Take a fresh look at your lifestyle.

الإيمان وأثره التربوي عند الإمام الرضا(عليه السلام)

0 683

         ما انفك أهل البيت(عليهم السلام) أصحاب مدرسة مستقلة في ذاتها فريدة في أسلوبها عميقة في جوهرها وأصالتها، فلم يخضعوا رغم شدة الظروف وحراجتها يوماً إلى الظلمة، فكانوا مصدر كل خير.
وإمامنا الرضا(عليه السلام) ـ وهو الامتداد الطبيعي لهذه المدرسة المباركة ـ لقي (من حكام عصره خلال الأعوام العشرين التي عاشها بعد استشهاد أبيه ضروباً من المحن والآلام من نوع آخر، وكان يعاني من وقعها ومرارتها)(1). فكان أن عاش مدرسة آبائه وأجداده بكل ظروفها وأساليبها لم يتجاوزها قيد أنملة بل كان مطبقاً لبنودها، أميناً على أسرارها ناشراً لآرائها وأفكارها الإصلاحية.
والتربية بطبيعة الحال تمثل الركن الأساس لعملية الإصلاح ووسيلة مهمة لتحقيق أهداف المجتمع وفق فلسفته التي يتبناها، وإن القرآن الكريم وسنة المعصوم الركيزة الأساس لهذه الأهداف.
ومن المعلوم أن المنهج الإسلامي في التربية يقوم على أساس إرساء التصور الاعتقادي وجعله المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني نتيجة (حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الإنسان)(2).

ولكن ليس ذلك الاعتقاد الذي يُعيد الإنسان إلى أصل حيواني، أو تربط وجوده بأصل مادي اقتصادي محض، لا يلحظ للروح فيه مكاناً أو دوراً، فالإنسان منذ أن نشأ بحاجة إلى عقيدة تحيي قلبه، وتفسر له سر وجوده في هذا الكون، ودوره فيه. ولا يتحقق هذا الإيمان وآثاره بصورة عشوائية لدى الإنسان، فلا بد من وجود مقدمات معرفية تكون عامل ترسيخ لهذا الإيمان، وذلك أن المنهج الإسلامي لا يرى صحة العقيدة إلا إذا جاءت وليدة تفكير حر وثمرة إقناع تام: فهي أصل الدين وجوهره، وهي عبارة عن إذعان النفس، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالبيان والبرهان، والمقصود بـ(البرهان هو الدليل المؤدي إلى العلم)(3).

وبهذا يتضح أن الإيمان بناؤه رصين وراسخ في نفس الإنسان، بخلاف الإسلام الذي ربما يتمثل به الإنسان في ظاهره من دون اليقين في نفسه، فهذا الإسلام الظاهري لا يؤثر في تربية الإنسان وبنائه البناء الصحيح الذي من أجلهأ الله تعالى القرآن المجيد، فلا يُنتظر منه آثار على الواقع إلا إذا اقترن بالإيمان.
وهذا ما يؤكده الإمام الرضا(عليه السلام) في فكره التربوي، ونلتمسه في قوله: (الإسلام غير الإيمان وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن)(4)،

نعم إن إظهار الشهادتين وسائر الأعمال الظاهرة تجعل الإنسان منتمياً إلى المعنى العام للإسلام، فيتحقق بذلك له وعليه سائر الأحكام الشرعية من حصانة لدمه ونفسه، وكذلك أحكام الطهارة البدنية وغيرها من الأحكام المعنية بالظاهر، إلا أن تحقق الآثار التربوية لا تتحقق بالإسلام فحسب؛ فلا بد من إسلام يتبعه إيمان، إذ (ربما كان – الإسلام – عن دوافع متعدّدة ومختلفة بما فيها الدوافع المادية والمنافع الشخصية، إلا أنَّ الإيمان ينطلق من دافع معنوي، ويسترفد من منبع العلم، وهو الذي تظهر ثمرة التقوى اليانعة على غصن شجرته الباسقة!)(5).
وقول الإمام(عليه السلام) يدل على هذه المغايرة بين الإسلام والإيمان، وبهذا قد (اتفقت الإمامية على أن الإسلام غير الإيمان، وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، وأن الفرق بين هذين المعنيين في الدين كما كان في اللسان، ووافقهم على هذا القول المرجئة وأصحاب الحديث، واجتمعت المعتزلة وكثير من الخوارج على خلاف ذلك، وزعموا أن كل مسلم مؤمن وأنه لا فرق بين الإسلام والإيمان في الدين)(6).
وفي مقاربة قرآنية لفكر الإمام
الرضا(عليه السلام) التربوي نلحظ في وضوح جلي حقيقة ما أقره(عليه السلام)؛ وذلك فيما أنكره الله تعالى على الأعراب، وعاب عليهم التمسك بالظاهر (الإسلام) من دون توغل الإيمان المطلوب في نفوسهم، فقال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا، قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(7)، فنجد إن الله تعالى في هذه الآية قد نفي فيها (الإيمان عنهم وأوضحه بأنه لم يدخل في قلوبهم بعد وأثبت لهم الإسلام، ويظهر به الفرق بين الإيمان والإسلام بأن الإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد، والإسلام أمر قائم باللسان والجوارح…)(8).
إذن لا بد من اقتران الظاهر (الإسلام) مع الباطن (الإيمان)، وبهذا الاقتران تتحقق الآثار التربوية المرجوة، وهنا يشير الإمام الرضا(عليه السلام) إلى هذا المعنى من خلال بيان أركان الإيمان، فيقول(عليه السلام): (الإيمان له أربعة أركان: التوكل على الله } والرضا بقضائه والتسليم لأمر الله والتفويض إلى الله، قال عبد صالح: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ، إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)(9)،

(10) فنلحظ أن هذه الأركان معالم إيمانية لا يمكن استحصالها من مجرد الإسلام الظاهري، فلا بد من أن يكون هناك إيمان ومن علامات الإيمان ما حدده الإمام(عليه السلام) في أركان أربعة المارة الذكر، والتي سوف نختصر مضامين هذا البحث عليها في جزءه الأول، وهي:
أولاً: التوكل: من المعلوم أن يتوكل كل مؤمن على الله عزّ وجل حق التوكل، ويجب أن يقرن التوكل بالسعي والنشاط والأخذ بالأسباب الظاهرة، وقد حث القرآن المجيد على التوكل، فقال تعالى: (..وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(11)، فالتوكل عامل فعال في تربية الإنسان وشدِّ عزيمته، ومن ثم الانحلال من قيود الانهزامية وأولها قيد الخوف، فلا يخشى القوى الاجتماعية المناهضة أن تنحرف به عن العمل بمسؤولياته كإنسان رسالي، بل يستمر على طريق الحق برغم ضغوط الأعداء.

يقول السيد محمد تقي المدرسي: (إن العامل الأساسي الذي سوف يحسم الصراع القائم بين الجاهلية والإسلام هو الخوف، فإذا استرهب الجاهلون جانب المسلمين انهزموا، وهذا ما كان يحدث دائماً، أما إذا تمكن الخوف من قلوب المؤمنين فإن العدو سيهزمهم)(12).
فهذا الركن التربوي الذي يشير إليه الإمام(عليه السلام) يبعد الإنسان عن اليأس، فلا يقع الإنسان المؤمن المتوكل على الله تعالى، لأنه إذا هم أن ييأس من نفسه من جراء تقطع الأسباب، يتذكر أن الله وليه ووكيله، فتتجدد قوته، فينصره الله تعالى بما يستفيده من الإيمان والذكر والتوكل.
ثانياً: التفويض إلى الله تعالى: من أنفع القيم الإيمانية، فهو يرسخ ثقة الإنسان بالله سبحانه فيفوض أمره إلى الله تعالى ويعلم علم اليقين أنه لا ينفعه ولا يضره أحد من الناس ولو اجتمعوا إلا بإذن الله تعالى، ومن كان هذا شأنه تراه تشيع نفسه بالاطمئنان والراحة الجسدية والنفسية والعقلية ومن ثم يحفظه توكله من الاضطرابات وبذلك تكون قيمة الثقة بالله منبع سعادة وصحة الإنسان إضافة إلى كون هذه التربية علامة من علامات الإيمان الصحيح بالله عزّ وجل، وقد أكد ذلك القرآن المجيد في أكثر من مورد، منها قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ، قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ، قُلْ حَسْبِيَ اللهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)(13).
يقول الشيخ الطوسي(ت460هـ) في تفسيرها: (والمعنى إنّ من يعجز عن النفع والضر وكشف الكرب عمَّن يتقرب إليه ولا يتأتّى منه ذلك كيف يحسن عبادته؟! وإنّما تحسن العبادة لمن يقدر على جميع ذلك ولا يلحقه عجز ولا منع، وهو الله تعالى…، وهو القادر على النفع والضّر بما لا يمكن أحد منعه ويمكنه منع كلَّ أحد من خيرٍ أو شرّ)(14).
إن الإيمان بالتفويض له الآثار التربوية التي تدفع الإنسان إلى أن يحيا في هذه الحياة مطمئناً هادئاً واثقاً بالله بأنه سبحانه معه ما دام يسير على نهجه ووفق أوامره.
ثالثاً: التسليم إلى الله تعالى: التسليم ضياء فإذا ما استحكمت الأزمات وتعقدت حبالها وازدادت الضائقات وطال ليلها فالتسليم وحده الذي يشيع للمؤمن النور الذي يقيه من التخبط، ومن أبرز عنوانات التسليم الصبر، والصبر فضيلة يحتاج إليها المؤمن في دينه ودنياه ولا بد أن يبني عليها آماله وأعماله ويجب أن يوطن نفسه على احتمال المكاره من دون ضجر وانتظار النتائج مهما بعدت.
فنلحظ إن الإمام الرضا(عليه السلام) في هذا الركن الثالث، يؤكد على الصبر، والصبر بطبيعة الحال يكون عند الابتلاء، والابتلاء امتحان من الله سبحانه يمحص فيه المسلمين من المؤمنين، وهذا المعنى نلحظه جلياً في نصوص القرآن الكريم، منه في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(15).

فنجد أن هذه الآية الكريمة تربي المؤمنين من خلال إخبارهم بـ(أن أمامهم بلاء ومحنة لن تنالوا مدارج المعالي، وصلاة ربهم ورحمته، والاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها، وتحمل مشاقها، ويعلمهم ما يستعينون به عليها، وهو الصبر والصلاة، أما الصبر: فهو وحدة الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير..)(16)، ومن ثم لا ييأس المؤمن ولا يقنط من رحمة الله تعالى ولا يشكو بل يجب أن تربيه المحن وتزيده إيماناً وثباتاً من خلال التسليم إلى أمر الله.
رابعاً: الرضا بقضاء الله تعالى: الإيمان بقضاء الله تعالى أحد العوامل المهمة التي تنير طريق الإنسان وتوجهه إلى خالقه العظيم، وإن ما من شيء إلا بيده سبحانه، وذلك أن – القضاء – هو النظام المحكم الذي وضعه الله لهذا الوجود والقوانين العامة والسنن التي ربط بها الأسباب بالمسببات(17)،

ومن ثم يعلم الإنسان المؤمن أن ليس مراد الله تعالى من الرضا بقضائه – كما يرى الباحث – باعثاً على الخنوع والنكوص بل هو تربية على الجد والمثابرة، ومن ذلك ما نفهمه من قول الإمام جعفر الصادق(عليه السلام): (أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً، وجعل لكل سبب شرحاً، وجعل لكل شرح علماً..)(18).
(إن المفهوم الإلهي للعالم لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، أو التمرد على شيء من حقائق العلم الصحيح، وإنما هو المفهوم الذي يعتبر الله سبباً أعمق، ويحتم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوة فوق الطبيعة والمادة، ولهذا يزول التعارض بينه وبين كل حقيقة علمية تماماً)(19)، وبهذه التربية يُفتح المجال واسعاً للاختراعات العلمية وكشف أسرار الطبيعة، إذ هي جارية وفق قوانين ثابتة.
وفي ثنايا القرآن المجيد تشير آيات عدّة إلى هذا المفهوم، نختصر على ما جاء في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(20)، فنلحظ قدرة الله سبحانه، وهذا مما يعزز الإيمان ويوجه الإنسان الوجهة الصحيحة من حيث توجيهه إلى الموجودات في بناء علاقة انتفاعية منها، وكذلك تبين (قيمة الإنسان في هذه الأرض، وسيادته على ما فيها من موجودات، ومنها نستطيع أن نفهم المهمّة العظيمة الثقيلة الموكولة إلى هذا المخلوق في ساحة الوجود)(21)

، فتتعزز بذلك الحالة الإيمانية بقضاء الله تعالى والرضا به كما أراده سبحانه من إتباع السنن الطبيعية.
بكلمة.. أكد الإمام الرضا(عليه السلام) على الجانب الإيماني في تربية الإنسان لما فيه من الآثار التي تعزز أهمية المجال الغيبي في سلوكه، والذي يظهر جلياً في أن هناك قوة عظيمة بيدها مقاليد الأمور، كما أن (الإيمان بالله تعالى أصل العقيدة ومحورها، وأساس لغيره من عقائد الدين كالإيمان باليوم الآخر والكتب الإلهية والنبوة ونحوها، وهو أصل للالتزام بما جاء في الدين من العبادات والأخلاق والأحكام)(22)،

وهو الذي يقوي الرقيب الداخلي ـ الضمير ـ والذي يكون نابعاً من الاعتراف باطلاع الخالق سبحانه على الأعمال، وإن خوف المؤمن من جزاء الله العادل، هو الحجر الأساسي في التربية الإسلامية، فكان الإيمان كما حدده الإمام الرضا(عليه السلام) في أركانه الأربعة المتقدمة في حديثه الشريف وأثرها في بناء الإنسان في جانبه الروحي، ومقاربتها بنصوص الذكر الحكيم.

نشرت في العدد 53


الهوامش
(1) هاشم معروف الحسني، سيرة الأئمة الأثني عشر، 2/344.
(2) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 4/117.
(3) الطبرسي(ت548هـ)، مجمع البيان في تفسير القرآن، 7/80.
(4) الصدوق، عيون أخبار الرضا، 2/129.
(5) ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 16/416.
(6) المفيد(ت413هـ)، أوائل المقالات، ص18.
(7) سورة الحجرات، الآية14.
(8) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 18/285.
(9) سورة غافر، الآيات 44-45.
(0) الحراني، تحف العقول، ص332.
(1) سورة المائدة، الآية 11.
(2) من هدى القرآن، 2/196.
(3) سورة الزمر، الآية 38.
(4) التبيان في تفسير القرآن، 9/25.
(5) سورة البقرة، الآية 155.
(6) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 1/286.
(7) ظ: الجرجاني(ت816هـ)، كتاب التعريفات، ص144.
(8) الكليني، الكافي، 1/183.
(9)محمد باقر الصدر، فلسفتنا، ص233.
(20) سورة البقرة، الآية 29.
(21) ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 1/112.
(22) حامد أحمد الطاهر البسيوني، الوصايا النبوية، ص39.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.