يعتبر التراث الفكري أحد المعايير الهامة التي تقاس بها حضارات الشعوب، ويستطيع المؤرخون من خلال ما يجدونه من تقييم حضارة من سبقوهم وما مدى بذلهم وعطائهم للارتقاء بشعوبهم وبناء أوطانهم، ولم تعرف حضارة قديمة إلا بتراثها الفكري والروحي كركيزة هامة تدل على عطاء من تركوا ذلك التراث أو الأثر الخالد، من كتب ومخطوطات ووثائق وغيرها، ويعد التراث الفكري علامة فارقة في تاريخ البشرية وهو نقطة مضيئة في سبيل خدمة الإنسانية بمجالات عديدة وعبر مراحل وحقب تاريخية مختلفة، وهذا التراث الضخم الذي ينم عن حضارة عريقة،
كان ومازال محط أنظار واهتمام ومتابعة ودراسة عددٍ من المهتمين بهذا الجانب من الباحثين والدارسين وطلاب العلم بمختلف مستوياتهم الفكرية والمستشرقين ومن حذا حذوهم بما يخدم الإنسانية، ويعود بالنفع على بني البشر، وحسب المؤشرات والدلائل فإن اهتمام الدول غير الإسلامية بالتراث الفكري العربي الإسلامي بما له من قيمة عالية وخاصة المخطوطات والوثائق بمختلف العلوم أكبر من اهتمام الدول العربية والإسلامية به، من حيث طرق الصيانة والترميم لديهم، والأجهزة المستخدمة في الحفظ والاسترجاع، وطرق حمايتها من السرقة والضياع والتلف واستقرار بلدانهم اقتصاديًا وسياسيًا، الذي يعد من أهم الأسباب رغم حصولهم عليها بطرق غير مشروعة، كالسرقة والاحتيال والاحتلال والتهريب!!! وعملية التوثيق تحتاج إلى النظرة الفاحصة والمتأنية، فليس كل ما حدث يصلح لأن يدخل في نطاق ما هو تاريخي يستحق التوثيق، فلابد من خضوع الوثيقة للنقد والفحص والمطابقة، للتأكد من صحتها ومصداقيتها، وذلك بمقارنتها بالمصادر والمراجع الأخرى، كالمطبوعات القديمة والروايات المتواترة والمخطوطات والوثائق التي تعود للحقبة الزمنية ذاتها.
والتزوير آفة ومرض عضال ينخر في جسد الشعوب ويفتك بها ويجر عليها الويلات والمصائب، وقد عرفته جميع الحضارات أُممًا وشعوبًا قديمًا وحديثًا، والمؤرخون قسموا أسباب تزوير الوثائق والمخطوطات التاريخية إلى أسباب سياسية، ويقصد بها محاولة محاباة السلطة الحاكمة وذوي النفوذ وإثبات حقوق وتاريخ أو نسب ليس لهم عن طريق التزوير والتدليس لغاية ما أو لأسباب اقتصادية، بغرض الربح المادي أو المعنوي، إذ يهدف الفاعل من وراء قيامة بتزوير وتحريف المخطوطات والوثائق إلى بيعها بأسعار خيالية. وهناك حوادث كثيرة جرت في هذا الصدد،منها قيام عدد من المحترفين ببيع وثائق مزورة ومحرفة بمختلف مراحل التاريخ بأسعار كبيرة، بعد أن علموا أن المشتري يطلب وثائق تخص أسرته أو قبيلته،
وعلى الباحث قبل أن يعتمد على أي وثيقة قديمة في أبحاثه التاريخية أن يقوم بتحقيقها ودراستها والتأكد من صحتها. إذا تيسر للباحث المقارنة بين الصورة والأصل للوثيقة التاريخية، فيجب عليه أن يطابق بينهما في المراكز الأرشيفية إذا تمكن من الاطلاع على الأصل، أو الصورة بمسمياتها المختلفة (المايكرو فلم، أقراص ليزرية، فوتو…………) وكذلك عليه أن يتأكد أن لها ترقيمًا في الأرشيفات إذ إن الكثير من الوثائق نسبت إلى مراكز علمية عربية وأجنبية، إسلامية وغير إسلامية دون أن تكون مقيدة، ولا وجود لها في تلك المراكز، وأن التزوير لم يقتصر على كتابة الوثيقة فقط، فقد يحدث تزوير متعمد أو غير متعمد أثناء الصيانة والترميم أو التجليد، أو من خلال نقل وترجمة الوثائق التي كتبت باللغات غير اللغة العربية أو بمختلف الخطوط القديمة، وهنا يعتمد الباحث على مصداقية المترجم أو الخبير ومقدرته على نقل مضمون الوثيقة بشكل صحيح من لغتها الأصلية، وأن الوثيقة المزورة يستدل عليها من نوعية الورق وعمره والخط والزخرفة والأحبار المستخدمة والختم والتوقيع والتملكات فضلًا عن النسخ واسم الناسخ والمؤلف وأسلوبه بالكتابة، وهناك محاولات البعض من المزورين دفن الوثائق تحت الأرض أو استخدام مواد كالشاي أو حافظات حرارية وغيرها من الحيل لكي تعطي الوثيقة صفة القدم، أصبحت مكشوفة في ظل وجود الأجهزة والتكنولوجيا الحديثة التي تكشف أساليب وطرق التزوير، وقد كان السبق للعرب والمسلمين في معرفة وكشف ظاهرة التزوير وطرقها والسبل التي يسلكها المزورون، والطرق التي يتبعها العلماء لاكتشاف الوثائق والمخطوطات المزورة، من خلال تدقيق وتمحيص عميقين.
ومن الطرائف والقصص عن التزوير التي تحفل كتب الأدب والتراث بطائفة منها ما جاء في كتاب (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة ج1ص57) للقاضي التنوخي نورد بعضا منها:
(إنّ رجلًا دامت عطلته، فزوّر كتبًا عن عليّ بن محمد بن الفرات، وهو وزير، إلى أبي زنبور عامل مصر، وخرج إليه، ولقيه بها فأنكرها أبو زنبور، لإفراط التأكيد فيها، وكثرة الدعاء للرجل، وأنّ محلَّه عنده لم يكن يقتضي ذلك الترتيب، واستراب بالخطاب أيضًا.فوصل الرجل بصلة يسيرة، وأمر له بجراية، وقال: تأخذها إلى أن أنظر في أمرك.وأنفذ الكتب في خاصّ كتبه إلى ابن الفرات، وشرح له الصورة، وكان فيها: إنّ للرجل حرمة وكيدة بالوزير، وخدمة قديمة.قال: فوصلت الكتب إلى أبي الحسن بن الفرات، وأصحابه بين يديه فعرّفهم الصورة، وعجّبهم منها، وقال: ما الرأي في أمر الرجل؟ فقال بعضهم: تقطع يده لتزويره على الوزير.وقال بعضهم: يقطع إبهامه.وقال بعضهم: يضرب ويحبس. وقال بعضهم: يكشف لأبي زنبور أمره، ويتقدم إليه بطرده، ويقتصر به على الحرمان مع بعد الشقّة. فقال ابن الفرات: ما أبعد طباعكم عن الجميل، وأنفرها من الحرّية، رجل توسّل بنا، وتحمّل المشقّة إلى مصر، وأمّل بجاهنا الغنى، ولعلَّه كان لا يصل إلينا، ولا حرمة له بنا فيأخذ كتبنا، فخفّف عنّا بأن كتب لنفسه ما قدّر أنّ به صلاحه، ورحل ملتمسًا للرزق، وجعلنا سببه، يكون أحسن أحواله عند أجملكم محضرًا الخيبة؟
ثم ضرب بيده إلى الدواة، وقلب الكتاب المزوّر، ووقّع عليه بخطه: هذا كتابي، ولا أعلم لأيّ سبب أنكرته..). فأجزل عطيته وتابع بره ووفر حظه من التصرف فيما يصلح له، ثم بعد مدة طويلة دخل الرجل الذي زور الكتاب على ابن الفرات باكيًا شاكرًا فسأله الوزير بن الفرات: مالك؟ فقال:أنا صاحب الكتاب المزور إلى ابن زنبور. فضحك ابن الفرات وقال: الحمد لله، أيها الرجل الزمنا فإننا ننفعك إن شاء الله.
ويسلك المزورون والمحرفون أساليب شتى في التزوير والتحريف، فمن هذه الأساليب المتبعة:
التزوير بواسطة المحو أو الإضافة أو كليهما معا في النصوص الأصلية للوثيقة أو المخطوط عن طريق المحو العادي أو الميكانيكي أو المحو الكيميائي أو الكشط، ويقصد بها سلخ الورقة بسكين حادة، دون ترك أثر ظاهر تدركها العين المجردة في الضوء العادي، ويثبتون بدلًا من النص الأصلي الممحو نصا آخر، وأكثر ما يتعرض للتحريف في نصوص وبيانات المخطوطات تاريخ نسخها، واسم الناسخ ومكان النسخ والتملكات وعنوان المخطوط واسم المؤلف.
تفكيك المخطوط لاستبعاد بعض أوراقه ووضع أوراق أخرى كصفحة العنوان أو الخاتمة بعنوان جديد مع اسم مؤلف وتاريخ نسخ آخر.
تفكيك بعض مخطوطات المجاميع لإفرادها في كتب أو رسائل مستقلة ثم القيام بتجليدها تجليدًا مستقلًا لعرضها على أنها مجموعه من المخطوطات بدلًا من عرضها كمخطوطةٍ واحدةٍ في مجلد واحد بقصد الربح المادي، وأحيانًا يتم استبعاد كتاب مهم أو رسالة نادرة أو فريدة داخل المجموع ثم يتم إعادة تجليد المجموع لغاية ما!
4- إزالة أختام الوقف وشطب التملكات خاصة المخطوطات المسروقة من مكتبات رسمية كما حدث في العديد من مكتبات العراق إبان أحداث عام1990 و عام 2003.
5- طمس اسم الناسخ و تاريخه ومكان النسخ أو اسم المالك ويكون بإضافة اسم ناسخ آخر أو تاريخ نسخ آخر.
6- التزييف بالنقل إذ يعتقد المزيفون أن التزييف بالنقل أنجح طرق التزييف، فهو في سهولته قد يغرر بالعين الفاحصة، والتزييف بالنقل نوعان: التزييف بالنقل المباشر والتزييف بالنقل غير مباشر.
نشر في العدد 53
مصادر البحث
*الآلوسي_ سالم عبود _تزوير الوثائق والمستندات قديمًا وحديثًا محاضرة صنعاء اليمن 1999.
* طه باقر_ مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ج2 بغداد 1956.
* هواويني_ نجيب بك_ التزوير الخطي.
* عبد المجيد_ رشيد_ التزوير وتطبيق المخطوطات.
*الجبوري_تركي عطية عبود-الخط العربي الاسلامي1975.