المعروف :الفعل الحسن الذي يتبين حسنه أما بالشرع حسن أو بالعرف والعقلاء حسنه ، وقال ابن منظور: (هو اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة اللّه والتقرّب إليه، والإحسان إلى الناس؛ وكل ما ندَب إليه الشرعُ ونهى عنه من المُحَسَّنات والمُقَبَّحات، وهو من الصفات الغالبة، أَي أَمْرٌ مَعْروف بين الناس إذا رأَوْه لا يُنكرونه، والمعروف النَّصَفةُ وحُسْن الصُّحْبةِ مع الأَهل وغيرهم من الناس والمُنكَر ضدّ ذلك جميعه)(1)
وقد ورد لفظ المعروف في آيات القرآن ما يقرب من أربعين موردًا على اختلاف ألفاظه وسياقه نتابع ذلك حسب المنهج المتبع والخطة للموضوعات الاجتماعية المعاصرة.
إن المتدبر في ظواهر الكتاب وسننه وأحكامه، يجد الاعتناء والاهتمام في العلاقات العائلية والأسرية والاجتماعية،ولابد أن تبتني على أساس قانون المعروف والإحسان والعفو بين الطرفين. وهذا ناتج من الإحساس الفكري بأن منشأ أغلب المشاكل الاجتماعية ناشئ من أسس وأصول عائلية مالية معينة.
وسنقتصر البحث هنا في العلاقة بالمعروف بين الآباء والأبناء والمجتمع ، على أمل أن نفرغ بحثًا خاصًا عن المعروف بين الأزواج.
ـ التعامل مع الوالدين بالمعروف
العلاقة بين الولد وأبويه ،تراعي فيها جوانب عدة منها : دينية بالطاعة والعقوق، الجانب الاجتماعي والمادي والإنساني، فقد وردت مضامين في القرآن تشير بالطاعة والإحسان إلى الوالدين والتعامل بالمعروف معهما.
ومن مصاديق المعروف، الوصية للوالدين، وهي ما ينفذ بعد الموت من إعطاء مال كثير إلى الأبوين –الأم والأب- وإذا لم يوجد واحد منهما فالأقارب والأرحام .
وتكون مصب الوصية بالعدل الذي لا إفراط ولا تفريط به وعدم ترجيح بعض على بعض ولا يجحف ويمنع الورثة ولا يكون قليلًا يوجب الاستخفاف.(2)
قال تعالى : (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)( سورة البقرة:180)
وهناك إضافة مهمة في طاعة الوالدين بالمعروف ،وهو ما فيه طاعة لله ، فإذا كان فيها عصيان لأمر الله فلا يجب الطاعة ولا المعروف فيها .
قال عز وجل : (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(سورة لقمان:15)
اشتراط الصحبة والطاعة والمتابعة للوالدين بحدود ما هو مشروع فإذا تجاوز ذلك فلا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.(3)
وبينت الروايات القول المعروف إلى الأبوين وحدوده:(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) : أي حسنًا غير خشن ، واختلف فيه أيضًا، فقال سعيد بن جبير : أمر الله الولي أن يقول للذي لا يرث من المذكورين قولًا معروفًا ، إذا كانت الورثة صغارًا ، يقول : إن هذا ليتامى صغار ، وليس لكم فيه حق ، ولسنا نملك أن نعطيكم منه .
وقيل : المأمور بذلك الرجل الذي يوصي في ماله ، والقول المعروف أن يدعو لهم بالرزق ، والغنى ، وما أشبه ذلك .
وقيل : الآية في الوصية على أن يوصوا للقرابة ، ويقولوا لغيرهم قولًا معروفًا ، عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وقد دلت الآية على أن الإنسان قد يرزق غيره على معنى التمليك ، فهو حجة على المجبرة .(4)
ويمكن أن تجري الآية بأن يكون من المعروف الإنفاق على الأم عند حاجتها وتشمله الآية (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)(5)
ـ المعاشرة للأخوة والأخوات والأقارب بالمعروف
فقد اتبع القرآن الكريم في التشريعات الإسلامية النافعة في التعامل الاجتماعي في النظام الفردي والجمعي الإنساني، تهذيب الأخلاق ، ونبذ الانتقام والعدوان والتعامل بالحسنى .
فقال تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ…).(البقرة :178)
وهنا الأخوة بمعنى عام إما نسبية أو دينية عامة أو إنسانية خاصة تبتني على قواعد هي :
-العفو عن المسيء والمذنب والعاصي والآيات كثيرة تحث عليه ومضامين مختلفة حسب مواضيعها.
قال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)(الأعراف:199)
قال عز وجل : (…عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)(المائدة :95)
قال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)(الشورى :25)
فهذا العفو الآلهي ليس له حدود ولا مقيد بل شامل لعدة مواضيع متنوعة وذنوب مختلفة ليس هنا محل تفصيله. (6)
ـ المعروف، ضد المنكر ،وكل ما حسن عند العقلاء كما تقدم ولم ينه عنه الشرع وانطبق عليه أحد الأحكام من الوجوب والندب. والمعروف يختلف باختلاف المكان والزمان ويتغير حسب تغير موضوعه.
وفي سياق النص القرآني المذكور الذي ورد بعد الجناية والاعتداء والقصاص وفي مقام أخذ الثأر و الانتقام والبطش بالقاتل ،ورد العفو بالمعروف وهذا أمر حسن محبوب ومرغوب فيه.
بيان تفاصيله :
•لا يرهق بالدية الكبيرة والباهظة جدًا ويعفو عنه.
•ينظره إلى ميسرة مع عسرته ولا يشدد عليه.
•التنازل عنه العرفًا وقانونًا وما إليها .
وأشارت بعض الروايات إلى إيصال المعروف إلى الأخ. روى الكليني بسنده ،عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه قال : (أيما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفًا فقد أوصل ذلك إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)(7) .
فلو تبادل المؤمنين بالمعروف ينال ثواب فعل المعروف إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو فضل عظيم ومهم جدًا.
ـ المعروف بين الأمم والشعوب والدول
نظم قانون المعروف الأفراد والجماعات والدول في الفكر الإسلامي وفي ضوء النصوص من الآيات والروايات الواردة في ذلك.
ويطبق هذا القانون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ويشمل ذلك العلاقات الدولية وهيئة الرقابة الدولية على الأسلحة المدمرة لشعوب فهي عاملة بقانون المعروف.
وتطبق قانون المعروف بينها والانزجار عن إشاعة المنكرات بين الشعوب.
قال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون)(آل عمران :104).
مجموعة في كل مجتمع ودولة تنادي وتعمل بالخير وتأمر بالمعروف الحسن،وتلازم بالنهي عن المنكر والقبيح. والخطاب في النص القرآني ظاهر للجمع والطبيعة ويصدق على الشعوب والأمم.
قال تعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..)(آل عمران:110).
وقال تعالى:(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)(آل عمران:114)
وكانت هذه مهمة الأنبياء والأولياء والمبلغين في تبليغ هذه الواجب بكل مراتبه الثلاثة (بالقلب واللسان واليد).
قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ..)(الأعراف:157)
وآيات أخرى غيرها .
وفي ضوء هذه الآيات الكريمة، يتبين لا بد من وجود جماعة عبر القرآن- أمة- تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتنفذ كل ذلك سلطة ودولة إسلامية محقة في الأرض تعمل على مبدأ وقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وهما أمران مهمان:
ـ دعوى المجتمع والناس إلى الخير والمعروف والأمر به.
ـ النهي عن المنكر.
وهما أمران أساسيان في وظيفة السلطة التنفيذية وفي ربط الأفراد بين وسائط ثلاث وهي طاعة الله والمعروف بين الناس في التعامل وحب الوطن وهما منهج الله في حياة البشر.
والسلطة والدولة التي تأمر وتعمل بهذه القاعدة الثنائية،تكليف صعب لما في الناس من طوائف مختلفة وغير متنجانسة تعيش بين ثنايا المجتمع.(8)
وقال تعالى 🙁 لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:114)
نظم القرآن الكريم نظامًا إسلاميًا سياسيًا منظمًا ومحكمًا، يستند على النهي عن التناجي بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها.
ومن مميزات المجتمع الإسلامي كله أنه مجتمع مفتوح – تبين مشكلاته- والتي هي ليست من الأسرار الدولية ولا الشخصية .فالدولة المسلمة وسلطاتها مجتمع نظيف طلق الأفكار لا يخترقه إلا المتآمرون والمنافقون غالبًا.
إلا أن يجتمع المسلم مع أخيه للحث على جمع الصدقة أو الاهتمام بتقديم المعروف أو الإصلاح بين المتنازعين ولرفع النزاع بين المؤمنين قواعد وأسس حتى توصل إلى مرضاة الله.(9)
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الحج:77 )
فقوله :{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} أمر يشمل كل خير، وقال تعالى: {وأحسِنوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسنين}(البقرة:195)
وقال تعالى : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة :112)
هذه صفات مميزة للجماعة الصالحة في المجتمع الإسلامي،وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في مستويات ثلاث:
ـ المستوى الأول: هو تقرير التوحيد لله تعالى ،وتحقيق دولة الإسلام ،والمجتمع المسلم الذي يؤمن بالدين ويتجنب حكم الطاغوت وعبادة غير الله.
ـ المستوى الثاني: بعد تحكم الدين وإقامة المجتمع المسلم يأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في استقامة المجتمع على الطاعات والمعاصي.وما يتناول من استقامة المجتمع الإسلامي من الداخل وما فيه من انحرافات عن منهج طاعة الله ورسوله وأهل بيته.فلا يبدأ بالأمر والنهي الفرعي قبل الانتهاء من رسم الأسس الأولى في الشريعة الإسلامية المقدسة .
ـ المستوى الثالث ،هو تهذيب النفس الإنسانية للفرد وقدرته على كبح جماح ومشتهيات نفسه الإمارة بالسوء وهو الجهاد الأكبر.
نشرت في العدد المزدوج 57-58
الهوامش
(1) لسان العرب:9/151مادة عرف
(2) انظر : مواهب الرحمن:2/413
(3) وسائل الشيعة :14/26
(4)مجمع البيان :3/24
(5)الخلاف- الطوسي:5/124
(6)مواهب الرحمن:2/395
(7)أصول الكافي :4/29 ح8؛الترديد في الناقل من الراوي، ومن فعل المعروف مع أخيه قد امتثل وصية النبي (ص) بأن يصل أخاه ويبره ولا يقطعه.
(8)ظلال القرآن:3/30
(9)انظر:ظلال القرآن:5/522