تمتد الحياة – في الفكر الإسلامي – في الزمان، فترة الحياة الدنيا- هذه الفترة المشهودة – وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها إلّا الله، والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار، وتمتد في المكان، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر دارًا أخرى، جنة عرضها كعرض السماوات والأرض ونارًا تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض، وتمتد في العوالم، فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مُغيب لا يعلم حقيقته إلّا الله.
لا فناء .. بل انتقال
لذا فإن الإنسان لا يطرأ عليه الفناء، إنما هي أطوار يمر بها، فما من إنسان يُخْلَق في النشأة الأولى إلاّ ويكتب له البقاء والنشأة بعد النشأة، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): (…أيها الناس، إنا خُلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء، ولكنكم من دار إلى دار تنقلون…)(1)،
فيدخل الإنسان إلى الحياة الدنيا بالولادة، ويخرج منها بالموت، ولا يعني الموت في أصل وجود الإنسان إنما هو ختامًا للمطاف في هذا العالم.
وبموت الإنسان فإنه إما يتمتع بالنعيم أو يقاسي آلام الجحيم، بحياة أخرى مؤقتة ومحدودة وهي العالم الفاصل بين الحياة الدنيا والحياة الاخرة، الذي يُعد الرابطة بينهما، ويبدأ هذا العالم الأوسط، وتجري فيه محاسبة خاصة، لما كان يعمله ذلك الانسان في الحياة الدنيا، فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر، لينال الجزاء بالثواب أو العقاب ولا سيما الحسيَّيّن، فإنّه وإن مات البدن إلاّ أنّ الروح حية باقية حسّاسة مشعرة تحسّ اللذّات والآلام، والمُعتقد الصحيح هو بقاء الأرواح،
والأحاديث الواردة فيه من طرق المسلمين عامّة متواترة في هذا المضمون، فالإنسان بموته ينتقل إلى تلك النشأة المتوسطة بين النشأتين التي تدعى بـ(البرزخ) ويكون على تلك الحال حتى قيام الساعة، لذا فإنّ (عذاب البرزخ وثوابه ممّا اتّفقت عليه الاُمّة سلفًا وخلفًا وقال به أكثر أهل الملل، ولم ينكره من المسلمين إلّا شرذمة قليلة لا عبرة بهم، وقد انعقد الإجماع على خلافهم سابقًا ولاحقًا)(2)،
فالكتاب والسنّة والإجماع؛ كلّها دالّة على عالم البرزخ، والبرزخ في اللغة: هو الحاجز بين الشيئين كما ذكر الراغب الاصفهاني (ت502هـ) في المفردات(3): أن البرزخ هو الحاجز والحدّ بين الشيئين، ومنه قوله تعالى: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ)(الرحمن:20)، والبرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ(4).
الترهيب الحسّي في البرزخ
إن الانسان الكافر يُعذب عند استلال روحه، لتكون مقدمة لعذاب القبر، وهو المنزل الأول في دار الآخرة، فالترهيب الحسّي الحاصل في القبر عَبَّر عنه القرآن الكريم بـ(المعيشة الضنك) التي يتوعد الله عزوجل بها من أعرض عن ذكره، كما في قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(طه: 124)، فقد فُسرت بعذاب القبر،
عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وأنه يضيق عليه قبره، ويحصر فيه ويعذب، جزاء لإعراضه عن ذكر ربه، وهذه إحدى الآيات الدالة على عذاب القبر(5)، والضنك عذاب القبر وشقاء الحياة البرزخية، بناءً على أن كثيرًا من المعرضين عن ذكر الله ربما نالوا من المعيشة أوسعها وألقت إليهم أمور الدنيا بأزمتها فهم في عيشة وسيعة سعيدة، فعذاب القبر من مصاديق المعيشة الضنك بناء على كون قوله: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) متعرضًا لبيان حالهم في الدنيا، وقوله: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) لبيان حالهم في الآخرة والبرزخ من أذناب الدنيا (6).
عذاب القبر
كما ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، بعض تفاصيل القبر مُبيّناً ما جاء به القرآن الكريم، وما ذكره لما يجري من ترغيب وترهيب حسي، كاتساع القبر حتى يكون روضة من رياض الجنة، أو ضيقه وظلمته الموحشة، ليكون حفرة من حفر النار، التي تكون المعيشة فيها معيشة ضنكا، وكيفية تعامل الأرض مع الإنسان إن كان مؤمنًا أو كافرًا، فنجد فيما كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد بن أبي بكر:
(يا عباد الله ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشد من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته، إن القبر يقول كل يوم: أنا بيت الغربة، أنا بيت التراب، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود والهوام، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وإن الكافر إذا دفن قالت له الأرض: لا مرحبًا بك ولا أهلًا، لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري، فإذا وليتك فستعلم كيف صنيعي بك، فتضمه حتى تلتقي أضلاعه، وإن المعيشة الضنك التي حذر الله منها عدوه عذاب القبر، إنه يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعين تنينًا فينهشن لحمه، ويكسرن عظمه، يترددن عليه كذلك إلى يوم يبعث، لو أن تنينًا منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعًا، يا عباد الله إن أنفسكم الضعيفة وأجسادكم الناعمة الرقيقة التي يكفيها اليسير تضعف عن هذا، فإن استطعتم أن تجزعوا لأجسادكم وأنفسكم بما لا طاقة لكم به ولا صبر لكم عليه، فاعملوا بما أحب الله واتركوا ما كره الله)(7).