إنّ مفردة المنهج بشكل عام تعني لغة الطريق الواضح، كما جاء معناها في مادة ( نهج ) في المعاجم العربية، وهي تعني الطريق أو السلوك،وقد ورد هذا المعنى في لسان العرب لابن منظور( طريقٌ نَهْجٌ بَيِّنٌ واضِحٌ وهو النَّهْجُ… وطُرُقٌ نَهْجَةٌ وسبيلٌ مَنْهَجٌ كَنَهْجٍ ومَنْهَجُ الطريقِ وضَحُه والمِنهاجُ كالمَنْهَجِ وفي التنزيل (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) المائدة / 48، وأَنهَجَ الطريقُ وضَحَ واسْتَبانَ وصار نَهْجاً واضِحاً بَيِّناً…. )( 1 )، واصطلاحاً بشكل عام يعني (فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة من أجل الكشف عن الحقيقة )(2 ).
أو يراد به ( مجموعة الأسس والقواعد التي تعتمد في استنطاق النص القرآني ولبيان معناه والكشف عن معطياته )(3).
مناهج المحاججة
ويمكن أن نميز ثلاثة مناهج مهمة في التنوير المعرفي لدى أئمتنا المعصومين (عليهم السلام)
ويتضح ذلك جلياً في فكر الإمام الصادق(عليه السلام)
فيما يأتي :
1ـ المنهج الوصفي العلمي في بيان الحقائق وإقناع عامة الناس:
إنّ من سمات الدراسة العلمية الدقة والوضوح والتنظيم والموضوعية والشمول واليقين(4) والتجربة وهي سمات ضرورية لا بُدَّ منها، ويمكن أن نلاحظ هذا المنهج في فكر الصادق (عليه السلام)علمياً في شتى العلوم التي بحوزته بوصفه حاملاً إرث النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) وآبائه (عليهم السلام)، وقد تلمذ على يديه كثير من العلماء ونهلوا من علمه مزايا العلوم ودقائقها فمثلاً ورد عنه في كتاب الاحتجاج للطبرسي:
( قال : دخل أبو شاكر الديصاني وهو زنديق – على أبي عبد الله (جعفر
الصادق)(عليه السلام) وقال : يا جعفر بن محمد دلّني معبودي !
فقال أبو عبد الله(عليه السلام) : اجلس ! فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها.
فقال أبو عبد الله(عليه السلام): ناولني يا غلام البيضة !، فناولها إياها
فقال أبو عبد الله : يا ديصاني هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مايعة، وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لا يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولا يدخل إليها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، ولا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى له مدبراً ؟
قال : فأطرق ملياً، ثم قال : أشهد أنّ لا إله إلا وحده لا شريك وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه، وأنا تائب مما كنت فيه)( 5 ).
2ـ المنهج اللغوي في البحث الدلالي لمعرفة الحقائق وإقناع عامة الناس :
يعتمد هذا على بيان وتوضيح الأمور المعرفية باستعمال أدوات اللغة المختلفة في الكشف عن حقيقتها كإبراز المعنى المعجمي وكيفية اشتقاق الكلمات لأدراك معانيها العميقة. ونجد ذلك في ما يأتي في كتاب الاحتجاج للطبرسي
عن هشام بن الحكم، قال : سألت أبا عبد الله( الإمام جعفر الصادق )(عليه السلام) عن أسماء الله ( عز ذكره ) واشتقاقها.
فقلت : الله، ممّا هو مشتق ؟
قال : يا هشام، الله : مشتق من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعنى : فقد كفر وعبد الاثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم : فذاك التوحيد، أفهمت يا هشام؟.
قال: فقلت : زدني، فقال : إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلهاً، ولكن لله معنى يدلّ عليه، فهذه الأسماء كلّها غيره.
يا هشام : الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحروق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعدائنا، والمتخذين مع الله غيره ؟
قلت : نعم
قال : هشام فو الله ما قهرني أحد في علم التوحيد حتى قمت مقامي هذا)( 6 )3ـ المنهج التفسيري في كشف الحقائق وإقناع عامة الناس :
ويقصد بالمنهج التفسيري هو مجموعة من الوسائل والمصادر الخاصة في تفسير القرآن الكريم التي من خلالها يتبين معنى الآية ومقصودها والحصول على نتائج مشخصة(7)
ويلاحظ هذا المنهج بارزاً في رؤياه التفسيرية لآيات الذكر الحكيم ومدى تبصير المسلمين بتوضيح معاني النص القرآني، وهناك بعض الأمثلةفي البحث القرآني للإمام تؤكد هذا المنهج ؛ لأجل تبصير الناس على حقائق الأمور كما نقلاً في كتاب الاحتجاج للطبرسي( عن يونس بن ظبيان قال : دخل رجل على أبي عبدالله ( جعفر بن محمد الصادق) (عليه السلام) قال : أرأيت الله حين عبدته ؟
قال : ما كنت أعبد شيئاً لم أره.
قال : فكيف رأيته ؟
قال : ولم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقايق الإيمان لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه.
وعن عبدالله بن سنان عن أبي عبد الله ( جعفر بن محمد الصادق )(عليه السلام) في قوله تعالى (لاَّ تُدْرِكُهُالأَبْصَارُ ) الأنعام : 103، قال : إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله : (قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ) الإنعام : 104، ليس يعني بصر العيون، (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) الأنعام : 104 وليس يعني من أبصر نفسه (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) الأنعام: 104، ليس يعني عمي العيون، إنما عني: إحاطة الوهم – كما يقال : فلان بصير بالشعر وفلان بصير بالفقه وفلان بصير بالدراهم وفلان بصير بالثياب – الله أعظم من أن يرى بالعين ) (8).
وكذلك كما نقل عن حفص بن غياث قال : شهدت المسجد الحرام وابن أبي العوجاء يسأل أبا عبد الله عن قوله تعالى : (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ) النساء : 56، ما ذنب الغير ؟
قال : ويحك هي هي وهي غيرها !
قال : فمثل لي ذلك شيئاً من أمر الدنيا ! قال، نعم أرأيت لو أن رجلاً أخذ لبنة فكسرها، ثم ردها في ملبنها، فهي هي وهي غيرها.
وروي أنّه سئل الصادق(عليه السلام) عن قول الله ( عز وجل ) في قصة إبراهيم(عليه السلام): (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) الأنبياء : 63، قال : ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم (عليه السلام)، قيل: وكيف ذلك.
فقال :إنما قال إبراهيم : فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ، فإن نطقوا فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فكبيرهم لم يفعل شيئاً، فما نطقوا، وما كذب إبراهيم (عليه السلام).
فسئل عن قوله في سورة يوسف : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف : 70) ؟
قال : إنّهم سرقوا يوسف من أبيه. ألا ترى أنّه قال لهم : (مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ) ( يوسف :71- 72 )، ولم يقل سرقتم صواع الملك، إنما سرقوا يوسف من أبيه.
فسئل عن قول إبراهيم : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ*فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (الصافات : 88 – 89 ).
قال : ما كان إبراهيم سقيماً، وما كذب إنما عني سقيماً في دينه أي مرتاداً )(9 ).
مسك الختام :
وخلاصة القول في ذلك إنّ ما قدمناه من قبسات من نور الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) الساطع قد تجلت في آليات منهجية يتضمنها أسلوب المحاججة في إقناع عامة الناس هو شيء يسير ونزر قليل من معالم التفكير كان يمتاز به، وقد اقتصرت على هذه النماذج التطبيقية من أجل التوضيح فقط، لأنّ علوم الإمام كثيرة ووسائله متنوعة، وقد عرفها العقل العربي والإسلامي ودان بها العقل الغربي.
نشرت في العدد 56
(1) لسان العرب ( نهج ): 2 / 383.
(2) مناهج البحث اللغويين التراث والمعاصرة : 94.
(3) منهج التفسير عند الشيخ البلاغي ( بحث ) : 149.
(4) ينظر : مناهج البحث اللغوي : 73 – 82.
(5) الاحتجاج : 2 / 61.
(6) المصدر نفسه : 2 / 61 – 62.
(7) ينظر: دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن : 18.
(8) الاحتجاج : 2/ 65.
(9) المصدر نفسه : 2 / 87- 88.