العدوان في اللغة والإصطلاح
في اللغة
العدوان مشتق من الفعل عدا، قال ابن منظور: (عدا فلان عدْواً وعُدُوّاً وعدواناً اي ظلم ظلماً جاوز فيه القَدْر)، فالعدوان ليس ظلماً فقط، وانما هو تجاوز لحدود الظلم إلى الفتك والإضرار بالآخرين(1).
العدوان في الإصطلاح
لقد اختلف الباحثون والمفكرون في إعطاء مفهوم موحد للسلوك العدواني إلاّ أنهم قد اشتركوا في المضامين ذاتها، ولذا عُرّف (بأنه مصطلح يشير إلى جرعة واسعة من السلوكيات التي تهدف إلى إيذاء شخص آخر)(2)، وعُرَّف أيضاً (بأنه انحراف سلوكي معادٍ للمجتمع)(3)، فيما يعتقد آخرون (بأنه سلوك علني تكون فيه نية إلحاق الضرر الجسدي على فرد آخر)(4)،
بالمقابل فسّرهُ فريق آخر (بأنه أي شكل من أشكال السلوك اللفظي أو الجسدي الذي يهدف إلى الإضرار بالأفراد أو الممتلكات أو الكائنات)(5)، وفي ضوء ما سبق يتضّح بأن السلوك العدواني (هو مجموعة من السلوكيات المادية وغير المادية التي تهدف إلى الإضرار بمصالح الآخرين والتقليل من شأنهم بغية تحقيق مكاسب شخصية).
الرؤية التأريخية للسلوك العدواني
من يقرأ التأريخ بتمعن يجد أن السلوك العدواني ضاربٌ بجذوره في الماضي البعيد، لذا نحاول في هذه العجالة أن نستعرض بعض الشواهد التأريخية بإيجاز، إذ كانت بداية الخليقة منذُ أبينا أدم وأمّنا حواء(عليها السلام) وولديهما هابيل وقابيل وفيها أن قابيل قتل أخاه نتيجة لتقبل الله سبحانه وتعالى قربان هابيل ولم يتقبله من الآخر كما في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27) إذ كان هذا يمثل البداية الأولى للسلوك العدواني لبني البشر، ومع مرور الأيام والسنين وصولاً لحادثة نبي الله يوسف(عليه السلام) وهو الولد المقّرب لأبيه النبي يعقوب(عليه السلام) وكان أخوة يوسف مستائين من هذا الأمر فقرروا الخلاص منه وقتله لكنهم تراجعوا ثم قرروا بعدها رميهُ في بئر عميقة حتى يلتقطه بعض السيارة، قال تعالى: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (يوسف: 10)،
وفي هذه الآية دلالات واضحة على نشوء السلوك المنحرف وما كان ذلك إلا بدافع الحسد، ثم توالت الأيام حتى عهد نبينا محمد(صلى الله عليه وآله) عندما بدأ بالدعوة للدين الإسلامي، نعته بعض العرب الذين يكيلون له العداوة والبغضاء بالعديد من الأوصاف من نحو (الساحر والمجنون) ونشروا الإشاعات والأكاذيب بقصد الإساءة والنيل من الرسالة المحمدية، ثم امتد ليشمل آثار هذا السلوك حياة الإمام علي بن أبي طالب والإمام الحسن(عليه السلام)، ومن ثم وصل هذا السلوك إلى أوجّه في حكم يزيد بن معاوية (عليه لعائن الله) وما فعله في الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه(عليهم السلام) إبان فاجعة الطف الأليمة التي سالت فيها أزكى وأعظم الدماء لا لسبب سوى أنهّم رفضوا الضيم والذلة وهيهات منهم الذلة، إذ قُّتلوا وذُبحّوا وشُّردوا وسُلِّبوا وسُبوا من أجل ديمومة وبقاء صوت الإسلام الحق والحرية عالياً ومدوياً في سماء الأحرار،
فقد روى الذهبي: عن الفرزدق قال: لما خرج الحسين(عليه السلام) لقيت عبد الله بن عمر، فقلت: إن هذا قد خرج فما ترى؟ قال: أرى أن تخرج معه فإنك إن أردت دنيا أصبتها وإن أردت آخرة أصبتها(6)، فإن دل ذلك فيدل على صلاح مسيرة الإمام وسلميتها وعدم تلوثها بالشوائب العدوانية التي تلون العقلية الأموية متمثلة بجائرها يزيد بن معاوية، وهذا ما أكده الإمام الحسين(عليه السلام) في قوله لأخيه محمد بن الحنفية في وصية له: (إنّي لَمْ أَخْرُجْ أشِراً، وَلا بَطِراً، وَلا مُفْسِداً، وَلا ظالِماً، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ في أُمَّةِ جَدّي (صلى الله عليه وآله)، أُريدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسيرَ بِسيرَةِ جَدّي وَأبي عَليِّ بْنِ أَبي طالِب (عليه السلام)، فَمَنْ قَبِلَني بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللهُ أَوْلى بِالْحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هذا أَصْبِرُ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْني وَبَيْنَ الْقَومِ بِالْحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمينَ)(7).
فكان الإصلاح شعار الإمام الحسين (عليه السلام) وديدنه الذي ورثه عن جده سيد البشر أجمعين فقد روى الطبري عن عقبة بن أبي العيزار فذكر خطبة الحسين الإمام(عليه السلام) فقال: (قال: أَيُّهَا النّاسُ ! إِنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله) قالَ: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. أَلا وَإِنَّ هؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّيْطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيءِ، وَأَحَلّوُا حَرامَ اللهِ،وَحَرَّمُوا حَلالَهُ)(8)،
لذلك نستقرئ من نص خطبة الإمام(عليه السلام) أن يزيد بن معاوية كان سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، وهذا يؤشر بما لا يقبل الشك بأن يزيد كان عدواني السلوك الذي تمثل بشكلٍ واضح وجلي في سيرته.
مستويات السلوك العدواني
لقد تناول الباحثون والمفكرون ومن مختلف مشاربهم المعرفية السلوك العدواني في عدة مستويات تمثل تطوره أو مراحل نموه، وهذا ما سيتم تحليله في ضوء السلوكيات الأموية، لذا صُنف في عدة مستويات نوردها بما يأتي(9):
المستوى الأول: التعبيرات الإجرائية
تشمل في المقام الأول السلوك الرمزي واللفظي ويتضمن (الإيماءات اللفظية السلبية، وتعبيرات الوجه والاعتداء اللفظي) الذي يُعّد الأكثر شيوعاً، فبعد انتهاء معركة الطف تعرضت عيالات الحسين وأهل بيته(عليهم السلام) إلى السبي والسفر بهم إلى الكوفة ومن ثم إلى الشام، لذا كان السفر مرهقاً وشاقاً، حيث كان السير حثيثاً تنفيذاً لرغبة السلطة اليزيدية في الوصول بأسرع وقت إلى الشام، ومراكب السفر وهي الجمال لم تتوفر لها أدنى وسائل الراحة التي اعتادها المسافرون في ذلك الزمن، والمرافقون العسكريون لقافلة السبايا كانوا جفاة صلفين في تعاملهم مع النساء والأطفال كزجر بن قيس وشمر بن ذي الجوشن، حيث يقذفون السبايا بالشتم والسب ويضربونهم بالسياط لأدنى مناسبة(10).
وبعد وصول السبايا ودخولهم الشام وحضورهم في مجلس يزيد بإجراءات بالغة الصعوبة قُصد منها إيقاع أكبر قدر من الإذلال والهوان بنفوس السبايا، لكن وقبل إدخالهم على يزيد أوقفوهم فترة على درج باب المسجد حيث مكان إيقاف سبي الكفار، وبعد ذلك دعا يزيد برأس الحسين(عليهم السلام) ووضعه أمامه في طشت من ذهب ومع يزيد قضيب فهوى ينكت به في ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المرى:
يفلقن هاماً من رجال أحبّة الينا وهم كانوا أعق وأظلما(11)
وتمادى يزيد في إظهار شماتته وفرحه وصرح بما في مكنون نفسه من أنه ينتقم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن أهل بيته حيث صار يتمثل بابيات شعر لعبد الله بن الزبعرى جاء فيها(12):
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحــاً ثم قالــوا يا يزيــد لا تشـل
قد قتلنا القرم من ساداتهم وعـدلناه ببـــــدر فاعتـدل
لعبت هـاشم بالمـلك فلا خـبر جــاء ولا وحي نــزل
لست من خندف إن لم أنتقم من بنـي أحمـد ما كـان فعل
من خلال ما تقدم يتضح أن يزيد بن معاوية مارس هذا المستوى من السلوك العدواني على أهل بيت الحسين (عليهم السلام) من خلال السب والشتم والإذلال والتشفي والشماته منهم .
المستوى الثاني: العرقلة:
وتتضمن عدة أشكال هي:
1- الإجراءات التي تعيق قدرة الشخص على أداء مهام معينة.
2- حجب أو استبعاد الموارد والسلوكيات البناءة.
3- التخريب والسلوكيات المضادة للمواطنة.
4- الفشل في التعاطي الإيجابي مع الآخرين.
ولتحليل هذا المستوى فقد كان لعامل الجوع والعطش دورٌ في إنهاك السيدة زينب وإرهاقها حيث كان الجنود يقترون على السبايا في الطعام والشراب، مما يدفع السيدة زينب للتنازل عن حصتها لسد جوع وعطش الأطفال، متحملة مضاضة الجوع والعطش، وهذا ينسجم بما لا يقبل الشك مع المستوى الثاني كونه يمثل عامل إعاقة وحجب لمستلزمات الحياة الضرورية ،وفي ذات السياق يصف الأستاذ عبد الباسط الفاخوري حالة قافلة السبايا إلى الشام بقوله: (ثم إن عبيد الله جهز الرأس الشريف وعلي بن الحسين ومن معه من حرمه بحالة تقشعر منها ومن ذكرها الأبدان، وترتعد منها مفاصل الإنسان بل فرائص الحيوان)(13).
كذلك عندما وصل السبايا إلى الشام، أتوا إليهم بحبل أوثقوهم به كتافاً وقد كانت بداية الحبل في عنق الإمام علي بن الحسين(عليهم السلام) ونهايته في عنق السيدة زينب(عليها السلام)، كما تربق الأغنام، وساقوهم بإذلال، وكلما قصروا عن المشي ضربوهم بالسياط، والسبايا يكبرون ويهللون، حتى أوقفوهم بين يدي يزيد في مجلسه وهو متربع على سريره، فالتفت إليه الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) قائلاً: (ما ظنك بجدنا رسول الله لو يرانا على مثل هذه الحالة)؟، فتأثر يزيد ولم يبق أحد في مجلسه إلا وبكى، وأمر يزيد بالحبال فقطعت(14).
المستوى الثالث: العدوان العلني
ويتضمن أعمال العنف الصريحة والعلنية مثل (الهجوم بالسلاح، الاعتداء الجسدي ضد الأشخاص والممتلكات الشخصية، السرقة).
وفي هذا المستوى نوضح المستوى الثالث من السلوك العدواني عند يزيد بن معاوية الذي قاد جيشه من خلال جلاوزته إلى كربلاء، وصنع مجزرتها الرهيبة، فذبح آل محمد وأهل بيته ومن والاهم وأخذ بنات النبي سبايا، بعد أن مَثَّل بضحاياه شرَّ تمثيل، (وروى أنه وجد في قميصه ـ قميص الإمام الحسين عليه السلام ـ مائة وبضع عشرة ما بين رمية وطعنة سهم وضربة.
وقال الصادق(عليه السلام) وجد في الحسين(عليه السلام) ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة وأخذ سراويله بحر بن كعب التيمي (لع) فروى أنه صار زمنا مقعدا من رجليه وأخذ عمامته أخنس بن مرثد بن علقمة الحضرمي وقيل جابر بن يزيد الأودي (لع) فاعتم بها فصار معتوها وأخذ نعليه الأسود بن خالد (لع) وأخذ خاتمة بجدل بن سليم الكلبي وقطع إصبعه(عليه السلام) مع الخاتم وهذا أخذه المختار فقطع يديه ورجليه وتركه يتشحط في دمه حتى هلك)(15).
وتجدر الاشارة إلى أن يزيد (ولي الحكم ثلاث سنوات، ففي السنة الأولى من حكمه قتل أولاد النبي وأحفاده وبني عمومته ومن والاهم بمذبحة كربلاء، وفي السنة الثانية، استباح المدينة، وفض جيشه ألف عذراء وقتل عشرة آلاف مسلم بيوم واحد وهو (يوم الحرَّة)، وختم أعناق الصحابة وأخذ البيعة على أنهم خول وعبيد (لأمير المؤمنين) يتصرف بهم تصرف السيد بعبيده، أما في السنة الثالثة فقد هدم الكعبة وأحرقها. وهذه أمور قد أجمعت الأمة على صحة وقوعها وتوثيقها!!!(16).
وعلى ضوء ما ورد في أعلاه يتبين لنا أن هذه المستويات توضح درجات أو مستويات قوة السلوك العدواني، ففي بادئ الأمر يأخذ العدوان طابعاً رمزياً كالإيماءات والشتم والسباب والإذلال، ثم يتطور حتى يأخذ أسلوب العرقلة ووضع العقبات كوضع القيود والأغلال والتجويع وحرمانهم الماء، وأخيراً ينحو باتجاه الأسلوب العلني والصريح كاستخدام السلاح أو الاعتداء الجسدي والمادي، إذ لم يكتف أعوان يزيد بهذا الحد بل تجاوزوا كل الأعراف والقيم فعمدوا إلى التمثيل بالجثث الطاهرة ووضع الرؤوس على الرماح والسير بها من بلد إلى بلد، لذالك يتضح أنّ يزيد بن معاوية قد تجاوز كل حدود العدوانية وتعدّاها ووصل إلى أعلى قمة في الجرائم وانعدام الإنسانية وموت الضمير بحق الحسين وأهل بيته وأصحابه الميامين(عليهم السلام) وهذا ما تجلّى بالأدلة والشواهد.
فسياسات يزيد المنحرفة، ومواقفه الفاسدة، لم تنطلق من فراغ، وإنما هي امتداد واستمرار لسلوكيات أسلافه المشركين والمنافقين، لذلك تذكره السيدة زينب بجدته (هند) أم معاوية وزوج أبي سفيان، التي قادت حملة التأليب والتحريض على قتال رسول الله(صلى الله عليه وآله) والمسلمين، وأغرت (وحشي) بقتل الحمزة بن عبد المطلب(رضي الله عنه) عم رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ثم مثّلت بجسمه وانتزعت كبده وحاولت مضغها بأسنانها، إظهاراً لحقدها البشع، وبغضها المتوحش لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وذويه،
ويزيد في اعتداءاته الأليمة على أهل البيت(عليهم السلام) لم يأت بشيء غريب، وإنما هو شر خلف لشر سلف، تقول زينب (عليها السلام): (أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول لله (صلى الله عليه وآله) سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف ليس معهن من رجالهن ولى ولا من حماتهن حمى وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ونبت لحمه من دماء الشهداء وكيف يستبطأ في بغضاء أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنان والإحن والأضغان …. وتهتف بأشياخك، وزعمت إنك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم ولتودن إنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت)(17).
نشرت في العدد 66
————————————————————-