تعد شخصيّة الإمام علي (عليه السلام) من الشخصيات التي لها تأثير قوي وحضور واسع خاصة في المؤلفات التي جاءت بعده في المشرق العربي, ولم يقتصر هذا التأثير على المؤلفات التي اهتمت بالبيان والخطابة والبلاغة في المشرقمثل كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ وكتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة وكتاب (نقد النثر) لابن وهب الكاتب, فضلًا عن الرسائل البيانيّة التي تركها بعض المؤلفين أمثال (الرسالة العذراء) لابن المدبر وغيرها من الرسائل, بل امتد تأثير الإمام علي(عليه السلام) بشخصيته الفذّة وبيانه الرائع إلى المؤلفات التي تركها كبار العلماء من بلاد الأندلس, مثل ابن عبد ربّه الأندلسي (328هـ)صاحب كتاب (العقد الفريد), حيث تأثر هذا العالم الفقيه بشخصيّة الإمام علي(عليه السلام) كثيرًا , وانعكس هذا التأثير بما تركه في مؤلفه, وبدأ هذا التأثير واضحاً فيما يقتبسه من كلام بليغ للإمام علي (عليه السلام) لغرض الاستشهاد به في مواضع كثيرةٍ جدًا, وفي أبواب متعددة ومتنوعة, فقد كان منهج الرجل أنه يأتي بكلام الإمام علي (عليه السلام) بعد كلام الله عزّ وجلَّ ، وكلام نبيّه المصطفى (صلى الله عليه وآله), مما يعطينا تصورًا واضحًا عن منزلة هذا الكلام ومدى تأثيره في المؤلف ويكاد يكون هذا الأمر منهجًا ألزم المؤلف ابن عبد ربّه نفسه به, أما عن المواضع التي يرد فيها الاستشهاد فهي كثيرة ومتنوعة, منها ما يرد في فضيلة العلم إذ قال فيه صاحب العقد الفريد :(حَدَّثنا أيوب بن سُليمان قال حَدَّثنا عامر بن مُعاوية عن أحمد بن عِمْران الأخنس عن الوليد بن صالح الهاشميّ عن عبد الله بن عبد الرحمن الكُوفي عن أبي مِخْنف عن كُميل النِّخعيّ، قال: أخذ بيدي عليٌّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهه، فخرج بي إلى ناحية الجبَّانة، فلما أسحر تنفّس الصُّعداء، ثم قال: يا كُميل، إنّ هذه القلوب أوْعِيَة، فخيْرها أوعاها، فاحفظ عنِّي ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم ربَّاني، ومتعلَّم على سبيل نَجَاة، وهَمَج رَعَاع، أَتْباع كلّ ناعق، مع كلِّ ريح يَميلون، لم يَسْتضيئوا بنُور العِلْم، وِلم يَلْجأوا إلى رًكْن وَثيق… الخ الخطبة) (1).
وفي أحيان أخرى كان ابن عبد ربّه يقدم قول الإمام علي (عليه السلام) على غيره معززًا كلامه بنصوص من القرآن الكريم, انظر إلى قوله في فضل العشيرة:
(قال عليّ بنُ أبي طالب رضي اللهّ عنه: عشيرةُ الرجل خيرٌ للرجل من الرجل للعَشِيرة، إن كَفَّ عنهم يداً واحدة كَفُّوا عنه أيدياً كثيرة، مع مودَّتهم وحِفَاظهم ونُصْرتهم. إنِّ الرجل لَيَغْضَب للرجل لا يَعْرفه إلا بِنسَبه، وسأتْلُو عليكمِ في ذلك آياتٍ من كِتاب اللهّ (تعالى)، قال اللهّ عزّ وجلّ فيما حكاه عن لُوط: (لَوْ أنَّ لِي بِكُم قُوّة أَوْ آوِى إلى رُكْن شَدِيد)! (2) يعني العشيرة، ولم يكن للوط عَشيرة: فو الذي نفسيِ بيده ما بعث الله نبيًّا من بعده إلا في ثَرْوَةٍ من قومه، ومَنعةٍ من عَشِيرته، ثم ذكر شُعيباَ إذ قال له قومُه: (إنَّا لَنَرَاكَ فِينا ضعِيفاً ولَوْلا رَهطك لَرَجَمْناكَ)(3)، وكان مَكْفوفاً، واللّه ما هابُوا الله، ولا هابوا إلا عشيرتَه)(4).
وهنا يبدو تأثر الكاتب الأندلسي واضحًا في قدرة الإمام علي(عليه السلام)إلى توظيف النص القرآني بالطريقة الملائمة التي تدلل على موسوعية وتمكن الإمام سلام الله عليه من اختيار النصوص التي تنسجم ومضمون كلامه ويعد هذا الشيء فنًّا من فنون الإقناع في الخطابة العربية لا يجيدها إلا من امتلك ناصية اللغة.
وهناك مسألة مهمة تنبه لها صاحب العقد الفريد, تتعلق بتأثر الكُتّاب سواء أكانوا شعراء أم أصحاب بيان من مشاهير الخطباء وكتاب الرسائل الديوانية في ذلك العصر بكلام الإمام علي (عليه السلام) لأنهم وجدوا في هذا الكلام أسلوبًا بارعًا في الأداء وجودةً عاليةً ومضمونًا قويًا مما دفعهم إلى محاكاة هذا الكلام والتأثر به في كتابتهم الفنية, واستطاع ابن عبد ربه بفطنته أن يتنبه إلى هذه المسالة ومن الأمثلة على ذلك :حديثه عن المبادرة بالعمل الصالح ،في قوله : “ومن قولنا في هذا المعنى:
بادرْ إلى التَّـوْبِة الخَلْصَــاء مُجْتهداً والموتُ وَيْحك لم يَمْدًد إليك يَدَا
وأرقبْ من الله وَعْداً لَيْسَ يُخْلِفُه لا بُـدَّ لله من إنجــاز ما وَعَــدَا
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: فيم أنتم؟ قالوا: نَرْجُو ونَخاف؟ قال: مَن رجا شيئاً طَلَبَه، ومن خافَ شيئاً هَرَب منه.
وقال الشاعر:
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلم تَسْلُك مَسَالكها إنّ السَّفِينَةَ لا تَجْرِي عَلَى اليَبس(5)
ويلاحظ القارئ هنا أن المؤلف أرادأن يشير إلى مسألة مهمة تتعلق بالتناص الحاصل بين الشعر والنثر الفني المتمثل بكلام الإمام, أي إنَّ الشعراء ومنهم الكاتب استفادوا كثيرًا من حِكَمْ الإمام البليغة كونها تحمل صفة الإيجاز فهناك معانٍ كثيرة بألفاظ قليلة.
ومن الأمثلةالأخرى ما ذكره صاحب العقد في حديثه عن القناعة :
(وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: الرِّزق رِزْقان: فرِزْقٌ تطلبه ورِزْقٌ يطلبك، فإن لم تأته أتاك).وقال حبيب:
فالرِّزق لا تَكْمَدْ عليه فإنه يأتي ولم تَبْعـث إليـه رسولا
وفي كتاب للهند:لا ينبغي للمُلتمس أن يَلْتمس من العيش إلا الكفَافَ الذي به يَدْفع الحاجة عن نَفْسه، وما سِوىَ ذلك إنما هو زيادة في تَعَبه وغَمِّه.(6) غفلة ونسْياناً كما تَسْلو البهائم. وهذا الكِلامُ لعليّ ابن أبي طالب كرّم الله وجهَه يُعزِّي به الأشْعَث بن قيْس في ابن له، ومنه أخذه ابن جُرَيْج.
وقد ذكَرَه حبيب في شعره فقال:
وقال عليّ في التعازي لأشْعَثٍ
وخاف عليه بعضَ تلك المآثِم
أتَصْـبِرُ لِلْبلْوَى عَزَاءً وحِسْـبَةً
فَتُؤْجَـرَ أَمْ تَسْلُو سُلـُوَّ البهائم
أتى عليُّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهه لأشْعَث يُعَزِّيه عن ابنه، فقال: (يا أشعث إن تحزن على ابنك فقد استحقت ذلك منك الرحم. وإن تصبر ففي الله منك لمصيبة خلف. يا أشعث إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور. وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور)(7).
ولعل المؤلف انتبه إلى مسألة تأثر الكتاب بشخصية الإمام فكان هذا التأثر على شكل قصائد نقل ابن عبد ربه كثيرًا منها , ومن ذلك ما أورده من أبيات للسيد الحميري :
” قال السيّد الْحِميريّ يَرْثي عليَّ بن أبي طالب كًرَّم الله وَجْهه ويَذكر يومَ صِفِّين:
إنّي أدين بمـا دان الوَصي بـه
وشاركتْ كفُـه كَفِّي بصِفِّيــــنا
في سفْكِ ما سَفكَتْ فيها إذا احتُضِروا
وأبـرز اللّهُ للقِســطِ المَـوازِينـــا
تلك الدِّماء معـاً يا ربّ في عُنقـــــي
ثم اسْـقِني مثلَهـا آمـينَ آمـــينا
آمين من مِثْلهم في مِثْل حالِهـمُ
في فِتْيَــة هاجَرُوا للهّ ساريــنا
لَيْسُوا يريـدون غـيرَ اللهّ رَبِّهـم
نعم المُراد تَوَخَّاه المُرِيدونَا(8)
وأبيات الشاعر هنا تكشف عن فضل الإمام علي(عليه السلام)ومنزلته في عيون الشعراء والأدباء ، تلك المنزلة التي يحاول المؤلف أن ينبه إليها , بغية التأثير في المتلقي ودفعه إلى متابعة منزلتها الشريفة، ولكي يعرف القاصي والداني مكانة الإمام علي (عليه السلام)
عند ربّ العرش عزّ وجلّ ورسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله).
نشرت في العدد 56
(1) العقد الفريد :2/220.
(2) الآية 80 منسورةهود.
(3) الآية 91 من سورة هود.
(4) العقد الفريد : 2/ 198..
(5) العقد الفريد : 6/53, واليتان في ديوان ابن عبد ربّه والبيت الاخر في ديوان ابي العتاهية.
(6) العقدالفريد : 6/53 , والبيت في ديوان الشاعر حبيب : 86.
(7) العقد الفريد : 1/234.والابيات في ديوان حبيب :169.
(8) العقد الفريد : 6/54, والابيات في ديوان السيد الحميري وشرح نهج البلاغة 1/135.