لقد كان للموقع الجغرافي لمنطقة النجف على اعتبار أنها ضاحية من ضواحي الحيرة وتطرفها في الصحراء أثر كبير في انتشار الأديرة المسيحية فيها(1)، أضف إلى ذلك كان لارتفاع منطقة النجف (ظهر الحيرة) وإشرافها على بحر النجف عامل آخر في بناء الأديرة، حيث لم تكن تبنى إلّا بتوافر الماء ويكثر النبات(3).
وأعطى انتشار هذه الأديرة ضمن منطقة النجف بعدًا دينيًا لهما فضلًا عن البعد التاريخي والحضاري، لكن لم تصل إلى أيدينا معلومات محددة عن بناء أول دير في هذه المنطقة، وحتى الشابشتي (ت388هـ) الذي يعد كتابه الديارات من أقدم الكتب المؤلفة في هذا الجانب لم يتعرض لهذا الأمر، لأن الكتاب يكاد يكون قصصًا وتراجم لشعراء أكثر منه وصفًا للأديرة وهذا ما سار عليه من كتب من بعده في هذا الموضوع.
أضف إلى ذلك أنه لم يبق من هذه الأديرة أثر أو بعض الأثر الذي يستدل به عليها وتعيين مواقعها ومرافقها، وخططها، غير الكهوف الموجودة في الجهات الغربية من النجف المعروفة اليوم بـ (الطارات) ويذهب الخليلي بالقول إلى أن هذه : (الكهوف المنحوتة في التلول، إنما هي صوامع ومساكن خاصة للرهبان وعلى مقربة منها تقع الديارات
والمعابد)(4).
ومن ضمن الأديرة المعروفة في منطقة النجف، دير حنه الذي ينسب بناؤه إلى نوح كما ذكر العمري : (هكذا نقلته ولا اعرف من هو)(5) ويبدو هناك تصحيف في الكلمة (نوح) والتي هي اصلها (تنوخ) حسبما ذكره البكري : (وهو دير قديم بناه حي من تنوخ، يقال لهم بنو ساطع)(6)، ويرجع ياقوت تاريخه إلى أيام بني المنذر(7)، ويقابل هذا الدير منارة عالية كالمرقب، تسمى القائم، لبني أوس بن عمرو، وإياه عنىالثرواني بقوله(8):
يا دير حنة عند القائم الساقي إلى الخورنق من دير ابن براق
والملاحظ من البيت الشعري المتقدم يقع في منطقة النجف وذلك لقربه من الخورنق ودير ابن براق على طريق واحد.
وهناك دير آخر يسمى بدير حنه، وقد سماه العمري بدير حنه الكبير(9) ويقع هذا الدير في ظاهر الكوفة والحيرة بالأكيراح(10) وقد بناه عبد بن حنين من بني لحيان(11) ويذكر العمري : (أنه بنيَ حين بنيت الحيرة، وكان من أنزه الأديرة، لكثرة بساتينه وتدفق مياهه)(12)، وفيه يقول أبي نؤاس(13) :
يا دير حنة من ذات الأكيراح
من يصح عنك،فأني لست بالصاحي
رأيت فيك ظباء لا قرون لها
يلعبن منا بالباب وارواح
وقد يرى البعض أن مسجد الحنانة قد أُسس على موضع دير حنة ؛ وذلك من خلال عدة قرائن جغرافية وتاريخية(14)، ويمكن الوقوف على مجمل النصوص والروايات التي توضح هذا الارتباط بينهما.
إذ يرى الخوانساري أن لفظة الحنانة قد صحف من (جبانة)(15) وذلك لكونها جزءًا من الثوية، بينما يذكر البراقي : (ولا نعلم بسبب تسميتها، ولعل ذلك هو الأقرب إنما سموها بالحنانة من حيث قول الصادق (عليه السلام): (إنها انحنت أسفًا وحزنًا على أمير المؤمنين لما جاوزا بسريره عليها. فلذا سميت حنانة)(16)، ويرى كذلك أن الحنانة هي القائم المائل نفسه(17).
على أن القائم المائل كما حددته المصادر الحديثية والروائية هو بالقرب من مسجد الحنانة فيما لو استندنا إلى رأي البراقي، ويمكن الوقوف على هذا الرأي من خلال ما ذكره الإمام الصادق(عليه السلام)
عندما سأله أحد أصحابه عن القائم المائل في طريق الغري، فقال : (نعم إنهم لما جاؤوا بسرير أمير المؤمنين انحنى أسفًا وحزنًا على أمير المؤمنين)(18).
ويرى السيد محمد صادق بحر العلوم أنه بقي مائلًا إلى القرن السادس الهجري إذ مر به السلطان السلجوقي ملك شاه، حيث رأى منارة منحنية من اعوجاجها كأنها واقعة على الأرض كزي الراكع وليس فيها صدع ولا خلة، فسأل عن سبب ذلك فقيل له : إن أمير المؤمنين(عليه السلام) مر عليها فبقيت على حالتها من الانحناء(19).
وقد صور أحد الشعراء هذه الحادثة بقوله(20):
وفيالمنارة إذا حنت عليك فما
لنا في آية حار منها كل متعجب
وقد أوضحت لنا الرواية السابقة أن القائم المائل بناء مستقل لحاله إلى جانب مسجد الحنانة. بينما يرى الطريحي أن دير حنة هو نفسه مسجد الحنانة، وقد تطورت لفظة (حنة) إلى (الحنانة) ويضيف أنه من قرائن الشبه بين دير حنة والحنانة القائم قائم بني مسروق، فقد وردت أن للحنانة قائم أيضًا(21).
على أننا إذا وضعنا مقارنه بين رأي الطريحي وما ذكره الخوانساري نجد هناك اختلافًا كبيرًا بين المعنيين من جميع النواحي وخاصة في ارتباط الموضع الجغرافي، ولايوجد أي تقارب بينهم ؛ لان الخوانساري يرى أن الجبانة قد صحفت إلى حنانة، وذلك لكونها بالقرب من منطقة الثوية، وأما ما ذكره الطريحي فيحاول أن يربط بين الموضعين جغرافيًا بتطور لفظة (حنة) إلى (الحنانة)، والأمر الذي لابد من الإشارة إليه أن هناك ديرين يقعان في منطقة النجف يحملان اسم دير حنة، الأول منهما يعرف بدير حنة الصغير ويقابله منارة عالية تسمى القائم، فيذكر العمري أنه يقع في الحيرة(22) دون أن يحدد موقعه، إلاّ أنني قد حددت موقعه بالقرب من قصر الخورنق استنادًا إلى ما ذكره الشاعر الشرواني(23):
ياديرحنةعندالقائم الساقي
إلى الخورنق من دير ابن براق
والمسافة ما بين قصر الخورنق ومسجد الحنانة أكثر من 5كم حسبما حددنا موقع قصر الخورنق من النجف، فلذا هو بعيد عن مسجد الحنانة ولا وجه للمقارنة بين هذا من جانب، أما دير حنة الكبير فيحدد موقعه بظاهر الكوفة(24) لكن لا يوجد إلى جنبه قائم، ويبتعد عن مسجد الحنانة، وهذا من جانب آخر.
ويقترب إلى رأي الخوانساري السيد ابن طاووس إذ ذكر أن الإمام الصادق(عليه السلام)
أوصى المفضل بن عمر أن يصلي في الجبانة ركعتين لأنها موضع رأس الإمام الحسين(عليه السلام)(25) كما ورد في النص نفسه كلمة (الحنانة).
ويشير ما سنيون إلى أن مسجد الحنانة هو الموضع الذي وضع فيه جثمان الإمام علي(عليه السلام)(26)، إلاّ أن الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ذكرت أنه وضع فيه رأس الإمام الحسين(عليه السلام) ورؤوس إخوانه وأصحابه قبل الدخول بها إلى مدينة الكوفة، وقد روى محمد بن أبي عمير عن المفضل بن عمر قال : (جاز الإمام الصادق(عليه السلام) بالقائم المائل في طريق الغري، فصلى ركعتين، فقيل له : ما هذه الصلاة ؟ فقال : هذا موضع رأس جدي الحسين بن علي (عليه السلام)(27).
على أنه من خلال قراءة هذه النصوص والاختلافات بين المؤرخين حول الارتباط بين مسجد الحنانة ودير حنة قد لا يشكل خلافًا عقائديًا بقدر ما يشكل خلافًاحول الموضع الجغرافي الذي بنيَ عليه كلا العمارتين، على أنه ليس بالبعيد هناك جملة منشآت إسلامية قد بنيت على عمارات مسيحية وخلال عصور مختلفة، إذ وجد المسلمون في البعض منها لها بعدًا دينيًا وعقيديًا ؛ لذلك جسدوا هذا في صرح ديني آخر على بقايا الصرح السابق.
نشرت في العدد 56
(1) ماهر، سعاد، مشهد الإمام علي في النجف وما فيه من الهدايا والتحف، دار المعارف مصر لا.ت، ص96.
(2) المخزومي، مهدي، مدرسة الكوفة ومناهجها في دراسة اللغة والنحو، مطبعة دار المعرفة بغداد 1957، ص19.
(3) جعفر، موسوعة العتبات المقدسة ” قسم النجف ” ط1، دار التعارف. بغداد 1965، الهامش 1/49.
(4) مسالك الأبصار، ص312.
(5) معجم ما استعجم، 2/578.
(6) معجم البلدان، 2/507.
(7) البكري، معجم ما استعجم، 2/578، العمري، مسالك الأبصار، ص312.
(8) المصدر نفسه، ص319.
(9) العمري، المصدر نفسه، ص319، البكري، معجم ما استعجم، 2/579.
(10) البكري، المصدر نفسه، 2/579.
(12) مسالك الأبصار، ص319، السقاف، الاوراق، ص145.
(3 ) ديوان، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت 1965، ص164.
(4 ) الطريحي، الديارات، ص100 – 101.
(5 ) محمد مهدي، تحفة المساجد في أحكام المساجد، ص460.
(6 ) الدرة المضيئة، ورقة رقم 35.
(7 ) الدرة المضيئة، ورقة رقم 35.
(8 ) ابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب، 2/348.
(9 ) السلاسل الذهبية، مخطوطة، ورقة رقم 432 نقلاً عن الطريحي، الديارات، ص101، البراقي رسالة عن الكوفة ” ملحق “، مخطوط مصور في مكتبتي الخاصة، ورقة رقم 32.
(20) ابن شهراشوب، مناقب 2/348.
(21) الطريحي، الديارات، ص100 – 101.
(22) مسالك الأبصار، ص312.
(23) البكري، معجم ما استعجم، 2/578، الحموي، معجم البلدان، 2/507.
(24) البكري، المصدر نفسه، 2/578، الحموي، المصدر نفسه، 2/507، العمري، مسالك الأبصار، ص319.
(25)مصباح الزائر وجناح المسافر، مخطوط في مكتبة الامام الحكيم العامة في النجف الاشرف، رقم 445، ورقة رقم 61.
(26) خطط الكوفة، ص22.
(27) المجلسي ، بحار الأنوار ، 100/282.