Take a fresh look at your lifestyle.

النجف الأشرف الوعي المبكر للإصلاح والتحول في الدرس اللغوي

0 769

       في هذه المدينة التي تنام وتستيقظ في أهداب الصحراء فتلتهب كلهيب هجيرها، وتصفو كصفاء سمائها. في هذه المدينة التي بقيت إشارة مضيئة في وسط موج ظلمات العصور المتأخرة فبقيت للعربية لساناً وقلباً خافقاً احتفظ بصفائها في زمن كادت العربية تضيع فيه بين ليل الجهل المطبق وسيف السلطان العثماني. فمعاهدها كانت منارات حافظت على العربية في موجة التتريك، كما كان الأزهر الشريف في مصر وجامعة القرويين في المغرب وجامع الزيتونة في تونس.
في هذه المدينة التي ورثت ثقافتين: ثقافة مملكة الحيرة بما فيها من حضارة وشعر، وثقافة الكوفة عاصمة الخلافة العلوية بما فيها من فقه وحديث وعلوم قرآن ولغة وشعر أيضاً.
في هذه المدينة (النجف) تتابع أجيال من العلماء والشعراء كان لهم الأثر العظيم في حياتها ونهضتها العلمية والأدبية، كما كان لها أثرها في العالم الإسلامي عامة.
سينحصر البحث في أجيال ما بعد النهضة، ثم فيما قدمته النجف من جهود لغوية ساهمت في تطوير الدراسات كما شاركت في الرؤية المنهجية لدراسة النحو الخاص على يد كبير نحويي عصرنا العلامة الدكتور مهدي المخزومي.
لقد استقبل القرن العشرون النجف بمجموعة صراعات: منها العسكري يتمثل بالغزو البريطاني الذي بسط نفوذه بدلًا من السيطرة العثمانية، وكان رفض النجف لكليهما. وبعد بسط الإنجليز نفوذهم قامت ثورات وحركات مقاومة، وثورة العشرين معروفة كان مركزها النجف وكربلاء، وكانت أصوات التحرير والإصلاح تعلو من رجال الدين والسياسيين والأدباء فيها. فمنذ السيد محمد سعيد الحبوبي الذي استشهد في أثناء مقاومته الغزاة الانجليز سنة 1916 ثم الشيخ جواد الشبيبي وولداه الشيخ محمد رضا والشيخ باقر، والشاعر علي الشرقي كانت دعوتهم للإصلاح السياسي والتطوير الاجتماعي بالشعر والمشاركة بالأحداث، وهكذا تتابعت الأجيال أحدها يكمل الآخر والصراع بين الأجيال سنة حياة لدى الأمم، حتى إذا وصلنا إلى ثلاثينيات القرن وأربعينيات نجد ملامح الصراع الثقافي والأدبي والاجتماعي والدعوة للتحول والتغيير تعلو في المناسبات. فأسست جمعية الرابطة الأدبية (1315هـ 1932م)، كما أسست جمعية منتدى النشر سنة (1354هـ 1935م) وكل مؤسسة يقف معها رجال دعوة الإصلاح، فكان على رأس جمعية المنتدى الشيخ محمد رضا المظفر والسيد محمد تقي الحكيم وجماعة من العلماء، وقد انطلقت منها دعوة للتجديد وخصوصاً تجديد مناهج الدرس في الفقه والأصول والمنطق وغيرها، وكان مثل هذه الدعوة تعد كفرًا لدى السلفيين.
أما الرابطة الأدبية فكان طابعها الأدب والانفتاح على الجديد من مظاهر الحضارة، وكان في مقدمة مؤسسيها وعميدها الشاعر الشيخ محمد علي اليعقوبي، والشاعر الشيخ صالح الجعفري، والشاعر الشيخ عبد الرزاق محي الدين، وكان لكل مؤسسة مواسمها الثقافية والأدبية.
كان الشعر والخطب هما الوسيلة الإعلامية في الدعوة للتجديد، فبعد الشبيبي ظهر جيل الجواهري وصالح الجعفري وأحمد الصافي النجفي ومحمود الحبوبي ومرتضى فرج الله، ثم جيل مصطفى جمال الدين وصالح الظالمي والسيد محمد بحر العلوم وعبد الصاحب البرقعاوي، وتتابعت الأجيال حتى جيل الشباب المعاصر.
أما في مجال اللغة، فقد ورثت جامعة النجف مناهج دراستها في الفقه والأصول وغيرها، وعلوم العربية النحو خاصة كانت جزءاً من مناهج دراسة الحوزة العلمية، وأهم كتبها ألفية ابن مالك وقطر الندى والآجرومية وبعض شروحها (والفوائد الضيائية) لعبد الرحمن الجامي، وهو شرح لكافية ابن الحاجب في النحو، وما كان يعطيه الشيوخ من شروح وتعليقات، ومن المعلوم أن مفسر القرآن الكريم والفقيه والأصولي ينبغي له أن يتقن علوم العربية لأنها أداته في الاستنباط والوصول إلى المعنى وهو الغاية في الحكم الفقهي والأصولي.
لقد أخذت المدارس الحديثة والمعاهد ودور التعليم العالية تظهر كلما اقتربنا من النصف الثاني من القرن العشرين، وأخذت جهود جمعية منتدى النشر ومدارسها تتسع حتى توجهت بفتح كلية الفقه بعد ثورة تموز سنة 1958م، كما كان وصول أخبار المنجزات الحضارية عن طريق الصحف والمجلات من سوريا ومصر إلى النجف وإطلاع المثقفين والداعين إلى التجديد منذ ثلاثينيات القرن وما قبلها وما بعدها. كل ذلك كان ذا أثر في تطور الحياة الثقافية وقد أصاب الدرس اللغوي شيء من التغيير في معاهد النجف وأوساطه العلمية، وبدأت ملامح الوعي للتطور بظهور اتجاهين في الدرس اللغوي والنحوي خاصة:
أحدها: هو استمرار للدرس التقليدي بمنهجه القديم، ولما وصلت كتب مؤلفة ميسرة من مصر في النحو مثل كتاب (النحو الواضح) لعلي الجارم ومصطفى أمين، وكذا البلاغة الواضحة للمدارس الثانوية ودرست في العراق. كان لذلك أثر في تأليف كتب في النحو للمدارس المتوسطة والثانوية على غرارها. وأهم تجربة في هذا المجال ما ألفه الشيخ مهدي مطر في النحو كتاب (دراسات في قواعد اللغة العربية) بأربعة أجزاء وكان كتاباً منهجياً مقرراً لطلبة كلية الفقه، وهو شرح مبسط لقواعد النحو العربي أسهل من ألفية ابن مالك ويشمل قواعد العربية والصرف عامة.
وكان من هذا الطراز كتاب (المعجب) للسيد رؤوف جمال الدين وهو كتاب في قواعد العربية شرحها على غرار شرح الألفية. وكذا كتابه (مناقشات مع الدكتور مصطفى جواد) وقد رد عليه الدكتور مصطفى جواد بكتاب ثمين هو (دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم) كان حواراً جاداً ومفيداً.
ومن الجدير بالذكر أن الدكتور مصطفى جواد أهم من دعا إلى إصلاح العربية وقواعدها في وقت مبكر منذ أن نشر مقالته (كيفية إصلاح العربية) سنة 1931(1) ثم مقالته (مشكلات اللغة العربية)(2) ثم بحوثه في سلامة العربية(3).
إن الاتجاه التقليدي في تدريس العربية كان شائعاً لدى مدرسي العربية على مختلف مراحل الدراسة، ومن أدركته منهم الشيخ يحيى الجواهري مدرس إعدادية النجف والأستاذ الشاعر صالح الجعفري والشيخ عبد الله الشرقي وآخرون، ولكل منهم طريقته في التدريس، فالجعفري كان أكثرهم تمكناً في إيصال مادة النحو، لأنه أديب شاعر، أما الأستاذ الجواهري فكانت طريقته في التدريس جافة تقليدية فيها شيء من تعقيد الألفية التي كان يحفظها ويفتخر بمعرفته إياها، ويمكن أن نضع مدرسي مادة النحو المعاصرين في هذا الباب.
إن الأساتذة في كلية الفقه الذين كانوا دعاة تحديث مناهج الفقه والأصول والمنطق وفي مقدمتهم الشيخ المظفر قد طبقوا دعوتهم في وضع كتب في هذه العلوم بمناهج جديدة لطلبة الكلية، وكان أثر ذلك في من تخرج في دوراتها الأولى ومنهم من كان يشارك أساتذته قبل أجازة الكلية مثل السيد مصطفى جمال الدين الذي وضع كتاباً بمنهج جديد في العروض هو (الإيقاع في الشعر العربي من البيت إلى التفعيلة)، كما كان له جهد في النحو في رسالته للدكتوراه (البحث النحوي عند الأصوليين)، بإشراف العلامة الدكتور مهدي المخزومي صاحب نظرية في تيسير النحو، وكذا ما كان لدى الدكتور صالح الظالمي في رسالته للدكتوراه أيضاً (تطور الجملة العربية بين النحويين والأصوليين) بإشراف الدكتور عبد الحسين الفتلي رحمه الله صاحب التجربة الطويلة في تدريس النحو، وكذلك الدكتور عبد الهادي الفضلي وجهوده في النحو والقراءات القرآنية وتأليفه فيها، وجهود الأستاذ إبراهيم الوائلي في تدريس اللغويات في جامعة بغداد.
أما الاتجاه الآخر في الدرس النحوي فهو الدعوة إلى إصلاح منهج النحو لا الكتاب فقط، وقد اتصلت هذه الدعوة في مبدئها بدعوة ابن مضاء القرطبي المتوفى 592هـ في كتابه (الرد على النحاة) التي دعا فيها إلى إسقاط ما لا صلة له بالدرس اللغوي كفكرة العامل والمعمول التي شغلت النحويين طويلاً، كما دعا إلى إسقاط القياس المنطقي وإقامة النحو على أسس جديدة تتصل بمنابعه الأولى. وأول كتاب صدر في العصر الحديث سنة 1937م في مصر ينادي بتيسير المنهج النحوي هو كتاب (إحياء النحو) للأستاذ إبراهيم مصطفى، دعا فيه إلى إقامة النحو على أسس لغوية وإبعاده عن آثار المنطق العقلي، وكان لهذا الكتاب أثر في الأوساط اللغوية فقد أثار حوارات ونقاشات وجدل في مصر ووقف منه أصحاب الثبات في منهجهم موقفاً شديد الرفض والنقد.
وفي بداية الأربعينيات حصل ابن النجف مهدي المخزومي على بعثة إلى القاهرة للحصول على الشهادة الجامعية من (جامعة فؤاد)(القاهرة) وحصل عليها بجدارة، وعاد حاملاً فكرة الدعوة لتحديث الدرس اللغوي التي كان يميل إليها مع المجددين. ثم عاد إلى القاهرة في عام 1951م وحصل على شهادة الماجستير وموضوعه (الخليل بن أحمد الفراهيدي أعماله ومنهجه) بتفوق مع إعجاب أساتذته، وفي مقدمتهم إبراهيم مصطفى صاحب كتاب (إحياء النحو) فكان الانسجام مع تيار التجديد لديه، واستمر في تحصليه على الشهادة العليا (الدكتوراه) فاختار (مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو) بإشراف الأستاذ مصطفى السقا الذي كان معجباً بذكائه وبحوثه، فحصل عليها سنة 1953 وكان قد امتاز بالجد في البحث والتحليل وفي اختيار موضوعه.
وعند عودته إلى بغداد أخذ ينشر أبحاثه ومقالاته مطبّقًا أفكاره في تيسير النحو وإصلاح منهجه، وكان ذلك في تأليفه كتابين: أحدهما (في النحو العربي نقد وتوجيه) عرض في مباحثه أسساً نظرية للدرس النحوي وما ينبغي له أن يكون عليه، بدءاً بتعريفه وظيفة النحوي وانتهاء بدراسته أساليب التعبير التي هي من صميم الدرس النحوي، وكانت كتب النحو تبعدها عن هذا الدرس لتكون في علم المعاني الذي هو قسم من أقسام البلاغة، لكن المخزومي جعل هذا القسم جزءاً مهما في الدرس النحوي كما كان عبد القاهر الجرجاني ينظر إلى معاني النحو أهميتها في فهم الكلام والتراكيب. وعرف فيه النحو بأنه عارضة لغوية يخضع لما تخضع له اللغة من عوامل الحياة والتطور بينما هم يعرفونه بأنه اختلاف حركات الإعراب لاختلاف العوامل.
كما حدّد وظيفة النحوي في تسجيل ملاحظاته ونتائج اختباراته في صورة أصول وقواعد تمليها عليه طبيعة اللغة.
أما تيسير هذا العلم فهو في رأيه ليس اختصاراً ولا حذفاً للشروح والتعليقات كما ذهب إليه أصحاب الاتجاه الأول في التيسير، وإنما هو عرض جديد لموضوعات النحو بيسر. ويسبق ذلك إصلاح شامل لمنهج هذا الدرس وموضوعاته أصولاً ومسائل، وقد حدد موضوعين مهمين ينبغي للدرس النحوي أن يعالجهما وقد أهملهما النحويون:
الأول: الجملة من حيث تأليفها ونظامها ومن حيث أجزاؤها وما يطرأ على أجزائها من تغيير.
الثاني: ما يعرض للجملة من معان عامة تؤديها أدوات التعبير التي تُستخدَم لهذا الغرض كالتوكيد وأدواته والنفي وأدواته والاستفهام وأدواته … إلخ.
على هذه الأسس الواضحة والتفكير البعيد عن التعقيد تستمر مباحثه في الكتاب.
وأما الكتاب الثاني: (في النحو العربي قواعد وتطبيق ـ) فهو الجانب التطبيقي لنظريته في إصلاح النحو، وفيه رسم منهج كتاب جديد للنحو المدرسي جامع لأصوله وأبوابه، وهو خال من النظريات التعسفية المعقدة كنظرية العامل وأثرها في خلق أبواب في النحو تزيد في تعقيده كبابيّ الاشتغال والتنازع وكذا نائب الفاعل وغيرها.
لقد كان لأفكار المخزومي وآرائه في اللغة أثر في الوسط الجامعي وفي دارسي كتبه، لذلك واجه كل دعاة الإصلاح من حقد حساده أشباه الأميين الكارهين للجديد، فقد استعانوا لمحاربته بكل الوسائل غير المشروعة(4).
ولا عجب أن يكون في حياة العلماء الكبار منافسون وحاسدون كما يكون لهم معجبون ومريدون.
لقد كان المخزومي واحداً من الأصوات العالية المؤثرة في القرن العشرين، فالمخزومي في الدرس اللغوي، والجواهري في الشعر، وعلي جواد الطاهر في النقد، وجواد علي في التاريخ، ومصطفى جواد في اللغة والتاريخ، وهلال ناجي في تحقيق التراث.
والنجف مدينة ولود وهي مركز المرجعية والحوزة الكبرى في تخريج العلماء والفقهاء على مدى ألف عام. فإذا أخذنا القرنين الأخيرين فقط فهي قد خرجت علماء وفقهاء ومفسرين قادوا الحركة العلمية في العالم الإسلامي بل وحتى السياسية والاجتماعية.
لقد ظهرت بعد جيل المخزومي في النصف الثاني من القرن في النجف مجموعة من أصحاب الجهود في علوم اللغة والقرآن الكريم والتحقيق، من الأساتذة من تلامذته والمعجبين بعلمه منهم مصطفى جمال الدين وكاتب هذه السطور والدكتور محمد حسين الصغير والدكتور مناف الموسوي والدكتور محمد كاظم البكاء والدكتور عبد الأمير زاهد ومجموعة ممن فيه أمل الظهور بجهوده العلمية، ولجامعة الكوفة دور في إنجاز مجموعة من الرسائل والدراسات اللغوية في حقولها المختلفة الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، فقد أنجزت أطروحة للدكتوراه لأحد طلبة كلية الآداب الدكتور عبد علي ناعور، درست الجهود اللغوية في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان للنجف نصيب وافر فيها وآخر ما وصل إلي من الرسائل المنشورة والمنجزة في الكلية نفسها كتاب (الانسجام الصوتي في النص القرآني)، للدكتور تحسين فاضل عباس تتلوها مطبوعات أخرى.
وللجامعة الإسلامية وغيرها من المؤسسات العلمية دور في تنمية العلم وتوسيع الدرس اللغوي يتضح إن شاء الله بعد أن تظهر ملامحه فيمن يتخرج فيها من الطلبة والباحثين.

نشرت في العدد المزدوج 57-58


(1) انظر مجلة لغة العرب ج2، 1931 لصاحبها أنستاس الكرملي بغداد ص81 94، وقد رد بها على مقالة القس رحماني الموصلي في جريدة العراق في 2 حزيران 1924 وعنوانها “اللغة العربية ووسائط ترقيتها”، وكان فيها مقترحات غير مقبولة مثل: إلغاء المثنى.
(2)مجلة المعلم الجديد العدد 1 سنة 1940 ص98 111 .
(3) مجلة المجمع العلمي العراقي ج1 205ـ 232، ج2 92 119 سنة 1951، 1945 .
(4) أوضحت ذلك في كتابي (المخزومي ونظرية النحو العام)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.