الحركة العلمية في النجف
كان نزوح الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي من بغداد ودخوله مدينة النجف عام 448 هـ الحجر الأساس في الازدهار الذي شهدته هذه المدينة. و(بعد الهجوم على داره ونهب كتبه والذي حصل نتيجة فتنة طائفية أثارها السلجوقيون حينها) جاء اختياره للنجف بديلة عن دار السلام مبنياً على الأسباب التالية:
1- بعد النجف عن مسرح الأحداث والاضطرابات الحاصلة في بغداد.
2- تمتع النجف بجذور حديثة الولادة لحركة علمية في طور النشوء.
3- قرب النجف من الكوفة التي كانت تتمتع بقاعدة تشيُّعِيَّة متجاوبة مع توجهاته.
أسس الطوسي جامعة النجف العلمية وجامع الحوزة العلمية وجعل من تلك المدينة مدرسة يقصدها طلاب العلم من شتى أنحاء الدنيا بعد أن كانت مدينة ومزاراً(1)
ثمة إشارات أخرى تفيد بأن النجف قد شهدت حركة علمية قبل وصول الشيخ الطوسي إليها.(2)
تزايد عديد القاصدين لمدينة النجف حتى وصل عدد الحاضرين لمجلس علم الشيخ الطوسي لثلاثمائة عالم خلال عشر سنوات وهي فترة وجيزة.(3)
الدراسة في حوزة النجف
للحوزة العلمية ما يربو على 22 مدرسة من أبرزها: مدرسة المعتمد، ومدرسة المقداد السُيوري، ومدرسة الصدر الأعظم، ومدرسة الشيخ مهدي كاشف الغطاء، ومدرسة القوّام،ومدرسة القزويني، ومدرسة الشربياني، ومدارس الخليلي، ومدرسة البادْكُوبي، ومدارس الآخوند، ومدرسة البخاري، ومدارس أخرى كثيرة.
أما عن الدراسة في الحوزة، فتنقسم إلى ثلاثة مراحل: المقدمات والسطوح وبحث الخارج.
تمثل المرحلة الأولى (بمقام الدور الابتدائي) مقدمةَ للدخول إلى التخصص في الفقه، وتتم فيها دراسة النحو والصرف والمنطق والبلاغة باتباع الكتب القديمة كشرح قطر الندى لابن هشام وشرح ألفية ابن مالك.
أما المرحلة الثانية (بمقام الدور الإعدادي)، فتعنى بدراسة متون الكتب الفقهية (الفقه الاستدلالي وأصول الفقه). من الكتب التي تدرس في هذه المرحلة: كفاية الأصول ورسائل الشيخ الأنصاري وقوانين الأصول (في أصول الفقه) والمكاسب وشرح اللمعة وشرائع الإسلام (في الفقه الاستدلالي).
تُعِدُّ مرحلة المقدمات والسطوح الطالبَ ليصبحَ مجتهداً وهما أشق مرحلتين ولربما يقضي الطالب عشر سنوات من الدراسة أو أكثر ليجتازهما. هنالك الكثير من الطلبة الذين لا يُوفَّقون في اجتياز هاتين المرحلتين فتتوقف دراستهم عندها.
بخصوص المرحلة الثالثة (بحث الخارج) (بمقام الدراسات المتقدمة أو العليا)، فتتم الدراسة بشكل جماعي في بيت الأستاذ أو في المسجد ويلتف فيها الطلاب حول أحد كبار المجتهدين الذي يلقي عليهم محاضرة -حول موضوع في الفقه أو في الأصول متناولاً إياه بالتفصيل وموضحاً أراء المذاهب الإسلامية وأهم آراء العلماء السابقين – ويناقشها ثم يبدي رأيه ويدلي بإثباته لهذا الرأي. ليست هنالك مناهج معينة تدرس في هذه المرحلة التي يمكن للطالب فيها مراجعة أي كتاب للاستفادة. يعتاد الطلاب في هذه المرحلة على مناقشة الآراء والنظريات والمسائل مناقشة مستفيضة قد تصل لدرجة النِدِّيَّة مع الأستاذ كي يكتسبوا فيها الثقة بأنفسهم وبآرائهم لأنهم سيصبحون (مجتهدين).
تمتاز حوزة النجف بوجود مرجع أعلى للشيعة (كبير المجتهدين) يذعن الجميعبمرجعيته ورئاسته وهو ما تنفرد به تلك الحوزة. لا يعتمد اختيار المرجع على الانتخاب أو التعيين، بل على تبوؤ هذا المنصب بالاعتماد على الكفاءة الفكرية والعلمية والاستقامة وحسن الخلق ويكون هذا التبوؤ بالاقتداء تلقائياً بمجتهد ما -دونما اجتماع أو إجماع مسبق حول ذلك- بغض النظر عن جنسيته.(4)
إن الدراسة في النجف انفرادية أو جماعية، أي إن للذي يدرس في النجف حرية الانضمام إلى مجموعة (في دراسة السطوح أو الخارج) أو الدراسة بشكل انفرادي (في دراسة السطوح) وهو الأفضل. يكون للتلميذ في هذه الدروس حرية فكرية واسعة تتجلى في دروس مرحلة الخارج أكثر مما هي في دروس مرحلة السطوح و يرجع سبب ذلك إلى طبيعة مرحلة الخارج التي يطرح فيها الأستاذ نظرية ما وتتم مناقشتها أو دحضها.(5)
بالنسبة للشهادات التي تمنحها جامعة النجف، فهي تختلف في نقطة واحدة: رجعة الطلاب إلى الجامعة أم عدم رجعتهم. بالنسبة للصنف الأول، فتتضمن شهاداتهم إشارة إلى ما يتميزون به وتكون موجهة للمؤمنين أو لأولياء الطلبة يتم فيها تشجيع الطالب للاستمرار في سلك طريق العلم. أما الصنف الثاني، فيحصل الطالب فيها على شهادات من أساتذتهم ومن زعيمهم الديني (المرجع الأعلى) تتضمن اصطلاحات خاصة لا يفهمها إلا القليلون، كما تتضمن درجات حامليها وينوه فيها بما يتميز به الطالب إبان فترة دراسته.(6)
المرجعية الدينية في النجف الأشرف
تعد مدينة النجف موطن العلم قلعة للمرجعية الدينية. إن الوظيفة الأساسية للمرجعية الدينية هي العمل بما ينسجم وأحكام الشريعة الإسلامية.(7)
تستند مدرسة آل البيت(عليهم السلام)والتي تُخَرِّجُ المراجعَ إلى ركيزتين أساسيتين: الأولى هي العلم النافع والثقافة الحقيقية والثانية هي الإخلاص في طلب العلم والمعرفة. واصلت هذه المدرسة العمل بهذا النسق متمثلة بحوزتها العلمية، ومما ساعدها على ذلك هو:
1ـ استقلالها المادي عن الدولة وعن ذوي النفوذ.
2-عدم التقيد بنظام أو جدول زمني أو غير ذلك مما يحدد مراحل الدراسة.
3ـ حرية الانضمام وإمكانية البروز العلمي بالاعتماد على القدرات العلمية البحتة دونما تدخل من سلطة عليا أو غير ذلك.
لذلك، تميزت الحوزات العلمية نتيجة لتلك النقاط المذكورة عن المؤسسات الدينية لباقي المذاهب.(8)وثمة أمور حقيقية جديرة بالملاحظة تتعلق بالمرجعية:
-محدودية قدراتها: أي عدم حملها لصفتها الحقيقية والرسمية التي تتمتع بها فعلياً نظراً لتجاهل بعض القوى لها ولمقاومتها لها ولمحاولة تحجيمها.
-حفاظ المرجعية على الحوزات العلمية وتنميتها ورعايتها لها.(9)
رغم تعدد مدارس المرجعيات على امتداد العصور، إلا أنها ركزت على نقطة في غاية الأهمية: مسألة الوحدة ودورها في إرساء قواعد الأمن والسكينة واستمرار كينونة هذه الأمة. ما من خطر أشد وطأة على الإسلام من نخر دولتهم من الداخل بزرع الفتنة وإضرام نيران الطائفية وهو ما حاولت المرجعيات التأكيدَ عليه محاولةً منها إلى ردم الصَدْع الذي أوجده أعداء الإسلام.(10)
اتجهت المؤسسة المرجعية بعد غيبة الإمام الثاني عشرA إلى تركيبٍ قيادي مختلف عن المرحلة السابقة، إذ كانت قيادة الإمام شاملة وعامة فكرياً واجتماعياً وسياسياً. أما بعد الغيبة، فتولى الفقهاء أمور القيادة وكان الناس يرجعون إليهم للاستفتاء انطلاقاً من قاعدة (نيابة الإمام الغائب) من قبل الفقيه الجامع للشرائط. شكلت هذه النقطة تحولاً في القيادة المرجعية، حيث فقدت صفة العصمة في الزعامة الدينية. أمسى الفقهاء امتداداً طبيعياً لخط الإمامة.
اعتمدت القيادة المرجعية في بادئ الأمر على الاتصالات الفردية بين المجتهدين والقواعدالشعبية في بلدانهم. تطورت تلك الاتصالات عقب ذلك، إذ بدأ المجتهد بإرسال وكيل أووكلاء لمناطق مختلفة لنقل رأيه في بعض القضايا الفقهية. رُسِمَت على هذا النحو ملامح المؤسسة المرجعية. من أشهر الفقهاء المؤسسين للجهاز المرجعي هو محمد بن مكي العاملي. تنامى دور المرجعية وصولاً لطور الاستقطاب والتمركز فظهرت مرجعيات كبرى كمرجعية الشيخ جعفر كاشف الغطاء التي امتدت لشيعة العالم الإسلامي قاطبةً. تطور دور المرجعية لاحقاً إلى زعامة الأمة في نضالها ضد القوات التي غزت بلاد المسلمين.(11)
الحركة الثقافية والأدبية في النجف
شكل القرن الرابع الهجري بدايةً لانبثاق الحركة العلمية (دروس العلم) في النجف كونها مركزاً من المراكز العلمية الثقافية، غير أنها كانت تفتقر لوجود الأدب نظراً لكونها حركة ناشئة ومحدودة آنذاك.
مع انتقال ممثل المرجعية الدينية الإمامية -الشيخ الطوسي عام 448 هـ- من بغداد إلى النجف في القرن الخامس الهجري وهجرة طلابه وأصحابه،شهدت الحركة العلمية ازدهاراً، لكنها مع ذلك لم تقترن بنشوء حركة أدبية منبثقة عنها بسبب انشغال المرجعية بإرساء دعائم الحركة العلمية في شتى الجوانب. عندما توفي الشيخ الطوسي، انتاب الحركة العلمية ضمور تسبب في بروز مدينة الحلة و تحولت عند بداية القرن الخامس الهجري إلى مركز انتقلت إليه الحركة العلمية واستمرت في تألق دام أربعة قرون.
عاود فجر النجف بالبزوغ من جديد في القرن التاسع عشر واستعادت الحركة العلمية فيها ازدهارها من جديد في الوقت الذي أفل فيه نجم تلك الحركة في الحلة.
تفتقت أولى براعم الحركة الثقافية مُمَثَّلَةً بالأدب إبان القرن العاشر الهجري عندما بدأت القبائل العربية بالهجرة إلى النجف طلباً للعلم في الحوزة العلمية. حملت هذه القبائل معها البواتق الأدبية، إذ كان الأدب سمة بارزة لدى العرب. هكذا ظهر الكُتَّابُ والشعراءُ والخطباءُ الذين برع البعض منهم ونال شهرة ليس على مستوى العراق فحسب، بل علىالمستوى البلدان العربية بأسرها.
هاجر في بادئ الأمر بعض أفراد القبائل مثل قبيلة آل البلاغي وآل الجزائري وآل محيي الدين -في القرن العاشر الهجري- وآل الأعسم وآل النحوي وآل قسام -في القرن الحادي عشر الهجري- وآل بحر العلوم وآل كاشف الغطاء وآل الظالمي وآل الفرطوسي وآل الشيخ عبد الرسول وآل المظفر وآل قفطان وآل زاير دهام وآل اطميش -في القرن الثاني عشر الهجري- وآل الشبيبي وآل الدجيلي وآل السوداني وآل الخرسان وآل سميسم وآل الغراوي وآل مطر وآل العصامي وآل زوين -في القرن الثالث عشر الهجري-.
عاصرت الحركة الأدبية مثيلاتها في إيران والبلدان العربية كسوريا ولبنان ومصر ومرت بذات مراحلها: مرحلة العهد العثماني ومرحلة عهد النقلة ومرحلة العهد الحديث. اتسم الأدب في العهد العثماني بالبلاغة والزخرفة اللفظية والإسراف اللفظي على حساب المعنى. أما عهد النقلة، فتضمن أصداء البلاغة كالجناس والسجع بينما شهد العهد الحديث الذي ظهر في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري تعدداً للألوان الثقافية. هكذا واصلت الحركة الثقافية في النجف نشاطها الذي بلغت فيه أوجها مما جعل من النجف مركزاً ثقافياً متألقاً.
كان للعامل الاجتماعي حسب رأي جعفر الخليلي تأثير قوي في ازدهار الحركة الأدبية، أما د. عبد الصاحب الموسوي فيرى أن العامل الديني كان له عظيم الأثر. أتقن رجالُ الدين والفقهاءُ علومَ اللغة وآدابَها واحتلت مدرستا الكوفة والبصرة الصدارة في تلك العلوم حتى القرن الخامس الهجري. أما النجف، فاحتلت الصدارة العلمية في العراق حينما سنحت لها الفرصة لذلك.(12)
اهتم أساتذة النجف بطلبتهم الذين خُصَّصَت لهم رواتب شهرية نقدية أو عينية (طعام وملابس). وصل عدد المدارس في عام 1385 إلى اثنتين وثلاثين مدرسة ضمت تسعمائة واثنتين وخمسين غرفة في الوقت الذي كان فيه عدد الطلاب ثلاثة آلاف بين وافدٍ وغير وافدٍ (سكان البلد الأصليين). عرفت النجف بمكتباتها العامة التي ربت على الثلاثين مكتبة والتي أسهمت حتى القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر الهجري -وفقاً لإحصاء أجراه جعفر الخليلي- في نهضة العراق الحديث، كما عرفت بمكتبتها العلوية وهي المكتبة الأولى التي أُسِّسَت في القرن الرابع الهجري.(13)
أُسِّسَت عام 1856 مطبعةٌ ثم توالى تأسيس المطابع التي ساهمت في تطوير الحركة الأدبية من خلال نشر الكتب والدوريات والمطبوعات بشكل عام.
تأسست إبان القرن الرابع عشر الهجري جمعياتٌ أدبيةٌ كجمعية منتدى النشر وجمعية الرابطة العلمية الأدبية. عُرِفَ المجتمع النجفي بمختلف فئاته بقربه من الشعر وأكد ذلك أمين الريحاني (الرحالة اللبناني الشهير) وروى د. عبد الصاحب الموسوي اسْمَيْ بقّالَيْن نجفيَّيْن هما الحاج مجيد العطار والأديب عبد الهادي الطحان اللَّذين عُرفا باهتماماتهما الشعرية.
من جهة أخرى، أسهمت المجالس التي أقامتها الأسر العلمية النجفية في تطوير الحركة الأدبية، وكأمثلة على أبرز من شارك في تلك المجالس في القرن العشرين، نذكر عبد الحسين الحلي وباقر الهندي وجواد الشبيبي ومحمد سعيد الحبوبي وجعفر الحلي وعلي العلاق.(14)
برز في تلك الفترة كوكبة من الشعراء الذين عكسوا الواقع العراقي آنذاك منهم: محمد مهدي الجواهري ومحمد باقر الشبيبي وصالح الجعفري ومحمد رضا الشبيبي وأحمد الصافي النجفي ومحمود الحبوبي ومصطفى جمال الدين وأحمد الوائلي ومحمد علي اليعقوبي.
يقصد النجفَ أفرادٌ من قوميات مختلفة يحملون إليها تجاربهم في مختلف المجالات: الفكرية والعلمية والأدبية، إلخ… ويلتقون في معاهدها وفي المدرسةالنجفية تحت سقف وحدة الدراسة ووحدة الهدف. لذلك الأمر فوائدٌ جمة:فهو يثري الطالب بتجارب أولئك الوافدين ويعوّده على الانفتاح الفكري والمرونة في البحث.(15)
نشرت في العدد 56
(1) رجال النجاشي-ص31
(2) فرحة الغري/ابن طاووس-ص114
(3) الدراسة وتاريخها في النجف/د.السيد محمّد بحر العلوم (موسوعة العتبات المقدسة)،ج7ص: 9 112.
(4) مدرسة النجف وتطور الحركة الإصلاحية فيها، ظلال من حياة الشيخ الراحل المظفر و دراسة عن الحياة الفكرية في النجف، مطابع النعمان (النجف الأشرف)، ص8-14
(5) جامعة النجف في عصرها الحاضر، الشيخ محمد تقي آل الفقيه العاملي، ص105-111
(6) ن.م. ص 146ـ149
(7) المرجعية الدينية، الحلقة الثانية، اعداد و تقديم عبد الهادي محمد تقي الحكيم، ص15-16
(8) ن.م. ص40-44
(9) ن.م. ص126-128
(10) دور الحوزة العلمية في وحدة الأمة الإسلامية، محمد جعفر النوري، ص 9-11 و ص265-266
(11) المرجعية الدينية من الذات إلى المؤسسة، ص35 -37
(12) الجواهري شاعر القرن العشرين، د. جليل العطية، ص: 29 31.
(13) موسوعة العتبات المقدسة لجعفر الخليلي: الجزء السابع (قسم النجف “الثاني”).
(14) حركة الشعر في النجف، ص: 115.
(15) مدرسة النجف و تطور الحركة الإصلاحية فيها، ظلال من حياة الشيخ الراحل المظفر و دراسة عن الحياة الفكرية في النجف، طبع في مطابع النعمان، النجف الأشرف، ص38-39