أحد وجوه الإعجاز القرآني وأشهرها، وهو إخبار القرآن الكريم عن الأمور الغيبية التي لا يمكن الاطلاع عليها وتستحيل العقول عن التنبؤ بها، كما لا يمكن كشفها بالفكر والحسابات المادية.
وقد عدّ العلماء الإعجاز الغيبي أحد أهم وجوه الإعجاز، فأطالوا الحديث عنه، وممن بحث في هذا الأمر:
1) الخطابي (388هـ)(1).
2) الرماني (386هـ)(2).
3) الباقلاني (403هـ).
يقول الباقلاني في الإعجاز الغيبي: (وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه، فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه (عليه السلام) أنه سيُظهر دينه على الأديان بقوله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(التوبة:33)، ففعل ذلك)(3).
4) الطوسي (460هـ).
يقول الشيخ الطوسي في وجه الإعجاز الغيبي: (فإن قال قائل: من أي وجه تضمن الإعجاز؟ قيل له: من جهة الإخبار بما يكون في مستقبل الأوقات مما لا سبيل إلى علمه إلّا بوحي الله إلى من يشاء من العباد، فوافق المخبر بما تقدم به الخبر، وفي ذلك أكبر الفائدة وأوضح الدلالة)(4).
5) الطبرسي (548هـ):
يقول الشيخ الطبرسي عند تفسيره لقوله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)(الروم:2ـ 4)، (وهذه من الآيات الدالة على أن القرآن من عند الله عز وجل؛ لأن فيه أنباء ما سيكون، وما يعلم ذلك إلاّ الله عز وجل)(5).
6) قطب الدين الراوندي (573هـ)(6).
7) محمد القرطبي (671هـ)(7).
8) مجد الدين الفيروز آبادي (817هـ)(8).
9) الزركشي (794 هـ).
يقول الزركشي في وجه الإعجاز الغيبي: أي الإخبار عن الغيوب المستقبلية، فلم يكن من شأن الأشخاص العاديين أن يذكروا هكذا أخبار عن الغيب، كآية الروم: (غُلِبَتِ الرُّومُ …)، التي تحققت فعلاً فيما بعد(9).
إلّا أن الزركشي لا يعده كافياً في إعجاز القرآن؛ لأن هكذا إعجاز لا عمومية له، بل له ارتباط بآيات خاصة فقط(10).
10) جلال الدين السيوطي (911هـ)(11).
11) محمد جواد البلاغي (1352هـ)(12).
12) السيد محمد حسين الطباطبائي (1405هـ)(13).
13) السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي(14).
من وجوه الإعجاز عند السيد الخوئي، هو التنبؤ بالغيب، والذي ثبتت صحته فيما بعد، وهي أخبار لا يمكن للبشر الحصول عليها إلّا عن طريق الوحي والنبوة، يقول تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ)(الانفال: 7)، فقد وقعت معركة بدر خلافاً لرغبة المسلمين، فانتصروا انتصارًا كبيرًا، فهذه الآية تتحدّث عن هذه المعركة عندما وعد الله المؤمنين بالنصر مع قلة عددهم(15).
نماذج من إعجاز القرآن عن المغيّبات:
ذكر القرآن الكريم في موارد متعددة أخبارًا غيبية بعضها مرتبط بالحوادث الماضية، وبعضها مرتبط بزمان نزول النص القرآني، وبيان حال الأفراد، والبعض الآخر يخبر عن المستقبل، وكما يلي:
أولاً: الإخبار عن الأحداث الماضية:
ونقصد به إنباء القرآن عن أخبار الماضين وقصص السابقين، كقصة آدم (عليه السلام)، وقصة نوح (عليه السلام)، وقصة إبراهيم (عليه السلام) وغيرهم من الأنبياء (عليهم السلام).
وذكر تلك القصص يدل على أن القرآن كلام الله وليس كلام رسوله محمد (صلى الله عليه وآله).
فذكر القرآن الكريم قصّة آدم أبي البشر وخروجه من الجنّة، وقصّة ابنَي آدم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(المائدة:27)، وكيف سَوّلت لقابيل نفسُه قَتْلَ أخيه هابيل، وقصّة النبي نوح (عليه السلام) وطوفانه، وهود (عليه السلام) وقومه عاد، وصالح (عليه السلام) وقومه ثمود، وقَتْلهم الناقة التي أكرمهم الله تعالى بها، وإبراهيم (عليه السلام) وقصّة بنائه الكعبة، وإسماعيل (عليه السلام) وتسليمه لأمر الله تعالى، ولوط (عليه السلام) وقومه بالمؤتَفِكات، وذي القَرنَين وفتوحاته، ويعقوب(عليه السلام) وصبره، ويوسُف(عليه السلام) واستقامته، وأيّوب (عليه السلام)وابتلائه، وموسى وهارون(عليه السلام) وتيه بني إسرائيل، ومريم وعيسى(عليه السلام) والحواريين(16).
وكان القرآن الكريم كثيرًا ما ينفي معرفة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الشخصية بتلك الحوادث، بل ينسبها إلى الله تعالى، قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا)(القصص:45)، و (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(القصص:44)، و (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(القصص:46)، و (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ )(آل عمران:44).
وتخطّى القرآنُ في إعجازه الإخبار المحض الذي أذعن له أهلُ الكتاب إلى بيان التحريف الذي وقع في التوراة والإنجيل، وتحدّى أهل الكتاب أن يكذّبوه إن استطاعوا، فقال في سورة مريم: (ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) (مريم:34)، ثمّ تحدّى الجاحدين ـ على لسان نبيّه ـ بالمُباهلة، فنكصوا ولم يُباهلوا، وصالحوا رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) على أن يدفعوا له الجِزية(17).
ويدخل في الإعجاز الغيبي، كل ما أخبر عنه القرآن الكريم من حوادث ماضية لم يشهدها النبي (صلى الله عليه وآله)، وكذا ما تحدث عنه القرآن منذ نشأة الكون، وما وقع منذ خلق آدم (عليه السلام) إلى مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثانياً: الإخبار عن الحاضر:
ويراد به إخبار القرآن عن عوالم الغيب الموجودة وقت نزوله، وهي على قسمين:
الأول:
كلام القرآن عن عوالم الغيب الموجودة والتي لم يرها الناس بأبصارهم ولم يتعاطوا معها بحواسهم، الحديث عن أسماء الله وصفاته وأفعاله، والحديث عن الملائكة والجن، ومشاهد الاحتضار والموت، والبعث والنشور والحساب، والجنة والنار وغيرها.
الثاني:
كشف القرآن لأسرار ومكائد المنافقين الذين كانوا يكيدون في الخفاء للإسلام وأهله، وينسجون المؤامرات للقضاء عليه، فكانت الآيات القرآنية تكشف مكائدهم وتُظهر ما يبطنون من النفاق والمكر، ومن ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة:107ـ110)،
فنزلت في مجموعة من المنافقين قاموا ببناء مسجد في المدينة المنورة للوصول إلى أهدافهم الخبيثة والباطلة، والذي سميَ فيما بعد بـ (مسجد ضرار)، فقد أشارت الآية إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله) بنوايا المنافقين، فما كان من النبي (صلى الله عليه وآله)إلّا أن أمر بهدم المسجد، وهكذا سقطت أقنعة النفاق(18).
ومن ذلك أيضًا ما جاء في قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله)(المجادلة:8)، فالآية تشير إلى أحد الدسائس اليهودية، فقد تآمروا واتفقوا أن يسلموا على النبي (صلى الله عليه وآله) بتحية خبيثة خلاف المعهود، فكانوا يقولون (السّام عليك)، أي الموت لك فأطلع الله رسوله على ذلك فكشفت أستارهم(19)، ومن ذلك أيضًا ما أخبر به الله تعالى نبيه الكريم في قوم تآمروا على اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) في طريق عودته من تبوك، فكشف القرآن الكريم خبث نواياهم وحقدهم الدفين على الرسول (صلى الله عليه وآله)(20).
ثالثًا: الإخبار عن المستقبل:
لم يكتفِ القرآن الكريم بإخبار الرسول (صلى الله عليه وآله) بقصص الأنبياء السالفين الذين لم يشهد زمانهم، حين قصّ عليه قصصهم، بل أخبر القرآن الكريم عن كثير من الوقائع قبل وقوعها، وتمت كما ذكر، وبالكيفية التي وضحها.
ومن المعلوم أن علم الحوادث والوقائع في مستقبل الأيام لا يعلمه إلّا الله، وقد أعلن الرسول(صلى الله عليه وآله) أنه لا يعلم شيئًا من الغيب علمًا ذاتيًا، ولكنه يعلم الغيب الذي يعلمه الله إياه، قال تعالى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(الأعراف: 188)، ومع هذه الحقيقة فقد ورد في القرآن الكريم آيات صريحة تتحدث عن أخبار مستقبلية(21).
ونجد القرآن الكريم تحدّث عن المستقبل بعدة مراحل، وهي(22):
المرحلة المعاصرة:
والغرض منها إثبات أن القرآن قطعي الصدور من عند الله تعالى، ولتطمئن به قلوب المؤمنين وتهتدي به نفوس المشركين لكي يعلموا أنه الحق من عند الله تعالى.
المرحلة المستقبلية البعيدة:
لكي يعرف كلّ عصر من العصور التي ستأتي أنّ هذا هو كتاب الله الحقّ.
وإذا كان الحديث عمّا سيحدث بعد مئات السنين وآلافها، فإنّ من الواضح أنّه فوق طاقة البشر المحدودة، ومما يدل على وجه الإعجاز فيها: أنها وقعت كما أخبر عنها القرآن، فمن ذلك:
1) إخبار القرآن عن مستقبل الإسلام:
حيث جزمت آيات قرآنية بانتصار الإسلام والتمكين له، وكان ذلك في آيات نزلت في مكة حال ضعف الإسلام والمسلمين، ثم تحققت وعود تلك الآيات، ومن ذلك: قوله تعالى: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)(القمر:43ـ45)، أراد بالجمع: قريش، وجزم بأنهم سوف يهزمون عند مواجهة المسلمين، وقد كان ذلك في غزوة بدر(23) .