Take a fresh look at your lifestyle.

أثر الأخلاق القرآنية في صناعة المجتمع الإسلامي

0 443

فاطمة هاشم الميري
الحجاز/ القطيف

 

     معلوم أن العلاقات الاجتماعية تخضع لعوامل شتى واتجاهات متعددة، وتنطلق من أسس متفاوتة المصادر والمنابع وظروف مختلفة الملامح والأشكال، فتتحكم فيها منازع الكائنات الحية المتنافرة، وتصوغها رغبات الأنواع والأجناس، وتوجهها ميول الأفراد يميناً أو شمالاً، وتطبعها الجماعات بطابعها الذي ترى فيه أنه يعود عليها بفائدة، أو يمدها بأسباب البقاء، فيحميها من عوامل العناء والهلاك، ومن هنا يميل الباحثون في علم الأنثروبولوجيا إلى الاعتقاد بأن الصراع بين الكائنات الحية هو قانون الحياة، فلا يُكتب البقاء إلا لمن يتغلب على من حوله، فالبقاء للأقوى، كما أن عملية الصراع بين هذه الكائنات الحية هي ديناميكية التطور.
أثرّ هذا المفهوم للعلاقات بين الكائنات الحية على فكر بعض المجموعات البشرية، فاعتنقت مبدأ التفوق بين الأجناس البشرية، ففضلت جنساً على آخر في الحقوق والمعاملات، وكذلك في التقييم الإنساني، وكان من جراء ذلك أن ظهرت بين الناس صور من المعاملات لا تتفق مع ما تتطلبه واقعية الانتماء إلى جنس واحد هو أصل للناس جميعاً، إذ شاعت بين بعض شعوبهم نعرة استعلاء شعوب على أخرى، وسيطرت على أذهانهم عقيدة التفاضل بين المجموعات البشرية، على أساس اللون أو البيئة أو العقيدة، واتخذ سلوكهم مسار استئثار الأفضل بكل أنواع الخيرات الموجودة على ظهر الأرض، بحيث لا يترك لمن هو أدنى في البشرية إلا ما يسد به رمقه، أو ما يحفظ عليه حياته، في حدود ما يؤدي لمن هو فوقه من خدمات.
وبهذا ضاعت ملامح العلاقات الإنسانية، وتلاشت عاطفة الأخوة بين الناس، فأصبحت نفس الإنسان تلهث وراء المادة، وتجري وراء الشهوات الجسدية، حتى أصبح المجتمع البشري أشبه بغابة يتحكم فيها القوي، ويسود فيها كل مَن تجرد من المعاني السامية، وتعرى من كل أردية الشرف والفضيلة، (ولازم ذلك ابتعاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب فيستحسن كثيراً مما كان يستقبحه الدين، وأن يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق والمعارف العالية مستظهراً بالحرية القانوني وبما أن الإنسان مخلوق اجتماعي، مفطور على العيش مع الآخرين، يشاطرهم تكاليف الحياة ويتبادل معهم المصالح والمنافع، ويتعاون معهم لتحقيقها، وبذلك تنشأ بين الناس علاقات دائمة، فيشكلون تجمعاً إنسانياً واحداً، فإذا انسجمت أفكارهم وتوحدت مشاعرهم، واتفقوا على قوانين ومبادئ القرآن المجيد في تنظيم شؤون حياتهم، فإنهم بذلك يصبحون مجتمعاً قرآنياً.
فالمجتمع الإسلامي: هو مجموعة من الناس تقوم بينهم علاقات دائمة ومصالح مشتركة، بسبب تأثير الأفكار والمشاعر والقوانين القرآنية التي تتفاعل بينها، وتوجهها القيادة المجتمعة بدلالة العقيدة الإسلامية نحو غاية كلية نهائية هي مرضاة الله تعالى(1).
وقد أسهمت أمور كثيرة في البناء الاجتماعي وتنمية الروح الإنسانية لدى الإنسان، منها ما هو مباشر ومنها غير مباشر، كان منها الجانب العبادي فـ (ما أعمال العبادات التي شُرعت لتربية هذا الروح الخُلقي المثالي، ومتى تربى هذه الروح تربية إسلامية قرآنية، هان على صاحبه القيام بسائر التكاليف الأدبية والاجتماعية التي يصل بها إلى تحقيق أمنية الحكماء والعلماء إلى المدينة الفاضلة)(2) التي تتماسك فيها (لبنات المجتمع الإسلامي، ويشتد بنيانه، وتتحقق بين المسلمين العدالة، حين يحتكمون إلى قوانين الإسلام وأنظمته، مما يجعل سلوكهم في جميع ديارهم سلوكاً فاضلاً كريماً، يتميز عن سلوك غيرهم من الأمم والشعوب)(3). وكان كذلك مِن القرآن الكريم في منهجه القويم في بناء المجتمع والأُسرة أن عمد إلى إلغاء كل امتياز إلا امتياز العقيدة فـ (بني الاجتماع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك، حتى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فانّ المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل والوطن مثلاً)(4)، مما يكفل لهم بهذا البناء الاجتماعي السعادة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(5)، فالهدف الرئيس لخلق الإنسان إذن أن يعيش مع أخيه الإنسان، وأن ينافسه في مجال الخير والعطاء للناس جميعاً.
فكثرة الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الأخلاق – إقرار بالجيد منها، ومدح للمتصفين بها، ومع المدح: الثواب، ونهياً عن الرديء منها وذم المتصفين به ومع الذم: العقاب – تدل على أهميتها، ومما يزيد في هذه الأهمية أن هذه الآيات منها ما نزل في مكة قبل الهجرة، ومنها ما نزل في المدينة بعد الهجرة، مما يدل على أن الأخلاق أمر مهم جداً لا يستغني عنه المسلم، وإن مراعاة الأخلاق تلزم الإنسان المسلم في جميع أحواله، فهي تشبه أمور العقيدة من جهة عناية القرآن بها في سورهِ المكية والمدنية على حدٍ سواء(6). وذلك مما نلحظه في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)(7).
ويؤكد أهمية البناء الأخلاقي في القرآن الكريم ورتبته السامقة السيد محمد باقر الحكيم(ت1424هـ) في قوله: (لا يخفى أن مبادئ القيم التوحيدية والأخلاق الإلهية تمثّل القاعدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الإنساني بعد العقيدة في الرسالة الإسلامية، ولذلك جاء الحديث في القرآن الكريم عن التزكية والتطهير في عدة مواضع… وأن تكامل الإنسان في حياته الدنيوية والأخروية إنما يتحقق من خلال الأخلاق الفاضلة، فهي أساس للشريعة، بمعنى أنها تكون منطلقاً، كما أنها هدف للشريعة يراد تحقيقه من خلالها)(8).
ونظرة الأخلاق في الإسلام ليست نظرة عنصرية وإنما هي نظرة شاملة عامة، كما أن من شمول الأخلاق الإسلامية أنها تشمل جميع أفعال الإنسان الخاصة بنفسه أو المتعلقة بغيره، سواء كان الغير فرداً أم جماعة، إذ لا انفصال في هذا المجتمع بين العلم والأخلاق، ولا بين الفن والأخلاق، ولا بين الاقتصاد والأخلاق، ولا بين السياسة والأخلاق، ولا بين الحرب والأخلاق، وإنما الأخلاق عنصر يهيمن على شؤون الحياة وتصرفاتها، صغيرها وكبيرها، فرديها وجماعيها(9).
وشمول الأخلاق الإسلامية بهذا المعنى يعد – فوق أنه خصيصة دينية – خصيصة حضارية راقية. ولذلك يقول غوستاف لوبون – وهو يعد شمول الأخلاق لوناً راقياً من ألوان الحضارة -: (وكانت أخلاق العرب في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبة، ولا سيما الأمم النصرانية، وكان عدلهم واعتدالهم ورأفتهم وتسامحهم نحو الأمم المغلوبة، ووفاؤهم بعهودهم ونبل طبائعهم، مما يستوقف النظر ويناقض سلوك الأمم الأخرى، ولاسيما الأمم الأوربية أيام الحروب الصليبية)(10).
ومن المعاني البارزة في الجانب الأخلاقي في الإسلام أن النبي(صلى الله عليه وآله) حينما دعا إلى محاسن الأخلاق بين أنه قد سبقه في الدعوة إلى مكارم الأخلاق جمع من الرسل الكرام، وأن أصل الدعوة القرآنية هي البناء الاجتماعي الأخلاقي، وهذا هو الواضح في قوله(صلى الله عليه وآله): (إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق)(11).
وهذه المكارم الأخلاقية هي تشريعات قانونية إلزامية تنظم العلاقات، وتصون الحقوق وتقيم العدل، وهذه الناحية هي المعروفة في الإسلام باسم (المعاملات) وتشمل ما يتعلق بشؤون الأُسرة، وما يتعلق بالأموال، وما يتعلق بالعقوبات، وما يتعلق بالجماعة الإسلامية وعلاقتها بغيرها، ويمكن أن نقول إن التشريعات الإسلامية جاءت لضبط الحياة الفردية والأُسرية، والاجتماعية والدولية، تشريعات ربانية: أعني في أُسسها، ومبادئها، وأحكامها الأساسية، التي أراد الله أن ينظم بها سير القافلة البشرية، ويقيم العلاقات بين أفرادها وجماعاتها على أمتن القواعد، وأعدل المبادئ، بعيداً عن قصور البشر، وتصرفات البشر، وأهواء البشر، وتناقضات البشر.
ومن ثم يهدف التشريع إلى معالجة مشاكل الناس وتنظيم العلاقات بنحو يبعد التصادم بين الناس المختلفة على أساس العدل والمتمثل بإعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأمور في نصابها الصحيح.

نشرت في العدد 56


(1) ظ: عبد القادر هاشم رمزي، في فلسفة الدراسات الاجتماعية والتربوية، دار البازوري، عمان، 1999م، ص246.
(2) د. حسين ابراهيم الحاج حسن، الروابط الاجتماعية في الإسلام، دار المرتضى، بيروت، 1995، ص22 .
( 3) د. عبد المجيد محمد الاقطش وآخر، في السياسة الشرعية، دار المسيرة، عمان، 2010م، ص43 .
( 4) مرتضى المطهري، المجتمع والتاريخ، تعريب: محمد علي آذرشب، رابطة أهل البيت(D)الإسلامية العالمية، سوريا، (دت)، ص41، ظ: سعيد حوى، الإسلام، ص57 ص286، محمد قطب، واقعنا المعاصر، ص114.
( 5 ) سورة الحجرات، 13 .
( 6 ) ظ: د. عبد الكريم زيدان، أصول الدعوة، ص78. الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص381.
( 7 ) سورة الجمعة، الآية 2.
(8 ) المجتمع الإنساني في القرآن الكريم، ص378.
( 9) ظ: محمد جواد مغنية، فلسفة الأخلاق في الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط2، 1979م، ص75.
( 10 ) حضارة العرب، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م، ص430.
( 11) احمد بن حنبل، مسند أحمد، 2/381.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.