قال تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْـرًا إِلَّا الْمَـوَدَّةَ فِـي الْقُـرْبَى)(الشورى:23)، وقال أيضا: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(المائدة:55).
فرض الله(عزوجل) محبة أهل البيت(عليهم السلام) وطاعتهم على العباد وقرنها بطاعته كما صرحت الآيات القرآنية، وصرح رسول الله(صلى الله عليه وآله) بذلك، بقوله: (إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي)(1)، لكن الأمة عصت أمر الله وأمر رسوله في وجوب الطاعة والمحبة.
فانقلبت عليهم في حادثة السقيفة المشهورة وحرفت تأويل آية المودة إلى غيرهم كما يصرح ذلك الشامي للإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) في دمشق، فيقول: (بالله إنكم هُم؟)(2)، فما كان من أهل البيت(عليهم السلام) إلا العمل على بناء الجماعة الصالحة داخل المجتمع الإسلامي،الجماعة التي تؤمن بما أراده الله عزوجل من انقياد الأمة لأهل البيت(عليهم السلام).
فلم يتوسلوا بقوة السلاح لاستلام السلطة ولا بإغراءات المال لكسب المودة ومحبة الناس وإنما كانت سيرتهم(عليهم السلام) بالحفاظ على الإسلام وتطبيق تعاليم وروح الإسلام بشكل عملي، لا كما كانت السلطة الحاكمة تطبق الإسلام بظاهره وهي بعيدة كل البعد عن روحه.
هذا النهـج الواضـح مـع المـظلومية الكبيرة التي تعرض لها أهل البيت(عليهم السلام) مع العدالة التي ذاق حلاوتها الناس أيام حكم الامام أمير المؤمنين(عليه السلام)،هذه الأمور جعلت المسلمين تتعلق بأهل البيت وبدأت تتكون الجماعة الصالحة التي تؤمن بالإمامة وأحقيتها بقيادة الأمة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله).
ففي أيام إمامة الإمام الحسين(عليه السلام)سنة (60هـ) هلك معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية، ووليَ الأمر من بعده (يزيد) وهو رجل فاجر فاسق شارب للخمر قاتل النفس المحرمة مُعلن بالفسوق، رفض الإمام(عليه السلام) مبايعة يزيد، وقال لمروان: (إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد، ولقد سمعت جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: الخلافة محرمة على آل أبي سفيان)(3)،
وكان رفض الإمام لمبايعة يزيد أيام حكم معاوية عندما أخذ البيعة لابنه من وجوه الصحابة، فكان مما قاله لمعاوية (..وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمة محمد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوبًا، أو تنعت غائبًا، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصرًا)(4)،
ورفض الإمام الحسين(عليه السلام) مرة أخرى البيعة ليزيد وذلك عندما دعاه الوليد حاكم المدينة ؛فقال له الامام(عليه السلام): (أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة.)(5).
وبدأ الامام بمطالباته السلمية لإعادة حقه وإنقاذ دين وأمة جده رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فخرج من المدينة إلى مكة، ومكة ملتقى وفود جميع الأمصار الإسلامية فالإمام الحسين(عليه السلام) هو الشخصية الإسلامية الوحيدة التي يتشوق جميع المسلمين إلى الالتقاء بها والسماع منها لمكانته من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو الممثل الشرعي الوحيد للإسلام.
وهنا انتشرت الأخبار في الأمصار الإسلامية بأن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) لم يبايع وأنه خرج على يزيد، فبعث أهل الكوفة وفد إلى مكة المكرمة للقاء الإمام(عليه السلام)(6)،
وأرسلوا الرسائل فكانت أولى تلك الرسائل من (سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر)(7)، وتتابعت الرسائل حتى (ملأت خُرْجَيْن)(8)،فبعث لهم الإمام ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب(عليه السلام) سفيراً له في الكوفة وكتب معه إلى أهلها: (بسم الله الرحمن الرحيم.. من الحسين بن علي إلى الملأ من المسلمين والمؤمنين. أما بعد: فإن هانئًا وسعيدًا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم: أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق. وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقثي من أهل بيتي، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجا والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله. فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام).(9)
والمتتبع لكتب أهل الكوفة يشم منها رائحة العمل المسلح وإعداد الجند المجندة، بينما يقول لهم الإمام(عليه السلام) إنكم تريدون من يسير بكم على الهدى والحق ويطلب منهم وحدة الكلمة ثم يحدد(عليه السلام) صفة الحاكم العادل.
ويبدو أن الإمام(عليه السلام) أراد بناء عقلية الأمة الإسلامية في إطار دولة القيم الإنسانية والإسلامية والحريات الشخصية، لا بناء دولة القتل والقتال والسلاح وهذا ما يُطلق عليه في مصطلحنا المعاصر (الدولــة المدنيــة).
وصل مسلم بن عقيل في الخامس من شوال بعد أن خرج في النصف من رمضان وهو يحمل معــه كتاب الإمام الحسين(عليه السلام) إلى الكوفيين وروح عمه أمير المؤمنيــن(عليه السلام)
في طريقة الحكم وقيادة الأمة.. نزل دار المختار الثقفي وهو من وجوه الشيعة وكانت لــه خطة عمل نلخصها بالاتي:
أخذ البيعة للإمام الحسين(عليه السلام) وكانت كبيعة عمه أمير المؤمنين(عليه السلام).
لم تكن بيعة قبائل على يد زعمائها ولا وجوه القوم عن العامة، بل كل رجل يبايع عن نفسه، هذا ما نفهمه من كلام عابس بن شبيب الشاكري وحبيب بن مظاهر الأسدي عند إعطائهم البيعة، حيث خطب عابس قائلًا: (أما بعد فإني لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم وما أغرك منهم؟ والله أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه والله لأجيبنكم إذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلا ما عند الله) وانبرى حبيب مخاطب عابساً، قائلاً له: (رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك.. ثم قال وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه)(10)،
وهو خلاف ما كان متعارف عليه عند العرب،إذ كانوا يأخذون بيعة زعيم القبيلة عن قبيلته ووجوه القوم عن العامة، فكانت طريقة أخذ البيعة تحاكي ما يعمل به اليوم في الدول التي يصطلح على نظام الحكم فيها بالنظام الديمقراطي أو الدول الديمقراطية.
2ـ فتَحَ ديوان أحصى فيه أسماء المبايعين، فبلغ عنده ثمانية عشر ألفاً، كما يصرح بذلك في كتابه إلى الامام الحسين(عليه السلام)
مع عابس بن شبيب الشاكري وقيس بن مسهر الصيداوي،حيث كتب: (أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله وان جميع أهل الكوفة معك وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفا فعجل الإقبال حين تقرا كتابي والسلام عليك ورحمة الله وبركاته)(11). وكان ذلك في التاسع من شهر ذي القعدة سنة 60هجرية.
وهنا أصبحت الكوفة ـ عمليًا ـ خارج الإدارة الأموية وانحصر الحكم في قصر الإمارة، وتحقق مؤقتا ً ما أراده الإمام(عليه السلام)
من رفض الأمة للظالم وهو ما يعرف بمصطلحنا السياسي المعاصر (العصيان المدني).
وهنا يستوقفنا أمر: فعندما أصبحت الكوفة بيد أهل البيت(عليهم السلام) لم يتحركوا عسكرياً للسيطرة على قصر الإمارة وهو مركز السلطة، وإنما كان الموقف انتظار وصول الإمام(عليه السلام) ليسيطر الطوفان الجماهيري على قصر الإمارة أو تقوم السلطة المرفوضة من قبل الأمة بالاستسلام، دون استخدام القوة وهذا يحاكي ما قام به رسول الله(صلى الله عليه وآله) عندما ذهب معتمراً إلى بيت الله الحرام حسب شروط صلح الحديبية فدخل مكـــة بغير قتال. (وهذا ما سيحصل إن شاء الله عند ظهور ولي الله الأعظم(عج) حيث ستسلم لــه الشعوب القيادة دون قتال).
وبينما كانت الجماهير تعيش حالة النشوة حالمة بعذوبة وحلاوة عــدالة حكومة الإمام علي(عليه السلام)، فجأة يتغير المشهد على مسرح الأحداث في الكوفة، حيث بن زياد في قصر الإمارة وبدأ بإطلاق كلماته النارية مستخدماً الترهيب والترغيب، فبدأ فصل جديد من المواجهة تطلب إجراء تغيرات على الساحة، فانتقل
مسلم(عليه السلام) من دار المختار الثقفي إلى دار هانئ بن عروة المرادي، لإعطاء الحركة طابع السرية ولأن هانئ مطاع في قومه مذحج (أكثر) من طاعة المختار في قومه ثقيف، حيث إن ثقيف لم تشتهر بالتشيع.
يقول الشيخ باقر القرشي عن هانيء: (فهو سيد المصر وزعيم مراد وعنده من القوة ما يضمن حماية (الثورة) والتغلب على الأحداث، فقد كان كما يقول المؤرخون، إذا ركب يركب معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، فإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف
دارع)(12).
وقد روت لنا كتب التاريخ ـ قصة لا نريد الدخول في تفاصيلها ـ، بأن فرصة ذهبية قد أتيحت لمسلم(عليه السلام) للقضاء على بن زياد في دار هانئ وذلك عندما جاء لزيارة شريك بن عبد الله الأعور، إلا أن مسلمًا أبى أن يكون غادرًا وفاتكًا بعدوه،وقال قوله المشهور وهو قول رسول الله(صلى الله عليه وآله): (إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن)(13).
وهكذا تمضي الأيام ثقيلة على الجميع وابن زياد يدبر المكائد للخروج من المأزق حيث لم يكن معه في القصر إلا الذين باعوا دينهم وشرفهم وضمائرهم بثمن بخس، وكان هؤلاء النفر الضال قد أحاطوا ابن زياد بمكان مسلم(عليه السلام) وتحركاته وأنه يلقى الدعم من هانئ بن عروة المرادي.
يقول الشيخ باقر شريف القرشي(رحمه الله):
(وعلم الطاغية أن هانئاً هو العضو البارز في الثورة…. وأن داره أصبحت المركز العام للشيعة والمقر الرئيسي لسفير الحسين(عليه السلام)،
فلماذا لم يقم بكبسها وتطويقها بالجيش ليقضي بذلك على الثورة؟ وإنما أحجم عن ذلك لعجزه عسكرياً، وعدم مقدرته على فتح باب الحرب)(14).
فدبروا المكائد لتوجيه الضربات القاضية لحركة مسلم(عليه السلام) فاستدرجوا هانئًا إلى قصر الإمارة وتم اعتقاله رغم مالَهُ من مكانة اجتماعية وعشائرية، فاستقبله بن زياد بعنف وشراسة، وقال المثل المشهور:(أتتك بحائن رجلاه)(15)، وعند اعتقال هانئ، ثم قتله ــ وهو ذو النفوذ والجاه والقوة ــ، سيطر الخوف والذعر على كثير من وجوه القوم.
عندها تخاذل الناس عن نصرة مسلم بن عقيل، خصوصًا وأنه لم يكن مأمورًا بقتال.. وحدث ما حدث، باستشهاده في التاسع من شهر ذي الحجة سنة 60هجرية، في حادثة مروعة كانت باكورة مشروع الشهادة الذي قاده ونفذه سيد الشهداء(عليه السلام)،
فكان أول شهيد للنهضة الحسينية المقدسة… وليثبت أنه جاء مبعوث إمامة لا مبعوث إمارة، وأن التاريخ لا يُصنَع صدفة ولا تصنعه المواقف العابرة، بل يصنعه الرجال بمواقفهم الكبيرة وتضحياتهم الجسيمة.
نشرت في العدد 53
الهوامش:
(1) المعجم الصغير/الطبراني ج1.
(2) بحار الأنوار/ألمجلسي ج45 ص129.
(3) بحار الأنوار/ألمجلسي ج44 ص326.
(4) الإمامة والسياسة / الدينوري ج1 ص160
(5) اللهوف في قتلى الطفوف/ابن طاووس ص17.
(6) حياة الإمام الحسين بن علي(عليه السلام)، باقر شريف القرشي؛ ج2 ص345.
(7) نفس المصدر.
(8) مقتل الحسين(عليه السلام)/المقرم؛ ص160.
(9) حياة الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام)/باقر شريف القرشي؛ ج2 ص355.
(10) تاريخ الطبري/ج4 ص264.
(11) مثير الأحزان /ابن نما الحلي ص21.
(12) حياة الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام)/باقر شريف القرشي؛ ج2 ص386.
(13) بحار الأنوار /المجلسي ج44 ص344.
(14) حياة الامام الحسين بن علي(عليهما السلام)/باقر شريف القرشي؛ ج2 ص386.
(15) نفس المصدر ص388.