قال علماء الأخلاق أن العفو: هو أن تستحق حقاً فتسقطه وتبرأ عنه من قصاص أو غرامة(1)، وهو ضدّ الانتقام، وقيل: هو ترك عقوبة الذنب.
ومن خصائصه: ينبغي أن يكون عند التمكّن، والمقدرة، فإنما يعفو المرء عن غريمه إذا كان قادراً على عقوبته، والاقتصاص لنفسه وليس حينما يعجز عن ذلك.
وللعفو صلاته مع بعض الخصال، إذ قبل الولوج فيه لابد من معرفة ما يأتي:
1ـ الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغضب، والغضب ثورات النفس واشتعالها لإرادة الانتقام، وهو الإمهال بتاريخ العقوبة المستحقة.
2ـ كظم الغيظ: معنى الكظم: هو الحبس والشدّ، فكظم الغيظ يعني: تأجيل العقوبة إلى وقت آخر، أو موقع آخر، فيه صبر وأناة، وفيه ضبط النفس عن هيجان الغضب.
3ـ الصفح: هو ترك العقوبة عن الذنب، وعدم التثريب واللوم عليه، ومن ضروراته العفو، ومن مستلزماته الرفق والستر والرحمة.
وقد ورد في الكتاب آيات كثيرة، وفي السنة نصوص مستفيضة، في فضل هذه الخلائق وحسنها، والحث على تحصيلها، والجري على وفقها.
فقد قال عز وجل في كتابه الكريم:
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)(آل عمران: 134) وأمر بقوله: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)( النور: 22). وقوله: (خُذِ الْعَفْوَ)( الأعراف: 199) وقوله: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)( الحجر: 85) وقوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ…)( الشورى: 40) وقوله: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ…)( الزخرف: 89) إلى غير ذلك من النصوص:
إن من خير الدنيا والآخرة ومكارمها: أن تعفو عمن ظلمك وتحلم إذا جهل عليك(2). وأنه إذا جمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد نادى منادٍ: أين أهل الفضل؟ فيقوم عنق من الناس فيسأل عن فضلهم، فيقولون: كنا نعفو عمّن ظلمنا، فيقال صدقتم، أدخلوا الجنة(3). والعنق: الجماعة. وقد أوصى أمير المؤمنين(عليه السلام)كن عفواً في قدرتك، جواداً في عسرتك، مؤثراً في فاقتك، تكمُل لك الفضائل(4). وإن علي بن الحسين(عليه السلام) قال: إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه، وإن الله يحب الحيي الحليم(5). وإن كظم الغيظ إذا كان في الرجل استكمل خصال الإيمان وزوجه الله من الحور العين كيف يشاء. وإن من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ قلبه يوم القيامة رضاه وحشاه أمناً وإيماناً.
ولنا في رسولنا الأكرم(صلى الله عليه وآله)والأئمة الأطهار أسوة حسنة وما علمونا عليه من الرفد المستمر، وبطريق واضح وإن عليه الرأفة والرحمة إذ تسامى رسول الله (صلى الله عليه وآله)في عفوه ورحمته، وبروز سجيته، وسمو أخلاقه التي يرجى منها ترك العقوبة حتى مع شانئيه وأعدائه:
1ـ المقبلون على قتله ، عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: إن رسول الله(صلى الله عليه وآله)أُتي باليهودية التي سمت شاة للنبي(صلى الله عليه وآله) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت: إن كان نبياً لم يضره، وإن كان ملكاً أرحتُ الناس منه. قال: فعفى عنها رسول الله(صلى الله عليه وآله)(6).
2ـ كان أبو هريرة قد تكلم في الإمام علي(عليه السلام) وأسمعه، ثم جاء في اليوم الثاني وسأله حوائجه، فقضاها الإمام له، وكان من كلامه(عليه السلام): إلى كم أغضي الجفون على القذى، وأسحب ذيلي على الأذى، وأقول لعلّ وعسى؟(7).
3ـ موقف الإمام الحسن(عليه السلام) مع الشامي الذي كان يلعنه،والحسن(عليه السلام) لا يرد بفضل حلمه وعفوه وصفحه وصبره وحسن خلقه وتجرّعه الغيظ وكظمه، مما حدا بالشامي الحب له والولاء والاعتقاد بإمامته(8).
4ـ وجنى غلام للإمام الحسين(عليه السلام)جناية توجب العقاب، وبعد توسله للإمام (عليه السلام) قال له: أنت حرٌ لوجه الله، ولك ضعفُ ما كنت أعطيك(9).
5ـ وكذلك فعل الإمام زين العابدين(عليه السلام)، مع الجارية التي سقط منها الإبريق وشق وجهه، إذا قال لها اذهبي فأنت حرّة(10).
6ـ قال نصراني للإمام الباقر(عليه السلام): أنت بقر؟ قال: لا، أنا باقر، قال النصراني: أنت ابن الطباخة؟ قال : ذلك حرفتها، عاد النصراني: أنت ابن السوداء الزنجية البذيئة (طويلة اللسان)، وباقر العلوم أمه أم عبد الله بنت الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)ولذلك هو أول من كان علوياً وفاطمياً من الأب والأم. فأجابه الباقر: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك، فأسلم النصراني(11).
7ـ أما الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)فأحسن إلى غلامه، وأجاد على الحسن الأفطس وهو(عليه السلام) في حالة إغماء، فقيل له: أتعطي من حمل عليك الشفرة يريد قتلك؟ فقال (عليه السلام): أتريد ألا أكون من الذين قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ) (الرعد: 21)(12).
8ـ نقرأ في سيرة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): أنه كان يعفو عن الناس، كعفوه عن الذي سرق كارة تمر من بستانه، فوهبها له وقال(عليه السلام) خَلّو عنه(13).
9ـ موقف الإمام علي الهادي(عليه السلام) مع صاحب صلاة الحرمين، المسبب إلى إحضاره بالإجبار إلى سامراء، فعفا عنه عندما استعفاه(14).
10ـ ومن أخلاق بعض الأصحاب كأبي ذر الغفاري(رض) الذي عفا عن غلامه الذي أراد أن يغيظه، وكذلك سلمان الفارسي المحمدي، وعمار بن ياسر، وابن مسعود، ومالك بن الأشتر وغيرهم فسجيتهم دائماً العفو.
فالعفو يثمر عن إصلاح ذات البين، وعن خلق المودة والإخاء والمحبة بين الناس وبه تزال الضغائن والأحقاد ويكون سبباً لصلة الرحم، وزوال العقوق حين تعود الروابط الرحمية بني المؤمنين، وهذه هي سجية النبلاء.
نشرت في العدد المزدوج 57-58
1ـ المحجة البيضاء: 5/318 باب فضيلة العفو
2ـ الكافي: ج2، ص107ـ بحار الأنوار: ج71، ص399 مرآة العقول: ج9، ص284
3ـ بحار الأنوار: ج71، ص400 الكافي ج2،ص108
4ـ غرر الحكمة: 247
5ـ وسائل الشيعة: ج11، ص211
6ـ الكافي: 2/89 باب العفو
7ـ مناقب آل أبي طالب: 2/131، وشرح نهج البلاغة: 3/253.
8ـ العفو، جعفر البياتي، ص108 109
9ـ كشف الغمة:183،والفصول المهمة: 159
10ـ أمالي الصدوق: المجلس 36/ ج12
11ـ مناقب آل أبي طالب: 4/ 224 .
12ـ المصدر نفسه: 4/ 295 .
13ـ الكافي: 2/ 88 باب العفو
14ـ إثبات الوصية: 225