لا يخفى على كل ذي عقل راجح أن الإنسان يتكون من جانبين أساسيين هما:( الجسمي أو ما يسمى البايلوجي ، والنفسي أو ما يسمى السيكولوجي ) وكلا الجانبين مهمين في حياة الفرد ونشأته ، فإذا كان الجانب الجسمي مهماً لبقاء الإنسان على قيد الحياة ، فان الجانب النفسي مهماً أيضاً لاستمراره بالحياة وشعوره بالحياة الطيبة السعيدة الهانئة .
ومن البديهي أن تكون مسألة الأمن الاجتماعي باعتبارها حاجة نفسية ملحة ينشدها الفرد في مراحله العمرية كافة منذ ولادته إلى أن يأذن الله برحيله من الدنيا ، حتى أن بعض الأفراد والجماعات يجوبون الأرض شرقاً وغرباً بحثاً عن هذه الصفة وطلباً للأمن والأمان .
وعندما تشرفت البشرية بنزول الرسالة السماوية على نبينا محمد(صلى الله عليه وآله)، أخذت بزمام هذين الجانبين السابقين الذكر على اعتبارهما الأساس لتكوين الإنسان السوي، فالفرد يحيى بالجسد والنفس معا، وإن هناك حاجات جسدية وأُخر نفسية يجب أن توفَر للإنسان طيلة حياته ليعيش هانئاً مستقراً .
ومعلوم أن الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله)خلال مدة رسالته وحكمه الشريف، أرسى قواعد كثيرة صحيحة في بناء المجتمع، أصبحت دليل عمل للقائمين على الانثروبولوجيا الاجتماعية فيما بعد .
وفي المقابل لشخصية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، نجد شخصية الإمام علي(عليه السلام)الذي سار في إمرته للمؤمنين وعند توليه أمور المسلمين بنفس الخطى التي سار عليها أخيه وابن عمه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وعمل جاهدًا على أن لا يحيد ويخرج عن هذه المسارات الصحيحة لبناء المجتمع المسلم الناجح .
فقراءة الامام علي(عليه السلام) للمجتمع قراءة واقعية تتسم بقدرته الفائقة وعمله الدؤوب على خلق حالة الامن الاجتماعي، وعمله الدؤوب على ايجاد التعايش السلمي قبل كل شيء إيماناً منه(عليه السلام) بأن الانسان يتأثر بالعديد من العوامل المحيطة به خلال حياته، والتي اهمها مجتمعه الذي ينتمي اليه والناس الذين يعتاش معهم .
ولا اريد في هذه الكلمات البسيطة أن أذكر شواهد التعايش السلمي عند الامام علي(عليه السلام) بقدر ما أرغب في ايضاح المباديء الأساسية لزرع التعايش السلمي بين أفراد المجتمع الواحد سواء كان مسلماً أم لا ، وقد ركز الامام(عليه السلام)على مجموعة من المبادئ لتحقيق التعايش السلمي في داخل المجتمع الذي يحكمه والتي منها :
1ـ التركيز على بناء المجتمع على وفق أسس التعاون والمحبة والأخوة الدائمة، روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال: ( عليك بإخوان الصدق، فأكثر اكتسابهم، فإنهم عدة عند الرخاء، وجُنة عند البلاء)(1) .
إيماناً منه(عليه السلام) بأن ذلك يعد من أبرز الأسس التي يرتكز عليها المجتمع، وتخلق روح التعاطف والتوادد والرحمة والمحبة بين الناس، فقد لجأ الفكر التربوي عند الامام علي(عليه السلام)، للعمل على إيجاد المجتمع المسلم المتعاون من خلال الإهتمام ببناء الإنسان أينما وجد ، ليتربى على وفق القيم السماوية التي أكدها الله تعالى ، كما في قوله جلَّ وعلا :- (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(المائدة : 2) .
وفي مثل هذه الحالة، لا يحتاج المجتمع إلى أكثر من نسيج يؤمِّن علاقة التعاون، وتوزيع الأعمال بين أعضاء المجتمع ، ويؤمِّن لهم العدالة الإجتماعية ، والحسم ، والقضاء بعدل ، في حالة تصادم المصالح ، والعدوان ، وتوفير التعليمات ، والمجاملات الإنسانية التي تلطف جو التعامل الإنساني (2) .
فالعلاقات الاجتماعية الطيبة هي الكفيلة بأن تجعل المجتمع متماسك ويعيش أواصر اللحمة والتضحية وهي النسيج الرابط فيما بينهم .
وبذلك فإن الصلة والرابط بين الإنسان ، وأخيه الإنسان ، تعمق الشعور بالود ، والتعاطف ، والتقارب ، بين أفراد المجتمع الإسلامي ، ومختلف أفراد بني البشر ، بعيداً عن اللون ، أو الجنس ، أو اللغة ، أو العرق ، قال تعالى :- ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) فكانت علاقات الإمام(عليه السلام)الاجتماعية متينة وطيبة حتى مع الذين يختلفون معه في الدين وفي الفكر حتى ضرب أروع وأجمل صور التوادد والتعاطف الإنساني مع الآخرين الأمر الذي دعاه إلى أن يكفل حقوقهم وامتيازاتهم بغير بخس أو نقص أو منٍّ أو أذىً . 2. العمل بجد وحزم على إشاعة ثقافة المساواة بين الناس وأنه لا توجد إفضلية لشخص على آخر، فرؤيته(عليه السلام)إنه يجب السعي الحثيث لكي تلغي كل عوامل التمايز السطحية التي أوجدها الناس والتي تدفع إلى العلو والفساد داخل المجتمع والإختلاف والنزاع والكراهية والحقد والتي تجعل من بعض الأشخاص ينظرون بأعين الاستصغار والاحتقار للآخرين ظانين أنهم أعلى مرتبة من الآخرين مرتبة منهم .
فكانت القاعدة أساسية في تربية المجتمع المسلم على وفق نظرته الشريفة ، هي إعداد الفرد إعداداً يؤهله أنْ يكون فرداً صالحاً ، وعضواً نافعاً ، وكائناً إجتماعياً متكيفاً ، مع المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه مبتعداً عن الاعتداء والكراهية والحقد والبغضاء والتعالي والاستعلاء والتكبر والتفاخر .
فالمجتمع مركب من فئات مختلفة ليس لأحد حق أن يعتدي فيه على الآخرين وليس هناك طبقة أو فئة أفضل من أخرى وليس للفرد الحق أن يسعد على حساب الآخرين، والمساواة في وجهة نظره تشمل كل مناحي الحياة .
قال(عليه السلام):( أن اللّه سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلاّ بما متّع به غني ، واللّه تعالى سائلهم عن ذلك) (3) .
وحينما وَلِيَ أمير المؤمنين علي(عليه السلام)أعلن قراره القاضي بالمساواة التامة بين الناس في العطاء ، من أجل إشاعة العدل في توزيع الثروة وإلغاء كافة أسباب التمايز بين الناس ، فكان قرار انتزاع قطائع بني اُمية وقرار التسوية من أول القرارات التي اتخذها علي(عليه السلام) في اليوم التالي من البيعة وطبّقه عملياً في اليوم الثالث ، وتحمل مزيداً من العناء في هذا السبيل.(4) .
فقد أوجد الامام(عليه السلام)في مجتمعه فكرة أن الكل محترمون على اختلاف قومياتهم وأديانهم وانتمائهم العشائري وأن الكل متساوون لديه وليس فيهم أفضلية ولا أسبقية لأحد عنده ، وحاول قدر الإمكان أن يزرع هذا الانطباع لدى رعيته امتثالاً لرغبة السماء في أن يكون هذا المجتمع متساوٍ من النواحي كافة.
3. احترام حرية الإنسان الفكرية : أن من السمات الواضحة في تجربة الإمام علي ابن ابي طالب(عليه السلام)السياسية هو سعيه الحثيث نحو ايجاد وتوسيع دائرة الحرية السياسية وفتح السبل سواء بحرية القول والفكر والرأي أم بالعمل وتبني المواقف أزاء الأحداث السياسية ، فقد كفل الإمام (عليه السلام) حق اختيار الخط السياسي لكل مواطن في أصقاع دولته وشملت هذه الحرية حتى مناوئيه (5) .
فالذي يستقرء فترة حكمه الشريف يجد أن هناك تيارات سياسية معارضه له اخذت كل حريتها في بيان رأيها فيه وفي نظام حكمه الشريف ، ولم يكن يتصدى لهم بالقوة أو بالسيف مثلما يفعل الآخرين ، ولم يحاربهم في عطائهم ولم يهدم دورهم ولم يشردهم ، وبذلك ضرب لنا أروع صور التعايش السلمي بين الحاكم ورعيته الأمر الذي انعكس إيجاباً على المجتمع الذي عاصر أمير المؤمنين(عليه السلام).
ففي رؤياه أن سلب حرية الفرد الفكرية أو إجباره على اعتناق دين أو مذهب أو تيار سياسي يعد اغتصاباً واضحاً لعقلية الفرد وتعدٍ صارخ على شخصيته ، فلا بد للفرد أن يمارس دوره ويبدي رأيه في الحاكم ونظام الحكم من دون أية تبعات قانونية ، بشرط أساس هو عدم الإضرار بمصلحة المجتمع وعدم الاعتداء عليه .
ثم أنه(عليه السلام) طالما يذكّر أصحابه ومواليه وأتباعه ومجتمعه الذي يعيش فيه أن الإنسان يجب أن تحترم حريته الفكرية ولا يجبر على اعتناق دين أو مذهب إلا عن طريق قناعة متكاملة وأن الإنسان لا يضرب أو يقتل أو يهان لمجرد اختلافات فكرية .
4. إشاعة ثقافة احترام النظام العام وتطبيقه من دون تمايز، شرع الامام علي (عليه السلام)على تبصير المجتمع الذي يعيش فيه على ضرورة احترام النظام الحكومي وعدم التجاوز على الأحكام الشرعية حتى بالنسبة لغير المسلمين ، ومن جهة أخرى فإن القانون الإسلامي ليس محدود التطبيق بل إنه سوف يطبق على أي فرد يخل به من دون تمايز مع الأفراد الآخرين فلا توجد درجة تفضيل لفرد على حساب الآخرين .
إن علياً (عليه السلام) ملتزماً بالقانون تجاه المتخلفين من القانون مهما كان المذنب يتمتع بالحصانة العشائرية أو المالية(6) .
ومن جانب آخر فإنه(عليه السلام) لا يسمح لأي شخص أن يتجاوز على فرد آخر أو يحط من قدره وقيمته وكرامته فإن الجميع يجب أن يعيشوا بسلام وأمان على مختلف مشاربهم ومن يتجاوز فإن القانون سوف يردعه .
فعلي(عليه السلام) يحارب أشد محاربة الطائفية ويتشدد على كل أساليب الإعتداء والعنف والظلم بين الآخرين لأنها تشكل بحق أزمات اجتماعية وتخلّ بأمن المجتمع والدولة الحاكمة فنراه يعمد على إشاعة روح العيش بسلام وعلى الاحترام المتبادل وتكوين مجتمع آمن مطمئن يتربع على العيش الآمن الهانيء .
وعلى الرغم من أن المجتمع الذي كان يقوده الإمام علي(عليه السلام) مجتمعاً قبلياً متعصباً فإنه استطاع باعتماده على الله تعالى وبرجاحة عقله وحكمته وسلوكه وحزمه وقوته أن يجعله مجتمعاً يحبو نحو التعايش السلمي بين أبناء طبقاته كافة .
فعلي(عليه السلام)مولعاً بحب الخير للناس والعفو والصبر والتسامح والسخاء وعدم الاكتراث متطلعاً إلى خدمة الناس ، فهو(عليه السلام) إمام يحب أن يشيع ثقافة التعايش والتسامح واحتواء الآخرين ويحلها بدلاً عن العنف والإرهاب والتعسف والظلم والطغيان .
وفي الختام لا بد أن نذكر أن الإمام علي(عليه السلام)وعلى حد تعبير علماء الاجتماع هو رائد ومؤسس حركة التعايش السلمي في المجتمع بما كان يمثله من قيم إسلامية حقيقية وما كان يحمله من نبل الأخلاق وسمو النفس .
نشرت في العدد المزدوج 57-58
هامش:
(1) بحار الأنوار/المجلسي/ج10 ص51
(2) الثقافة القيادية والإدارية عند أمير المؤمنين علي (ع)/محمد مهدي الآصفي ص 15.
(3) نهج البلاغة لأمير المؤمنين(ع)/تحقيق محمد عبده/ص ٥٣٣ ، الحكمة ٣٢٨.
(4) معالم الإصلاح عند أهل البيت (ع)/علي موسى الكعبي ص 134.
(5) حقوق الإنسان عند الإمام علي ( ع ) رؤية علمية /د.غسان السعد ص 145.
(6) الثقافة القيادية والإدارية عند أمير المؤمنين علي (عليه السلام)/ محمد مهدي الآصفي ص 38 .