يجب أن يخرج بنتائج مناقضة للقرآن ومضادة لتعاليمه، فالنقد الذي يرسخ المعاني القرآنية ويؤكدها هو نقدي تقليدي أيديولوجي تبجيلي، أما النقد الذي يرفض بعض العقائد القرآنية أو يسخر منها أو يستهزئ بالقرآن فهو الذي يسمى نقداً تنويرياً(9).
وعلى ضوء هذا يتجلى أن قيمة النقد العلمي عندهم تتجسد في إتيانه بنتائج مناهضة للقرآن الكريم، وهذه النتائج من شأنها بنظرهم أن تهدي الأمة إلى التطور، كما أوصل نقد الكتب المقدسة عند الأوربيين وقادها إلى النهضة والتنوير، وكأن القرآن الكريم في نظرهم عامل تأخير وتلكؤ في حركة الأمة.
وهذا يكشف عن تهافت هؤلاء على المناهج الفكرية المتبعة في المجتمع الغربي وما توصلوا إليه من علوم ونظريات تجاه واقعهم الفكري والاجتماعي، فاندفعوا لإسقاط تلك المناهج والأفكار على القرآن الكريم، ليعيدوا إنتاج نفس النتائج التي توصل إليها علماء الغرب في قراءتهم التوراة والإنجيل، وهم بذلك يتجاهلون حقيقة أساسية هي أنه ليس كل ما ينسجم مع التفكير الغربي ويصلح التعامل به مع موروثهم يصلح لنا وينسجم مع رؤيتنا تجاه القرآن الكريم، لوجود فرق جوهري، هو أن كتبهم منزوعة القدسية، كونها إنتاجاً بشرياً قابلاً للنقد، في حين أن القرآن الكريم كلام الله الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ومن هنا وقع هؤلاء في خطأ وخلط كبير بتقليد ما هو بشري مع ما هو إلهي مقدس.
3ـ تاريخية القرآن الكريم:
التاريخية: هي إخضاع الوجود بما فيه لرؤية مادية ومكانية قائمة على الحتمية والنسبة والصيرورة (10).
كما أن القول بتاريخية نص ما يعني ربطه بحدود الزمان والمكان الذي ظهر فيهما، وعده نتاجاً للأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية(11).
والتاريخية التي يعنون بها في دراستهم للقرآن ووصفه بها هي إخضاع القرآن الكريم لأثر الزمان والمكان والمخاطب مطلقاً)، أي إنهم يعمدون إلى جعل القرآن خاضعاً للواقع الذي جاء فيه والبيئة التي نزل فيها وليد اللحظة التاريخية والظرف المحيط، إذ إنه ينفعل مع هذه الظروف ويتأثر بها ويتماشى معها فيقول قائلهم: (أريد لقراءتي في أن نطرح مشكلة لم تطرح عملياً قط بهذا الشكل من قبل الفكر الإسلامي ألا وهي تاريخية القرآن و تاريخية ارتباطه بلحظة زمنية تاريخية معينة) (12).
فهو بذلك يريد أن يتحرك بالفكر الإسلامي إلى ساحة تقترب من الفكر الغربي إذ إنه يريد أن يلبس الفكر الإسلامي بلباس الفكر الغربي الذي لا ينظر إلى النص على أنه نص مقدس وأنه مرتبط باللحظة الزمنية وبالرقعة المكانية المحدودة.
ثم يأتي من يتحرك في هذه المسافة أكثر حين يقرر أن القرآن نتاج ظروف بيئية أثرت في بلورته، فيقول (البحث التاريخي ثبت لنا بأن القرآن مرتبط بظروف عصره وبيئته)(13) أو (أن التاريخية المتعلقة بالنص تعني ارتباطيه باللحظة التاريخية التي صدر فيها)(14).
وهو بذلك يكون مقيّداً بتلك اللحظة الزمنية وتلك الرقعة الجغرافية فيرى (أن النص القرآني وإن كان مفهومًا ذا صلة إلهية مطلقة غير بشرية فإنه يمثل خطاباً نسبياً موجهاً للبشر أو بتعبير أدق لبشر ينتمون إلى شعب معين وزمن تاريخي معين وحقل جغرافي معين)(15).
وهناك منحىً أكثر جرأة في الكشف عن معتقداته تجاه القرآن الكريم وتأثره بالظروف الاجتماعية إذ يقول: (النص يعفو متى وجب، ويأمر بالقتل متى استقام له الأمر)(16) ويجاريه من يذهب إلى أبعد منها حين يعتقد أن القرآن الكريم ينزل بحسب أهواء الصحابة وحاجاتهم وطلباتهم فيقول: (عندما تتأزم المشكلات يقع كبراء الصحابة في ورطة يسعفهم (محمد) بالحل بأن يتلو عليهم آيات من القرآن تأتي بالفرج بعد الشدة)(17).
هذه بعض من متبنيات الحداثيين التي أرادوا أن يؤدلجوا المجتمع الإسلامي عليها وهي تحتاج إلى دراسة متخصصة أكثر عمقاً وتناولًا من هذه الإشارات التي أوردناها في البحث لكي تقف الأمة الإسلامية وقفة جادة لحفظ كتابها الكريم من محاولات اللغو بعناوين مختلفة أكثر قدرة على التمويه والتضليل.
نشرت في العدد المزدوج 57-58
(1) نظرية تقويم الحداثة/د.عدنان علي رضا النحوي ص26.
(2) مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، بحث للكاتب الحداثي:علي وطفة ص11 مجلة فكر ونقد/ العدد (34).
(3) الحداثيون العرب في العقود الثلاثة الأخيرة والقرآن الكريم/د. الجيلاني مفتاح/ ص20.
(4) انظر: إشكاليات القراءة/جورج طرابيشي، ص62 . والقرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني/محمد أركون، ص 39و 155 . والوحي والقرآن والنبوة/ هشام جعيط 61و 49.
(5) انظر: النص القرآني/طيب تزيني ص 352.
(6) سلطة النص/عبد الهادي عبد الرحمن ص15.
(7) العلمانيون والقرآن /د. أحمد إدريس الطعان ص756.
(8) مجلة الثقافة الجديدة /محمد أركون،، العدد 26 27، 1983.
(9) العلمانيون والقرآن /د. أحمد إدريس الطعان ص766 .
(10) العلمانيون والقرآن /د. أحمد إدريس الطعان /تاريخية النص، ص332.
(11) انظر: القرآن الكريم والقراءة الحداثية دراسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون / د. الحسن العباقي، ص48
(12) العلمانيون والقرآن /د. أحمد إدريس الطعان /تاريخية النص، ص296
(13) ثقافتنا في ضوء التاريخ /عبد الله العروي، ص50.
(14) انظر: النص السلطة الحقيقة /نصر حامد أبو زيد، ص71، 6.
(15) النص القرآني/طيب تزيني ص381.
(16) تاريخية التفسير القرآني /نائلة السليني، ص47.
(17) مجتمع يثرب/ خليل عبد الكريم، ص73.