Take a fresh look at your lifestyle.

الشرق والغرب ..والسبق الحضاري قراءة في التاريخ

0 679

        إن من أبرز الكتب التي كان لها الأثر الكبير في تطور حركة (الإصلاح)، وانتعاش فكر (النهضة)، ورواج حركة التأليف، والكتابة، وغيرها في أوربا هو (القرآن الكريم)، فلقد كان لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية، ومن ثم إلى اللغات الأخرى الأثر في تطور حركة التأليف، ورواج المؤلفات، واستقطاب معانٍ جديدة لم تكن أوربا، والعالم الغربي يعرفها قبل ذلك، مع العلم أن الترجمة(1) كانت بهدف التعرف إلى الإسلام، ومن ثم معرفة كيفية مقاومته من خلال التعرف إلى أهم مصدر للتشريع فيه ألا وهو (القرآن الكريم).

وأول من قام بترجمة معاني القرآن وبحسب المصادر الأوربية هو رجل الدين المسيحي (بطرس الجليل)(2) رئيس دير كلوني(3) في فرنسا، والذي قام بعدة جولات في الحدود الفرنسية مع بلاد الأندلس بين عامي (1141 م)، و (1143م) هدفها التعرف إلى الإسلام والمسلمين، والذي قرر أن ينقل الصراع مع الإسلام من ساحة الحرب إلى ساحة الثقافة، والفكر. وقد حصل في سعيه هذا على مساعدة أسقف طليطلة (رايموند دو توليدي)(4)، وقام إثر هذه المساعدة بتشكيل مجموعة هدفها ترجمة القرآن كان من أبرز أعضائها (بيير الطليطلي)(5)

الذي كان يجيد العربية، ورجل آخر من أصل إنكليزي هو (روبرت الكتوني)(6)، وطبعت هذه الترجمة لأول مرة في سويسرا عام (1543 م)، كما وظهرت طبعة أخرى عام (1547 م)، ونقلت هذه الترجمة إلى الألمانية عام (1616 م)، ثم إلى الهولندية عام (1641 م)، وفي عام (1641 م) قام (أندري دي ريي) بنقل هذه الترجمة إلى الفرنسية تحت عنوان (قرآن محمد)، وهكذا توالت و تزايدت الطبعات للقرآن الكريم في عدة بلدان أوربية. كما وظهرت ترجمات أخرى، وكتب في الرد على الإسلام شكلت فيما بعد مرجعية أنطلق منها (المستشرقون) في حربهم للإسلام.

إلا أن أعداء الكنيسة من أصحاب المذهب (الأنسانوي) (Humanist) وظفوا ترجمات القرآن الكريم لتعزيز موقفهم من الكنيسة وكل مظاهر التحجر والتسلط، وبادروا في نشر ثقافة جديدة تعتبر الإنسان غاية في حد ذاته، وإعلاء شأن الفرد الإنساني، والتأكيد على حريته الدينية و الذاتية، وإن التعامل معه لابد أن يكون من خلال أنه فرد إنساني لا من خلال الإطار الديني، وإنه لا يحتاج في تعامله مع الآخرين أو مع الرب إلى وسيط كـ (الكنيسة) وما شابهها، وقد كان أكثر ما يشدهم إلى القرآن الكريم هو استغناؤه عن الوسائط، وإعلاؤه من شأن الإنسان، فتنصيص القرآن الكريم أن الله تعالى فضل الإنسان، وكرمه، وسخر له كل شيء، وكونه ـ أي الإنسان ـ أرقى المخلوقات، وغاية الإبداع الإلهي كل ذلك كان يقدم الدعم للنزعة (الأنسانوية) في مساعيها التغييرية، والتي خرج من جوفها الإصلاح الديني الذي عم أوربا، وتواصل ليفجر عصر النهضة فيها.
لقد أخذ رجال عصر (الأنوار)(7) أمثال (فولتير)(8)، و (مونتسكيو)(9)،و(جان جاك روسو)(10)، وكذلك (توماس هوبز)(11)، و(جون لوك)(12)، و(فرنسيس بيكون)(13)، وغيرهم الكثير من الحضارة الإسلامية، وبالخصوص (القرآن الكريم)، من معاني، وبلاغة، واستعارات، وتشبيهات، وتصويرات، وتعلموا منه كيفية التخاطب، وأسلوب التخاطب، وقلدوه في رقة العبارات، واستيعاب المعاني في الألفاظ، وكذلك أخذوا من التراث الحديثي، ومن التراث الأدبي العربي والإسلامي الشيء الكثير. لكن الكثير منهم إن لم نقل الكل لم يُبرزوا ذلك، و لم يُشيروا إلى فضل القرآن ـ و باقي العلوم التي أخذوها من الحضارة الإسلامية ـ في ذلك، بل أوعزوها إلى أنفسهم، و إنها من عندياتهم، ومن تراثهم!!؟

لكن المتتبع الواعي، والمدقق الحصيف يستطيع استخراج مئات بل آلاف الأمثلة على سرقات تمت للحضارة العربية الإسلامية لتوسم بعد ذلك بالسمة الغربية، وتصبح حكراً عليها، ومقرونةً بها.
وإلى ذلك يشير الشيخ النائيني(14)(رحمه الله) بقوله: (… فأخذوا الأصول الإسلامية في حقلي التمدن والسياسة من الكتاب، والسنة، ومن خطب ومواقف أمير المؤمنين(عليه السلام) وبقية المعصومين. وقد اعترفوا بذلك في تواريخهم السابقة منصفين… وأعلنوا أن جميع ما حصلوا عليه من الرقي والتقدم، وما وصل إليه المسلمون في أقل من نصف قرن، كان نتيجة للالتزام بتلك المبادئ وإتباعها…)(15).
ولابد من العلم أن الكثير من الكلمات والعبارات والمصطلحات المستخدمة اليوم في بلاد الغرب وأوربا أصلها عربي، ويمكن مراجعة كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب) (لزيغرد هونكة(16) (17)، وكتاب (فضل الإسلام على الحضارة الغربية)(لمونتغمري وات(18) (19)،

وغيرها من الكتب الأخرى التي أشارت إلى ذلك، والتي ذكرناها، كما وإن آثار قصص ألف ليلة وليلة تُرى في الأدب الأوربي جلية واضحة، وكذلك روميو وجولييت المستوحاة من قيس وليلى، وروبنسن كروسو المستوحاة من حي بن يقظان، والكثير الكثير من ذلك لمن يريد تتبع الجزئيات فإنه سوف يحصل على دراسة ضخمة في هذا المجال. ونجد أمثلة لتلك السرقات في فلسفات وكلمات (رينيه ديكارت)(20)، و(فيلهلم غوتفريد لايبنتز)(21)، و(فرنسيس بيكون)(22)، وغيرهم من الفلاسفة.
وبالعودة إلى دور الترجمة في استلاب الحضارة العربية الإسلامية فلقد كان لمدينة طليطلة دور الصدارة في عملية نقل العلوم العربية، واليونانية إلى اللغة اللاتينية، ومن بعدها تأتي مناطق أخرى أمثال برشلونة، وبنبلونه، وشقوبية في إسبانيا، وبيزيه، وتولوز في فرنسا.
وكان الهدف من تعلم اللغة العربية كما يصرح (فرانز روزنتال)(23) إنه (وبتعلم اللغة العربية باعتبارها لغة العلوم والفلسفة والفكر آنذاك، وبالاطلاع على القرآن وترجمته إلى اللاتينية بهدف وحيد هو الوصول إلى فهم عميق للتفكير الديني الكلامي عند المسلمين، أملاً في أن يصبح الرهبان أقدر على التعرف على هذا التفكير، واستغلال ما كانوا يتصورون أنه مواطن الضعف فيه)(24).
لذا فقد راجت حركة الاستعراب ـ أي تعلم اللغة العربية ـ وهي بالتالي أقدم من حركة الاستشراق، وإن أوربا كانت حريصة كل الحرص على تعلم اللغة العربية وذلك لأهداف عديدة وذات أولويات لديها، منها الانبهار بالحضارة العربية، ومنها التعرف على أصحاب الحضارة التي غزت نصف العالم، ومنها لمواكبة التطور ومجاراته، ومنها لإيجاد مواطن الضعف في هذه الحضارة واستغلالها من أجل تدميرها، ومنها للتعرف على العدو في ساحة السلم لمواجهته عند الحرب، وأسباب أخرى كثيرة لعل ما ذكرنا هو من أهمها، نعم تحولت حالة الانبهار إلى حالة استلاب فيما بعد، ومن ثم إلى حالة تغريب واحتلال وتسلط.

ومن الجدير معرفته (إن حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية و غيرها من الأنشطة الثقافية والعلمية كالاقتباس، والنقل، والاستنباط، والاستيحاء من قبل المستعربين، والأوربيين وإن كانت لأغراض عقائدية… إلا أنها لم تتحول إلى حالة ثقافة شاملة إلا في القرن التاسع الميلادي، بعد أن خبر النصارى الإسبان عمق الثقافة الإسلامية وتعرفوا عليها…)(25).
إن الأيديولوجيا الأوربية مارست أبشع وسائل المصادرة العلمية للنظريات الإسلامية في المجال الإنساني، والحضاري، والعلمي، وانتحلت ما رأته مناسباً لها، وأبرزتها على أنها من أساسيات الفكر الأوربي، وما عصر النهضة إلا العصر الذي امتلأ فيه بطن أوربا بعطاءات الحضارة الإسلامية (بهذه المرحلة دخلت أوربا عصر النهضة وخرجت من العصر الوسيط المتخلف حيث تم فيما بعد تعميم الدراسات الشرقية والإسلامية والتحكم في علومها بتوظيفها في بناء الحضارة الأوربية)(26).

ومن ثم جاءت مرحلة تغريب إفرازات الحضارة العربية المستلبة، وبعدها جاءت مرحلة استعمار الشرق، وتطبيعه على الحضارة المُغربة.
فقضية فضل الحضارة العربية على الحضارة الأوربية شيء لا يمكن نكرانه، وهو دورة من الدورات التاريخية، فيوم يأخذون منا، ويوم نأخذ منهم، وهكذا، فهذا تراث إنساني مشاع للكل، وليس حكراً على فئة دون أخرى، لكن المشكلة في إنكار الفضل، وعدم ذكره، بل قد نرى مقابلة الإحسان بالإساءة.
فكل شخص لا يذكر فضل الآخرين عليه فهو ناكر جميل، وظالم، وسارق لجهود الآخرين، وغير أهل للأمانة كائناً من يكون.

نشرت في العدد 53


الهوامش
(1) أي الترجمات الأولى للقرآن الكريم.
(2) بطرس الجليل أو الموقر (1092 ـ 1156م).
(3) و هو الدير الذي تخرج منه ابابا (أوربان الثاني) مؤجج الحروب الصليبية.
(4) ريموند دو توليدي (1126 ـ 1152م).
(5) من المعتقد إنه كان مسلماً ثم تنصر.
(6) كان لهذا الرجل ترجمة مزعومة للقرآن قام بها عام (1143م) بترجمة بعض المعاني من العربية إلى اللاتينية، و بحسب فهمه الشخصي، و كان هذا الرجل قد تنقل في بعض البلدان الآسيوية قبل انتقاله إلى برشلونة عام (1136م)، و قد كانت ترجمته هذه بالإضافة إلى ترجمة كتب أخرى من العربية إلى اللاتينية قد نمت تحت أشراف و رعاية (بطرس الجليل) الذي أستغله و أستغلها على أكمل وجه، يراجع لذلك : صورة الإسلام في أوربا في العصور الوسطى، ريتشارد سوذرن، ص 80 ـ 82.
(7) عرفت أوربا خلال القرنين(17) و(18م) بروز حركة فلسفية جديدة قادها مفكرون من (فرنسا) و(إنكلترا) ركزت على بناء تصور جديد للمجتمع و للعلم قوامه العقل و الحرية.
(8) فولتير: فرانسوا ماري أرواي (1694ـ1778م).
(9) مونتسكيو (1689 ـ 1755 م).
(10) جان جاك روسو (1712 ـ 1778 م).
(11) توماس هوبز (1588 ـ 1679 م).
(12) جون لوك (1632 ـ 1704 م).
(13) فرنسيس بيكون (1561 ـ 1623 م).
(14) الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني (1273ـ1355 هـ).
(15) تنبيه الأمة و تنزيه الملة، النائيني، ص 94.
(16) زيغريد هونكة (1913 ـ 1999م).
(17) ص 17 ـ 30.
(18) وليام مونتغمري وات (1909 ـ 2006 م).
(19) ص 115 ـ 125.
(20) رينيه ديكارت (1596 ـ 1650م) فيلسوف و فيزيائي و رياضي فرنسي.
(21) فيلهلم غوتفريد لايبنتز (1646 ـ 1716م) رياضي و فيلسوف و مخترع ألماني.
(22) فرنسيس بيكون (1561 ـ 1623م).
(23) فرانز روزنتال (1914 ـ 2003م).
(24) المستشرقون الألمان، يوهان فوك، ص 15.
(25) الإسلام و شبهات المستشرقين، فؤاد كاظم المقدادي، ص 63.
(26) كما يقول الدكتور ياسين عريبي، نقلاً عن كتاب الإسلام و شبهات المستشرقين، فؤاد كاظم المقدادي، ص 73.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.