Take a fresh look at your lifestyle.

المنهج التربوي عند الإمام الصادق(عليه السلام) – رؤية تحليلية –

0 1٬705

       من خلال استعراض أهم مصـدرين فـي التشريـع الإسلامـي (القرآن الكريم والسنة المطهرة) نجد أن الإسلام الحنيف يؤكد تأكيداً كبيراً أهمية التربية والتعليم في بناء الفرد والمجتمع، ونلاحظ العديد من الآيات الكريمة فضلاً عن العديد من الأحاديث الشريفة للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) التي تحضّ على طلب العلم واكتساب المعرفة، لاسيّما الإمام الصادق(عليه السلام) الذي هو محور البحث، باعتباره كاشفًا عن أبعاد المدرسة التربوية الإسلامية فضلًا عن مدرسته الفقهية المتميزة، نرى في أقواله الشريفة أنه أعطى للتربية مكانة مرموقة ومتميزة جعل منها الركيزة الأساسية في تكوين شخصية الفرد وصقلها ليكون فردًا مسلماً صالحاً داخل المجتمع الذي يعيش فيه.
قبسات من النظم التربوية عند الإمام الصادق(عليه السلام):
من خلال استعراض بعض الأحاديـث الشريفة للإمام الصادق(عليه السلام) ـ على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر ـ نجد أن هذه الأحاديث يكمن في مضمونها مجموعة من النظم التربوية والأخلاقية العالية المضامين والتي تعطي فلسفة واقعية موضوعية ذات صلة بالمنهج التربوي السماوي الذي جاءت به الرسالة المحمدية السمحاء، ومن هذه النظم، ما يأتي:
1. تربية النفس وزجرها:
قوله(عليه السلام): (لَا تَدَعِ النَّفْسَ وهَوَاهَا فَإِنَّ هَوَاهَا فِي رَدَاهَا وتَرْكُ النَّفْسِ ومَا تَهْوَى أَذَاهَا وكَفُّ النَّفْسِ عَمَّا تَهْوَى دَوَاهَا)(1).
إن الإمام الصادق(عليه السلام) يرى أنه من الضروري واللازم أن يعمد الإنسان إلى تربية نفسه، بعد أن يكون للوالدين والأسرة التي يعيش فيها الفرد دورٌ فاعلٌ في صياغة وتربية وتهذيب نفسه، وبلا شك إن النفس البشرية لا بد من أن تربى ويُعتنى بها في كل مرحلة من مراحل العمر وليس فقط في مرحلة الطفولة، وبذلك يكون ردعها وزجرها عن كل ما هو خارج عن حدود الله، وبالتالي يكون للفرد سيطرة على نفسه وهواها.
2. التفكر المستمر:
قال الإمام الصادق(عليه السلام): (أفْضَلُ الْعِبَادَةِ إِدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي اللَّه وفِي قُدْرَتِه)(2)، وقال(عليه السلام):
(التَّفَكُّرُ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ كَمَا يَمْشِي الْمَاشِي فِي الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ بِحُسْنِ التَّخَلُّصِ وقِلَّةِ التَّرَبُّصِ)(3).
هذان الحديثان ضمن عدد من الأحاديث التي جاءت تؤكد التفكر والتفكير المستمر للإنسان في عظمة الله وبديع صنعه وكذلك جميع ما يقوم به الإنسان من أعمال ونشاطات في حياته،صغيرها وكبيرها، باعتبار أن جميع أعمال الإنسان عبادة، وأفضل هذه العبادة هي إدمان التفكر والتفكير وتنشيط العقل.
والنظريات التربوية الحديثة ومنها النظرية البنائية والنظرية المعرفية، ترى أن التفكر والتفكير وما وراء التفكير وما وراء المعرفة كلها من ضروريات التعلم والتربية الصحيحة الناجحة.
وبينت العديد من البحوث والدراسات التربوية أن للتفكير أهمية بالغة الأثر في نفوس المتعلمين، من خلال زيادة الدافعية الذاتية لديهم لغرض التعلم وتمكينهم من التفاعل داخل الصف الدراسي بصورة فعالة وواضحة، ومواجهة العقبات والصعوبات التي تعترض طريقهم في اكتسابهم للمعلومات العلمية، فضلاً عن ذلك إن التفكير يحفز المتعلم على ممارسة العمليات العقلية بنجاح.
3. التقويم المستمر:
قال الإمام الصادق(عليه السلام): (أنْفَعُ الأَشْيَاءِ لِلْمَرْءِ سَبْقُه النَّاسَ إِلَى عَيْبِ نَفْسِه)(4).
وقال(عليه السلام): (أحَبُّ إِخْوَانِي إِلَيَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي)(5).
لا بد من الإشارة إلى أن عملية التقويم المستمر ضرورة حتمية في الميدان التربوي للفرد والمجتمع، من أجل أن يتعرف الأفراد مدى النجاح الذي تحقق في أنفسهم وشخصياتهم وأعمالهم، وما حققوه من إنجاز في ضوء الأهداف المرسومـة التي يطمح كل فرد أن يتوصل إليها.
كما أن تقويم أداء الفرد من قبل نفسه والآخرين يعمل على تشخيص الصعوبات والمشكلات والأخطاء التي لديه والوقوف عليها من أجل تذليلها وتقديم المقترحات لعلاجها، الأمر الذي يؤدي إلى تحسين شخصية الفرد وعلاقته بينه وبين ربه وبينه وبين الناس.
كما أن (التقييم الذاتي للنفس عمل هام وضرورة نفسية واجتماعية، به يتعرف الإنسان إلى صفاته وقدراته العقلية والعاطفية والخلقية، ويرى في نفسه عوامل القوة والضعف، وفكرة المرء عن نفسه من خلال التقييم الصحيح والواقعي، لها الأثر الأكبـر فـي تعييـن سلوكـه ومستوى طموحه)(6).
(وبعد التقييم الذاتي ومعرفة النفس يأتي دور المحاسبة لها التي تسمو بالنفس البشرية وتجعلها تقدم أفضل ما لديها في جانب علاقتها مع ربها وعلاقتها من الآخرين وتعلمها وعملها،وهي تسهم في إيقاف الانحراف، والتوجه إلى الإصلاح والتكامل والبناء التربوي الصالح للفرد نفسه ولذويه وللمجتمع)(7).
4. مدارة الناس:
عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ)(8)، وعنه(عليه السلام) قال: (قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (ثَلَاثٌ مَنْ لَمْ يَكُنَّ فِيه لَمْ يَتِمَّ لَه عَمَلٌ، وَرَعٌ يَحْجُزُه عَنْ مَعَاصِي الله، وخُلُقٌ يُدَارِي بِه النَّاسَ، وحِلْمٌ يَرُدُّ بِه جَهْلَ الْجَاهِلِ)(9).
وقال الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): (رَحِمَ اللَّه عَبْداً اجْتَرَّ مَوَدَّةَ النَّاسِ إِلينا فحَدَّثَهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَ وَتَرَكَ مَا يُنْكِرُونَ) (10).
إن المربّي يجد أصنافاً من الناس يختلفون في أعمارهم وأجناسهم، ويختلفون في طاقاتهم وإمكاناتهم الفكرية والعاطفية والسلوكية، ويختلفون في انتماءاتهم وولاءاتهم الطبقية والقبلية والقومية والطائفية، ويختلفون في درجات قربهم وبعدهم عن الدين، ويختلفون في نظرتهم للمربي من حيث الاحترام والتقدير وعدمهما، ومـن حيـث الثقة به وعدمهـا، وجميـع ذلك بحاجـة إلى المداراة(11).
وهذا ما سنَّهُ الشارع المقدس على لسان المعصومين(عليهم السلام) في التعامل مع الناس، وذلك بسبب اختلاف الطباع والأمزجة والصفات النفسية والجسمية والعقلية بين الناس.
5. التدرج والتسلسل في التربية:
قال الإمام الصادق(عليه السلام): (دَعِ ابْنَكَ يَلْعَبُ سَبْعَ سِنِينَ وأَلْزِمْه نَفْسَكَ سَبْعَ سِنِينَ)(12).
إن الإنسان منذ لحظة ولادته إلى لحظة وفاته يمر بمجموعة من المراحل العمرية ابتداءً من مرحلة الطفولة بنوعيها (المبكرة والمتأخرة ومرحلة المراهقة ومرحلة الشباب ومرحلة الرشد ومرحلة الشيخوخة)، لكل مرحلة من هذه المراحل خصائصها ومميزاتها التي تنفرد بها وتميزها عـن المراحـل الأخـرى، وهـذا مـا أكده علم نفس النمو (الارتقائي)، وإن الإمام الصادق(عليه السلام) لم يغفل هذا التبدل والتطور الذي يطرأ على الفرد، إذ أكد(عليه السلام) تكراراً في هذا القول وغيره من الأقوال على أن التربية حالة إيجابية لكن يجب أن تكون متدرجة ومتتالية مع المرحلة التي يمر بها الفرد، لأن مراعاة التدرج في التربية أحد العوامل المهمة التي تسهم إسهاماً فاعلاً في النجاح التربوي وإن البناء التربوي الصحيح لا يمكن أن يبنى ما لم يكن متلائماً مع الفترة العمرية التي يمر الإنسان، وإن استعمال الأسلوب غير الملائم للمرحلة العمرية سيؤدي حتماً إلى نتائج عكسية وخيمة تترك آثارها الآنية والمستقبلية في بناء وصياغة الشخصية.
والمنهج التربوي لأهل البيت(عليهم السلام) عموماً يواكب حركة الإنسان في جميع مراحلها ابتداءً من مرحلة شريك الحياة المناسب مرورًا بمرحلة الاقتران وانعقاد الجنين ومراحل الطفولة الأخرى،ويضع لكل مرحلة تعاليم، وتوجيهات منسجمة مع عمر الطفل الزمني والعقلي ومع حاجاته المادية والروحية(13).
وهذا التدرج أبرز لنا رأي مدرسة إسلامية مهمة في تربية وتنشئة الأبناء، وبدأت العديد من النظريات التربوية الوضعية تغير من آرائها وفلسفاتها وتنحني إجلالًا أمام هذا الرأي السديد الذي صدر عن المعصوم، وبالتالي عن الرسول الكريم محمد(صلى الله عليه وآله) ثم عن السماء، وعليه تكون هذه الآراء ليس فيها ضعف ولا سلبيات كما في النظريات التربوية والتعليمية الأخرى الموضوعة من قبل البشر.
ولا ننسى أن هذا التوجيه المبارك الصادر من إمام معصوم ذي علم إلهي يمنح المعلمين والمربين وأولياء الأمور خارطة تربوية موضوعية صادقة تسهل عملهم في كيفية التربية والتنشئة الاجتماعية الصحيحة الخالية من الأخطاء والعيوب التي تجعل من عملية التربية عسيرة للغاية.
نستنتج مما سبق:
أن المنهج التربوي عند الإمام الصادق(عليه السلام)
يهدف إلى تشكيل نظام تربوي رصين قائم على أسس علمية موضوعية قيمة وصحيحة، لأن أغلب المناهج التربوية الوضعية تعتمد على أنظمة تربوية وفلسفية بشرية، وعلى الرغم من تقدم وتطور بعضها لكنها لا تستطيع أن تصمد أمام التحديات التي تفرزها المجتمعات والمشكلات التي تظهر بين الحين والآخر، لأن التربية وأنظمتها كافة كلما كانت صحيحة تركت أثراً إيجابياً على تنشئة الفرد وعلى سلوكه وتصرفاته والعكس صحيح، أي كلما كانت ليست بالمستوى المطلوب تركت أثراً سلبياً على تكوين الفرد، فعليه فإن كل ما صدر عن الإمام الصادق(عليه السلام) من توجيهات تربوية كانت عين الصواب لأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وبالدور الذي أوكل إليه كإمام معصوم مفترض الطاعة يمارس دوره الإلهي بصورة واضحة وفاعلة.
وكما يرى الإمام الصادق(عليه السلام) أن تربية الطفل والفرد والمجتمع يجب أن تأخذ مبدأ الوسطية والاعتدال وعدم التطرف باتجاه خاصية معينة دون الخواص الأخرى، فنراه في أقواله وأفعاله وتقريراته يجعل الفرد كله كيانًا واحدًا من كافة النواحي الجسمية والنفسية والاجتماعية والروحية والعقلية، فسعادة الفرد لا تكون في ناحية واحدة بل في جعل الإنسان كتلة واحدة متماسكة لأن كل الحاجات التي توجد لدى الفرد يجب أن تشبع وتكون فيها حالة توازن بين الحاجات البايولوجية والسيكولوجية والعقلية والاجتماعية.

نشرت في العدد 55


(1) الكافي /للكليني ج2، ص 336.
(2) م.ن/ ج2 ص55.
(3) م.ن/ ج1 ص28.
(4) م.ن/ ج8 ص243.
(5) م.ن/ ج2 ص639.
(6): ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت(عليهم السلام)/ شهاب الدين العذاري ص 56.
(7) ن.م ص57.
(8) الكافي /للكليني ج2، ص 117.
(9) الكافي /للكليني ج2، ص 116.
(10) بحار الأنوار/المجلسي،ج 2، ص65.
(11) ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت/ شهاب الدين العذاري ص 54.
(12) بحار الأنوار/المجلسي ج4 ص 10.
(13) الطفل بين الوراثة والتربية /الشيخ محمد تقي فلسفي ص 27.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.