روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) قوله: (لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَفِي قَلْبِه نُورَانِ نُورُ خِيفَةٍ ونُورُ رَجَاءٍ)(1).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً)(2).
من الأمور التي جعلها الله في القلب الخوف والرجاء، وهي التي تعين قلب الإنسان المؤمن على الاستقامة والبقاء على الإيمان إلى آخر عمره ولا يمكن النجاة إلّا بهما. ويمكن أن يصل الإنسان إلى مرتبة الكمال بهما، لأن الإنسان المؤمن لا يجوز له اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، ولا الأمن من مكر الله مطلقًا، وهذان النوران اللذان جعلهما الله في قلب المؤمن بهما يصلح الإنسان نفسه ومجتمعه.
أولًا: الحاجة إلى الخوف
جعل الله تعالى الخوف في قلب الإنسان بدرجات حسب حالات العباد ومراتب معرفتهم، فخوف العامة يكون من العذاب، وخوف الخاصة يكون من العتاب، وخوف أخص الخاصة يكون من الاحتجاب.
1ـ الخوف من التقصير في العبادة
إذ لا أحد من المخلوقات قادر على عبادة الحق تعالى حق عبادته، فالعبادة هي الثناء على مقام ذات الله المقدسة، وثناء كل شخص فرع معرفته، فإذا كان لا يعرفه لا يستطيع الثناء عليه وعبادته. ولما كانت يد أرجاء العباد في الحقيقة قاصرة عن معرفة ذاته المقدسة فهم ليسوا قادرين بالثناء على جماله وجلاله، وقد اعترف بذلك أشرف الخلائق وأعرف الكائنات بمقام الربوبية نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله): (ما عبدناك حق عبادتك، وما عرفناك حق معرفتك)(3)،
إذًا فالقصور الذاتي من حق الممكن، والعلو الذاتي خاص بذات كبرياء الله جل جلاله، ولما كان العباد قاصرين عن الثناء على الله تعالى وعن عبادة ذاته المقدسة ومن دون معرفة الحق سبحانه وعبوديته، لا يمكن لأحد من عباده أن يبلغ المقامات الكمالية والمدارج الأخروية، كما هو ثابت ومبرهن عليه عند علماء الآخرة في محله، ولكن العامة غافلون عن ذلك ويحسبون المدارج الأخروية جزافًا أو شبيهة بالجزاف،
وقد فتح باب من الرحمة الواسعة والرعاية بالعباد عن طريق تعليمات الوحي الغيبية والإلهام وبوساطة الملائكة والأنبياء وهو باب العبادة والمعرفة فعلم العباد طرق عبادته، وفتح لهم سبيلًا إلى المعارف لكي يخففوا من نقائصهم قدر الإمكان ويسعوا لنيل الكمالات الممكنة ويهتدوا بأشعة نور العبودية للوصول إلى عالم كرامة الحق وإلى الروح والريحان وجنات النعيم بل إلى رضوان الله الأكبر.
إذًا، ففتح باب العبادة والعبودية من النعم الكبرى التي تدين لها الكائنات كافة دون أن تستطيع الوفاء بحق الشكر، بل إن كل شكر هو فتح باب كرامة لا تقدر على شكره أيضًا)(4).
الإنسان المومن إذا عرف نعمة الله عليه فهو يشعر بالخوف والتقصير، لأنه حتى لو جاء بعبادة الثقلين يشعر بأنه لم يؤد حق الله تعالى، لأنه هو المنعم.
وحتى الإنسان الزاهد فإنه يزهد من أجل الآخرة والحصول على النعيم الأبدي فلابد للإنسان من الخوف من أن تكون عبادته وصلاته وصومه فيها نقص وعوز ولا يتبجح بعبادته، وأنه سوف يحصل على الجنة فيقع في العجب أو الرياء أو استكثار العمل، (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(النجم:32).
فالإنسان المؤمن لابد أن يكون في خوف مستمر إلّا أن يطمئن بعاقبته وهذا لا يحصل إلّا في اللحظة التي ينزل عليه ملك الموت، ويرى بعينه الملكوتية عاقبة أمره هل هو من أهل الجنة فيطمئن بها، أما قبل هذه اللحظة فلابد أن يعيش الخوف من عمر لم يعرف ما يحدث فيه من أمور وقضايا ومشاكل قد توقعه في الذنوب والآثام فهو لا يأمن من الذنب أبدًا، وهو يحمل هذه النفس الأمارة بالسوء، ومادام في هذه الدنيا فهو معرض للخطر، ولعدو يغويه ويحاول إيقاعه في الذنب ولا ينجيه إلّا الخوف لأنه لا أمان له في هذه الحياة.
وقد جاء في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم قاعد إذ نزل جبرئيل (عليه السلام) وهو كئيب حزين متغير اللون، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): مالي أراك كئيبًا حزينًا؟ قال: يا محمد وكيف لا أكون كذلك وإنما وضعت منافيخ جهنم اليوم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وما منافيخ جهنم يا جبرئيل؟ قال إن الله تبارك وتعالى أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام، حتى اسودت وهي سوداء مظلمة، فلو أن حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعًا وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرِّها ولو أن قطرة من الزقوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهل الدنيا من نتنها، قال: فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبكى جبرئيل (عليه السلام) فبعث الله إليهما ملكا فقال: إن ربكما يُقرؤكما السلام ويقول لكما إني قد آمنتكما من أن تذنبا ذنبًا أعذبكما عليه)(6).
إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جاء ملك يخبره بأنه لم يرتكب ذنبًا، ومع ذلك كان يعبد الله ويطيعه، فعلى الإنسان المؤمن لا يكون له أمان في هذه الدنيا، لأنه لم ينزل عليه جبرئيل (عليه السلام) أو ملك مقرب يخبره أنه لا يرتكب الذنب، فعليه الخوف والحذر في هذه الدنيا.
2- الخوف من عذاب الآخرة
على الإنسان أن يخاف من شدة بأس الله تعالى وفي دقة سلوك طريق الآخرة والأخطار التي تحيط بالإنسان في حياته وعند موته ومشقات الحساب والميزان، والتي تجعله يترك هذه الدنيا ويفكر بالآخرة فيعمل لها.
لابد للإنسان المؤمن أن يحذر الشيطان الرجيم، لأنه عدو ينافسه على عمره يريد منه أن يقضيه في ارتكاب المعاصي والذنوب، وأن يخرج من الدنيا وهو عاص وقد ملأ قلبه بالذنوب، وأن لا يموت على الإيمان والعمل الصالح، وهذا العدو غير واضح فهو يوسوس للإنسان وينتهز الفرص من المشكلات التي يقع فيها الإنسان فيهاجمه وينتقم منه ويوقعه بالحرام،
هذا الشيطان اللعين الذي لا يرحم الإنسان وأقسم أن يدخله النار، ومما يزيد الخوف أن هذا العدو لا يرى بالعين لأنه من الجن، والجن من جنس غير جنس الإنسان فهو مخلوق من النار وقد حذر الله سبحانه تعالى من الشيطان، فقال في كتابه العزيز الحكيم: (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)(الأعراف :27).
فالإنسان المؤمن لابد أن يكون في قلبه رجاء الله سبحانه تعالى، وهو الذي يدعو الإنسان إلى العمل الصالح وعدم اليأس من رحمة الله سبحانه، فإن اليأس من أشد الذنوب التي يقع فيها الإنسان إذا كان خائفًا غير راجٍ.
على الإنسان أن يحذر من الغرور والعجب بالأعمال من دون أن يدري، عليه أن ينظر إلى قلبه ونفسه هل هي في بذل الجهد وأداء العبودية لله تعالى والجِدّ في الطاعة والعبادة؟ لم يكن معتمدًا على أعماله ولم يحسب لها حسابًا؟ وكان أمله برحمة الله وفضله وعطائه، فعندئذ يكون من أهل الرجاء، فليحمد الله على هذه النعمة.
ففي الكافي الشريف بإسناده عن ابن أبي نجران عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لَه قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي ويَقُولُونَ نَرْجُو فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ الْمَوْتُ. فَقَالَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يَتَرَجَّحُونَ فِي الأَمَانِيِّ كَذَبُوا لَيْسُوا بِرَاجِينَ إِنَّ مَنْ رَجَا شَيْئاً طَلَبَه ومَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْه)(10).
الإنسان الذي يرجو رحمة ربه عليه أن يطلب هذه الرحمة، ولا يتهاون في طلبها، وأنه عليه أن يسعى مادام في هذه الدنيا، للحصول على الرحمة الإلهية من خلال طلب التوفيق الإلهي بكل وسائله وطرقه، فإن الراجي يبحث عن كل ما يرضي الله ولوكان قليلًا، وأما العاصي فإنه ليس راجيًا، وإنما وقع في حبائل الشيطان الذي يجعله يرتكب المعاصي والذنوب مبررًا ذلك برجاء رحمة الله الواسعة، وقد يموت في أي لحظة على المعاصي، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً ولَا يَكُونُ خَائِفاً رَاجِياً حَتَّى يَكُونَ عَامِلاً لِمَا يَخَافُ ويَرْجُو)(11).
ثالثًا: التعادل بين الخوف والرجاء
لابد من التعادل في الخوف والرجاء، وعدم تفوق أحدهما على الآخر، لأن الخوف الشديد من غير رجاء يؤدي إلى اليأس من الله سبحانه وتعالى، وهو من أشد الذنوب على الإنسان، وأما الرجاء من دون خوف وحذر يؤدي إلى الغرور، فلابد في قلب الإنسان المؤمن الخوف والرجاء. (فالتقوى هي حصيلة اجتماع الخوف والرجاء الشديدين المتوازنين في قلب المؤمن، والعمل الدائب لخوفه ورجائه، والحفاظ عليهما حتى تكون ملكة ثابتة في نفسه)(12).
فلابد من التعادل، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في وصية لقمان لابنه: (خف الله خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا)(13).
ولعل الخوف في بعض الأحيان أنفع للإنسان، مثل أيام الصحة والعافية حتى يجهد نفسه في كسب الكمال والعمل الصالح، وفي بعض الأحيان الرجاء أفضل، مثل ظهور أيام علامات الموت، حتى يلاقي الإنسان الحق المتعال مع حال مفضلة أكثر عنده.